لقد تم أخيرا الإفراج عن أول حكومة في عهد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني. عهد نتطلع أن يكون عهد نماء و ازدهار لهذا البلد. هذا البلد الذي تخبط كثيرا في وحل الفقر و الجهل حتى فقد كل أمل في عيش كريم و ترسخت عند أهله قناعة بأن هذا قضاء الله فيهم و قدره. هذا البلد الذي يعج بالخيرات و الطاقات و يفتقر إلى نخبة قادرة على تغليب مصالح الأمة على مصالحها الضيقة، نخبة تؤمن بإمكانية تجاوز هذه المرحلة و الرسو بنا على مرافئ الإزدهار و التطور و العيش الكريم.
هنا أقول لهم أنتم على موعد مع التاريخ و لكم الخيار في أن تسجلوا اسماءكم بأحرف من ذهب فيه و لا أشك في مؤهلاتكم لتحقيق ذلك أو أن تكونوا مجرد حكومة تكمل قائمة الحكومات التي حققت ما حققت و أخفقت فيما أخفقت و لا يمكن لاثنين الاتفاق على أدائها و لا على إنجازاتها. إنها فرصة لكم و لموريتانيا عموما كي تلِجوا بها بوابة التاريخ و توصلوها إلى ما عجزت عنه منذ الأزل.
عليكم أولا أن تدركوا أن العدل هو الأساس و أن الأمر لا يستقيم إلا به و أن الصرامة في تطبيق النصوص و المحاسبة على غير ذلك هي الضامن الوحيد لتحقيق تلك العدالة و ذلك الإجماع.
لقد قدم الرئيس برنامجا واقعيا يضمن الحد الأدنى من التطور و التقدم لكننا بالإيمان و العزيمة قادرون على إحداث نهضة شاملة و ثورة يمكن أن تكون حالة فريدة و نموذجا كالذي حدث في روندا و إثيوبيا فكل العوامل متوفرة لذلك.
لقد قدم في برنامجه رؤية واضحة للتعليم و الصحة و هي رؤية جيدة إجمالا و خاض في كل المجالات الحيوية الهامة بشكل مرضي إلى حد بعيد. لكنه في المقابل لم يتطرق بالقدر الكافي لأهم وسيلة لتحقيق النهضة المنشودة و إحداث الثورة المرجوة و أعني هنا مكافحة الفساد التي يمكن لها وحدها أن تحقق المبتغى و كفيلة لذاتها بتصحيح كل الاختلالات الملاحظة في المجالات الأخرى.
و عندما أتحدث هنا عن مكافحة الفساد فإنني لا أتحدث عن إجراءات صادمة تحيل كل المسؤولين إلى سجون قد لا تمكننا من استرجاع المفقود و لا من تصحيح المشوب بل أعني إحداث منظومة قادرة على حشر المفسدين في زاوية ضيقة و حرمانهم من أية وسيلة تمكنهم من مواصلة عرقلة سير عجلة التطور و تحييدهم كي لا يشوشوا على النهضة الشاملة التي نتمنى أن تكون على يديه اليوم لا حتمية تفرضها عوامل أخرى و بأساليب قد لا تكون بالهدوء الذي نرجوه جميعا.
و لكي أكون أكثر دقة و وضوحا أنبه هنا أن أهم وسيلة يمكن من خلالها تحقيق ذلك المبتغي هي الشفافية و الشفافية المطلقة. فإذا استوعبنا أن الشأن العام يعني الجميع سَهُل تصور هذه المنظومة.
فماذا يمنع مثلا استحداث بوابة الكترونية يمكن من خلالها وصول المواطن العادي إلى كل المعلومات المتعلقة بالشأن العام و مواكبة جميع مراحل الصرف العام و الاكتتاب و التدرج الإداري و غيرها من قضايا تسيير الدولة ؟
و ما الضير في إطلاع العامة على مراحل إسداء الصفقات العمومية و تمكينهم من معرفة المتحصلين عليها و معرفة أصحاب الشركات المعنية و مؤهلاتها و الظروف التي تحصلوا فيها عليها و دفتر التزاماتهم ؟
ما الذي يمنع إجبار الشركات الخاصة و خاصة البنوك و شركات التأمين نشر بياناتهم المالية و المحاسبية ؟
باختصار ما الذي يمنع المواطن من الاضطلاع على شأنه و الوقوف على كيفية تسيير ممتلكاته ؟
إننا بذلك سننشئ أهم آلية رادعة ستجعل الكل يفكر كثيرا قبل الإقدام على ما من شأنه أن يضعهم محل الشبهة و سيسجل التاريخ لنا ذلك.
و لكي يكتمل النظام يتعين تفعيل هيئات الرقابة و خلق آلية تنسيق بينها و تمكينها من إمكانية استخدام المعلومات المتاحة لدى باقي الإدارات العمومية كالبنك المركزي و وزارة المالية و غيرها من أجل ضمان فاعلية أكبر و اقتصاد في الجهد و الوقت. وقد يكون تحويل المفتشية العامة للدولة إلى هيئة عليا للرقابة و مكافحة الفساد مع صلاحيات أوسع داعما مهما لهذه المنظومة.
و في نفس الإطار أنبه على ضرورة إصلاح الإدارة الذي أصبح ملحا أكثر من أي وقت مضى إذ لا يمكن التطلع إلى تنمية دونه. و هنا أشيد بالمقترحات التي قدم الرئيس في برنامجه الانتخابي و خاصة المتعلقة بمدها بآليات تسيير و مساطر إجراءات تضمن التوزيع الفعال للمهام. إلا أنني أقترح وضع آلیة تضمن تحیین النصوص المنظمة بشكل دوري حتى نضمن مواكبة تطور العقل البشري في ھذا الإطار. و لن یكون لذلك معنى لو لم یواكبه تشدید على الصرامة في تطبیقھا و المساءلة عند اقتضاء الضرورة.
و في السياق ذاته أدعو إلى إعطاء أهمية خاصة للمالية العامة حيث أصبحت و للأسف الشديد وكرا للفساد فلا النظام الضريبي يستجيب لمتطلبات النمو و لا المحاصيل الضريبية تعكس الحالة الاقتصادية رغم وجود آليات تدقيق في المتناول لا تعوزها إلا الإرادة و حسن النية. و أنبه رهنا سيادة الرئيس أن ارتفاع نسبة المحاصيل الضريبية لم يكن نتيجة جهد خاص أو تطور في المنظومة بل كان نتيجة دخول بعض الشركات المعدنية في النظام الضريبي بعد استكمالها فترة المسامحة بالإضافة إلى التركيز على تحصيل الضرائب المستحقة على المؤسسات العمومية.
و أستغل الفرصة هنا لأشيد بالمقترح المتعلق باستحداث ميزانية مبنية على أساس أهداف مرسومة سلفا. لكنه يتعين في التوازي طرح آلية فعالة لمراقبة الأداء تعتمد على ذات النهج.
و لن يكون لكل هذا معنى و لن يعطي نتيجة ما لم تعتمد الدولة معايير موضوعية في الاكتتاب فيها و التعيين و من أهمها النزاهة و المصداقية و الكفاءة. و لعل ذلك ينسحب على كل الوظائف العمومية السامية و ذات التأثير المباشر.
لكنه علينا أن ندرك أن استحداث هذه الآلية لن يكون بالسهولة المتصورة و سيواجه مقاومة داخلية شرسة لأنها بكل بساطة تحرم المفسدين و عديمي الكفاءة من العمل في الظلام و خلف الجدران و تحت الطاولات.
لا شك أن الكل يدرك أن كثيرا من أموال هذا الشعب تصرف في غير محلها و تهدر دون أي مراعاة لحجم موارده. إن التضخم في الوظائف المخلوقة لمجاملة الحلفاء السياسيين و الأصدقاء و الأقارب أصبح منذرا و بلغ مبلغا وجب التعامل معه بحزم. إن عدد الوزراء و المستشارين و الإدارات و المؤسسات لا يمكن تبريره اليوم في ظل الوضعية المالية للدولة.
هنا كان يتعين القيام بخطوة جريئة منذ اللحظة الأولى، خطوة تكون إشارة قوية لأن الفترة القادمة ستكون مغايرة و أن البلد مقبل على نمط تسيير مختلف. فماذا لو كانوا فاجأوا الجميع بتشكيلة حكومية لا يتجاوز عدد وزرائها الأربعة عشر كإجراء أولي.
لقد عانت بعض الشركات الوطنية من سوء في التسيير و ضعف في الأداء و عجزت عن الخروج من مساحتها الضيقة. فرغم الإمكانيات المتوفرة لدى الشركة الوطنية للصناعة و المناجم و تاريخها في القطاع لم تتمكن من خلق قيمة مضافة كافية و لم تستطع أخذ حجم كان بإمكانها أخذه لو أنها حظيت بنمط تسيير مغاير و لم تحقق الشركة الموريتانية للطيران الأهداف المرجوة منها رغم الاستثمارات و رغم توفر السوق و ضعف المنافسة في شبه المنطقة و لأن الأطر الوطنية عجزت عن تحقيق ذلك يتعين هنا التفكير في اكتتاب مسيرين أجانب ذوي كفاءة عالية و مطالبتهم بنتائج ملموسة و تتم محاسبتهم على ذلك الأساس و سيمكن ذلك الأطر الوطنية من اكتساب خبرة إضافية و الاضطلاع على آليات تسيير حديثة و فعالة. و قد لا يروق للبعض هذا الاقتراح و قد يراه البعض تجني على الكفاءات المحلية بل و على السيادة الوطنية إلا أنني أعتقد أن المحيط الذي اكتسبت فيه هذه المصادر البشرية تجربتها يمنعها من مواكبة تطور آليات التسيير و أدوات النجاح.
و في نفس الإطار لا أجد حرجا في استعانة بعض الإدارات و القطاعات و لو بصفة مؤقتة بكفاءات خارجية من أجل مدها بأدوات تسيير حديثة و الاستفادة من خبراتها و تجاربها.
و من ناحية أخرى لا شك أن التنوع العرقي في موريتانيا أصبح مصدر قلق بدل أن يكون مصدر قوة. و لعل السياسات المتبعة في هذا المجال أعطت أثرا عكسيا و قد لا يكون ذلك متعمدا إلا أنه واقع تدركه العين المجردة. لقد انقسم المجتمع إلى طوائف و فرق لا يجمعها أي جامع و تجسد ذلك في التوزيع السكاني على المدن و القرى و التجمعات السكنية و حتى المدارس و دور العبادة. فلكل مجموعة قراها و مدنها و مدارسها لا تتقاسمها مع أية مجموعة أخرى. خلق هذا الواقع هوة سحيقة بين أبناء الوطن الواحد و الدين الواحد. و لعل الكل يدرك أن أهم وسيلة لتصحيح ذلك الوضع هو استحداث آلية تمكن من اندماج تلك المكونات بعضها في بعض. و هنا أقترح أن تراعي الدولة في توزيعها الطلبة على الجامعات ذلك المعطى. فالمتحصلون على الباكالوريا في لعيون مثلا يتم توزيعهم بين جامعات يجب إنشاءها في كيهيدي و سيلبابي و هكذا و طلاب هذه الولايات يتم تسييرهم إلى جامعات في أطار و تجكجة ..... كما يمكن بناء مجمعات سكنية مخصصة لمتوسطي الدخل و محدوديه يراعي تقسيمها ذلك الواقع.
و فيما يتعلق بالقضاء على مخلفات الرق أعتقد أن مقاربة الرئيس الواردة في برنامجه و حديثه عن التمييز الإيجابي الذي لا ينبغي أن يكون محاصصة ممأسسة كالذي نراه اليوم في لبنان و الذي حول الدولة و مصالحها إلى دويلات لكل طائفة قطعة تستأثر بها لنفسها.
الحلول هنا يجب أن تكون فاعلة و ناجعة. و لأن القضية مجتمعية بالدرجة الأولى يتعين على الجميع المساهمة فيها من خلال استحداث صندوق و فتح المجال للتبرع فيه من جميع المواطنين لكي يدرك أبناء هذه الطبقة أن إخوتهم يسعون لرأب الصدع و يقدمون في سبيل ذلك ممتلكاتهم و أموالهم. و هنا تمكن دراسة إمكانية جمع أموال الزكاة في صندوق خاص يوجه خصيصا لرفع مستوى معيشة هذه الطبقة بوصف الكثير منها من مصرفي الصدقات.
و في الختام أرجو التوفيق و السداد لحكومتنا الجديدة.