نحو سنة من الإدارة بدون أحزاب (4)
"أعندكم نبأ عن أهل أندلس". كان هناك عبد الرحمن الناصر في قصر الزهراء. و كانت قرطبة و أشبيليةو بلنسية، مراكز الحضارة و الثقافة، التي تنافس بغداد العباسيين و قاهرة المعز و حلب بني حمدان. ثم فرض التاريخقانونه الذي لخصه أبو البقاء الرندي في قوله :
أتى على الكل أمر لا مرد لهحتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
و صار ما كان من ملك و من ملك كما حكى عن خيال الطيف وسنان
تلك لحظة النهاية، لكن الأندلس عرفت محطات مهدت لذلك المصير، من أبرزها حقبة ملوك الطوائف، التي يقول عنها "إبن رشيق" :
مما يزهدني في ارض أندلس أسماء مقتدر فيها و معتضد
ألقاب مملكة في غير موضعهاكالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
أما "نبأ المعارضة في شنقيط" فليس عندكم، لأن أهلها يرفضون أن يكون لهم تاريخ يعرف تحولات. كثيرا ما سمعت في أوساط المعارضة انتقاد الموريتانيين بكونهم شعبا بلا ذاكرة، أو أن ذاكرته قصيرة، لكن الوصف يصدق بقوة على هؤلاء المعارضين. ليست لهم ذاكرة. و الجيل الجديد منهم يرى في نفسه "كولومبس" "قارة النضال"، و "الفاتح" الذي لم تطأ قدم مناضل قبله "جزيرة الثورة"، و لم يخط قبله سطر و لا بيان في الإيديولوجية النضالية التقدمية، و لم يعذب أو يسجن قبله أحد في سبيل المثل الثورية.
"في البدء كان الكادحون". و لسنا بحاجة إلى تذكيركم بالتضحيات العظيمة ل"ملوك ذلك العصر الذهبي". لقد كانت حركة الكادحين تيارا يجمع الموريتانيين حول مطالب استكمال الاستقلال. كانت بالأساس حركة مطلبية لا حزبا يسعى إلى السلطة. لهذا قلت عنهم في كتابي "حديث القلب و العقل في رئاسيات 2019" - المنشور الكترونيا على الانترنت - في الصفحة 28 في نهاية الفقرة المعنونة ب "سميدع و بدر الدين في ربيع الكادحين" : "بالنهاية تعاطت حكومة المختار مع مشروع الكادحين، و ما كان لها إلا أن تفعل، فالمشروعان يلتقيان و يتكاملان ... و حالة التقاطع ... هي التي قادت ... إلى النهاية السعيدة عام 1974 عندما أعلن المختار تأميم ميفرما ... و اعتماد العملة الوطنية و إصلاح التعليم بترسيم العربية و كتابة اللغات الوطنية، و إخلاء السجون من معتقلي الرأي، و توزيع الأراضي على سكان أحياء الصفيح و المخيمات ... و هذا الاندماج التاريخي بين الكادحين و حزب الشعب كان تعبيرا عن حالة استثنائية نموذجية من اللقاء بين السلطة و المعارضة الوطنية".
بعدها ولدت تنظيمات سياسية سرية ظلت نشطة طيلة سنوات الجمر، في سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي. و تعرضت الأكثرية من مناضلي الحركة الوطنية الديمقراطية و الناصريين و البعثيين و الإسلاميين و القوميين الزنوج و حركة الحر للسجن و التعذيب، و سقط منهم شهداء.
و عندما أعلنت التعددية السياسية تكتلت جميع قوى المعارضة في حزب إتحاد قوى الديمقراطية، و توحدت خاف ترشيح ولد داداه عام 1992. كانت حقبة مميزة في تاريخ المعارضة،ظلت فيها وفية لمطالب تعزيز الديمقراطية و الشفافية الانتخابية و تصفية المظالم الإنسانية و مخلفات العبودية. و رغم أن المعارضة هزمت انتخابيا في معظم الحالات بفعل التزوير فإنها عوضت خسائرها بانتصار دائم على صعيد المصداقية و القيمة المعنوية أمام الجماهير. كانت معارضة جدية ملتزمة، لا مجرد تمثيلية للحظوة بالتمويل المخصص لمؤسسةالمعارضة و أحزابها.
2005 كان أحد المواعيد التاريخية للمصالحة بين حملة المطالب المشروعة والممسكين بزمام السلطة. لقد حمل خطاب الانقلابيين نفس أفكار و مطالب المعارضة. و تمت إدارة ذلك التنسيق بهدوء خلال الفترة الانتقالية، من طرف حكومة كفاءات وطنية قادها سيد محمد ولد بوبكر، أبرز مرشحي المعارضة في الانتخابات الماضية. و تميزت تلك الفترة بالحوار الوطني الشامل الذي قاد إلى الإصلاح الدستوري الذي حدد مأموريات الرئيس. و تميزت فترة ولد الشيخ عبد الله بالتنسيق بين السلطة و المعارضة، و كانت حكومة الزين ولد زيدان حكومة تكنوقراط قطعت أشواطا معتبرة على طريق تهدئة الجو السياسي و تحييد الإدارة العمومية عن التجاذبات السياسية.
بعدها فتحت المعارضة الموريتانية صفحة ذهبية من تاريخها مع نضال الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية، التي تعززت فيما بعد بتكتل القوى الديمقراطية. لكن المعارضة أصيبت منذ "اتفاق داكار" بمرض البحث عن المكاسب الشخصية و منازلة النظام في سياق مواجهةشخصية معه. لهذا كان تحالف ولد بو الخير مع النظام - قبل تجاوزه السن القانونية للترشح للرئاسة - و تحالف ولد داداه مع الانقلابيين في مرحلة معينة - قبل تجازه هو الآخر السن القانونية للترشح - عوامل أفقدت المعارضة مصداقيتها الأخلاقية، في وقت كانت قد فقدت فيه قدرة قياداتها التاريخية على الترشح.، مضافا إلى ذلك أن هزيمتها في دورتيرئاسيات 2007 و 2009 كانت هزائم انتخابية يصعب التشكيك فيها.
هنا دخلنا "عصر ملوك الطوائف"، و عصر عدم الورع و التنزه عن استغلال الشعارات المناقضة للمطالب الوطنية التاريخية للمعارضة. و هذا ما انعكس في الانتخاباتالأخيرة، عندما لم تجد القوى الوطنية الحاملة للمشروع التاريخي للمعارضة الديمقراطية و الجمهورية بالتحالف مع مابقي بحوزة ولد داداه من التكتل سوى علىأقل من3 %، بينما حصد الإسلاميون بالتحالف مع جناح من القوميين العرب من جهة و القوى الحاملة للخطابات العنصرية و الفئوية من جهة أخرى على أزيد من 40 %.
أحترم لكل تقويمه، لكن رأيي أنا، أن هذه المعارضة التي أفرزتها صناديق الاقتراع في الانتخابات الماضية، ليست معارضة حقيقية و إنما هي قوى استغلت عنوان المعارضة، تماما كما استغل حاجب آخر ملوك الأمويين بالأندلس موقع الحاجب ليجلس مكان الملك. أضف إلى ذلك إلى أن خطاب هذه المعارضة يسوده إنحرافان خطيران.الأولالشخصنة حيث يكون موضوع الخطاب معارضة شخص ولد عبد العزيز لقيادة شخص بعينه إلى السلطة. و الثاني استحلال ركوب موجة العصبيات العرقية و الفئوية بما في ذلك من تهديد للوحدة الوطنية و للنظام الجمهوري.
بكلمة واحدة : تغير كل شيء. الزعماء التاريخيون للمعارضة همشوا و يرمون بالحجارة، و مواقعهم أصبحت لقادة الطوائف و الفئات.
هذه المرة لا نطالب باندماج المعارضة في "حزب الشعب" كما حدث عام 1974، و إنما بمرحلة انتقالية من سنة أو سنتينمن التوافق في ظل حكومة كفاءات وطنية غيرحزبية. و هي فترة تقوم خلالهما المعارضة بإعادة بناء البيت الداخلي لأحزابها، و من بينها تواصل و إتحاد قوى التقدم الذين تعصف بهما أزمات داخلية قوية، كما تتيح القيام بالمراجعات الكفيلة بمعالجةالانحراف الخطير نحو الدعايات العنصرية و الفئوية، الذي رأيناه عند أحزاب و مرشحين معارضين.
نواكشوط 6 أغسطس 2019
يتواصل يوميا