قبل الشروع في كتابة هذا المقال؛ كان يحضرني الحديث فقط عن إيجابيات فصل وزارة التهذيب، وهو القرار الصائب، والفصل الذي يعول عليه –مستقبلا- في تجاوز مشاكل التعليم من خلال انتعاش التعليم الأساسي، فبدون إصلاح الأساس لا سلامة ولا وجود لبقية الهرم، ولقد أثبتت الأيام أن صراع الإدارات الحاصل داخل أروقة الوزارة -سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- أعاق العملية التربوية، وجعلها تراوح مكانها رغم كل الجهود والمحاولات، وهنا ينبغي التركيز على كوادرهذا القطاع فهم قادرون على رفع التحدي وإحداث الفارق..
وبعد تفكير سريع، حضر إلى ذهني تقديم نقاط محورية عن التعليم الأساسي -خاصة- تستدعي التدخل العاجل وتوجيهها في رسالة مفتوحة إلى وزير التعليم الأساسي وإلى الرأي العام الوطني؛ فالتعليم قضية الجميع، وبدون جهودنا جميعا سيظل يعاني؛
سأحاول في معرض الحديث عن هذه النقاط العاجلة تقديمها بشكل مختصر؛ ما أمكن ذلك، واخترت في هذا السياق التركيز أساسا على بعض النقاط الواردة في كتاب كنت قد ألفته حول مشاكل التعليم تحت عنوان: *شذرات حول التعليم الموريتاني* وهذه النقاط قد تصل إلى سبعة وعشرين نقطة تقريبا؛ وذلك على النحو التالي:
1-معالجة مشكل الاكتظاظ في الفصول، فمن غير المعقول أن يكون في الفصل الواحد ما يزيد على مائة تلميذ في كثير من المناطق ويكون تعليمهم نوعي.
2- القضاء على المدارس الافتراضية، ونعني بها تلك التي لا يوجد بها القدر الكافي من التلاميذ ويُعمد إلى نفخ لوائح التلاميذ بأعداد غير موجودة أصلا؛ كي تبقى مفتوحة لاعتبارات اجتماعية أو سياسية، وطبعا يضر هذا بالتقييم النهائي للعملية التربوية.
3- العمل على تثبيت المدرسين داخل القطاع من خلال رفع مستوى الأجور وتحسين العلاوات التحفيزية، خاصة علاوتي الطبشور والبعد.
4- اعتماد مبدأ العقوبة والمكافأة، فمن غير المقبول أن يكون المدرس المُجد والملتزم -وظيفيا- لا يجد فرقا في التقييم والاعتبار والمعاملة مع المقصر أو بالأحرى المختفي.
5- إعادة ترتيب العلاقة بين روابط آباء التلاميذ وهيئة التدريس، وإعادة صياغة هيكلة هذه الروابط بحيث يشرك أئمة المساجد فيها بشكل يجعل كل إمام في الحي أو القرية –تلقائيا- عضو ثابت في رابطة آباء التلاميذ؛ التماسا للتوجيه والنصح وتحمل مسؤولية رقابة التلاميذ الذين يمكثون بطبيعة الحال ¼ من اليوم في المدرسة و ¾ من بقية اليوم تحت وصاية ورقابة الأسرة وهذه الروابط.
6- تنظيم الخريطة المدرسية بإعادة توزيع المدارس بناء على معطيات تخدم التربية وتراعي الكثافة السكانية، إذ لا يعقل أن تظل هناك مدرسة تتكون من حجرة واحدة أو حجرتين وبمدرس واحد أو اثنين.
7- التكوين المستمر: بالإضافة إلى التكوين الأولي ينبغي أن يكون هناك وبشكل مكثف تكوينا مستمرا؛ تتم من خلاله مرافقة المدرسين -ميدانيا- من أجل تجاوز مشكلاتهم الفنية والمعرفية واللغوية.
8- تحويلات المدرسين ينبغي أن تضبط في موسم خاص بذلك؛ مثلا قبل افتتاح السنة الدراسية، فمن غير المعقول أن تكون فصول السنة الدراسية مواسم للسمسرة والتحويلات الفوضوية؛ بناء على الدفع والتفاهم، ويبقى التلميذ ضحية يعاني دون مدرس لأشهر متتالية.
9- توحيد الزي المدرسي، وهو إجراء كفيل بإذابة بعض الفوارق التي يعكسها التفاوت الأسري، وما يسببه من عقد (على الأقل يخفف من وقع الظاهرة في محيط المدرسة وأثناء التحصيل العلمي).
10- إنشاء كفالات مدرسية تدعم استمرار التعليم –خاصة في المناطق الهشة- لكن هنا يجب الانتباه إلى ظاهرة سيئة كانت سائدة وملازمة لوجود الكفالات المدرسية؛ وهي إعداد لوائح وهمية من أجل زيادة كمية المواد الموجه لهذه المدرسة أو تلك، مع تخلي كثير من مديري المدارس عن تحقيق الغاية الأولى من هذه الكفالات المتمثلة في إطعام الجوعى تشجيعا لتمدرسهم، وبدل ذلك يبيعونها عاجلا بالتفاهم مع موصليها الإداريين أو آجلا بإسكات الأهالي بتقديم بعض الإكراميات منها.
11- المناهج التربوية: من المؤسف أن تظل هذه المناهج عرضة للتجاذب بين إدارات التعليم والفاعلين في الحقل، وفي كل مرة يتم تغيير أو العدول عن برامج ومقررات وتبقى الخزائن ملأى بالكتب والمقررات التي أخرجت من دائرة الاعتماد بفعل إزاحة محتوى أو حذفه أو ترفيعه، قد تكون المراجعة والتحيين ضرورية وإيجابية، لكن الواقع لحد الآن أقرب إلى التجاذب وتنازع المسؤوليات وإظهار العضلات والنفوذ واللهث خلف التعويضات.
12- استقلال سياسة التعليم: ينبغي أولا وأخيرا أن يُعهد في أي إجراء يستهدف التعليم إلى الخبراء والميدانيين والابتعاد عن التصادم الإداري الحاصل، والمجاملة السياسية القاتلة لأهداف المنظومة التربوية.
13- لغة الأم: من العاجل الملح تفعيل دور لغة الأم تفعيلا كليا؛ لمحوريتها في التعليم الذي يقتضي التركيز عليها على الأقل في مراحل الدراسة الأولى (المرحلة الابتدائية) تجنبا لوجود تعقيدات لغوية إلى جانب التعقيدات العلمية.
14- ضرورة إدماج اللغات الوطنية –جزئيا- في المنهج التربوي خاصة في الحلقة الأخيرة من الابتدائية والمراحل الدراسية الأخرى الإعدادية والثانوية والجامعية (مكونات هذا الشعب لابد من السعي في تلاقيها وتفاهمها تربويا على كرسي الدراسة وليس في الندوات، ولا عن طريق المبادرات السياسية.
15- المقاربة التربوية: كثيرا ما تشهد الورشات التربوية جدلا حول أهمية هذه المقاربة أو تلك؛ فمن يرون جدوائية مقاربة الكفايات يصطدم طرحهم دوما مع معتنقي مقاربة المحتوى، وهناك من ينزلون منازل أخرى تتحرر كثيرا من الضوابط والنظم في المقاربتين وفي غيرهما، ويضيع الوقت في دعاوى التفاضل وتبادل التهم التربوية -طبعا- الشيء الأكيد هو ضرورة مراعاة الوسط التربوي في أي مقاربة، فالبيئة الموريتانية لها خصوصيتها إجمالا ولكل منطقة منها ما يميزها عن أي محيط تربوي آخر.
16- التأطير التربوي: لا يخفى غياب التأطير التربوي على المتتبعين للشأن التربوي في بلادنا، فحظ المدرسين منه على مدار السنة لا يتجاوز جلسة تفتيش؛ وليس تأطير؛ تركز على بعض الوثائق التي تكون معدة توًا، وتقديم درس غالبا ما يكون معادا، ومعروف أن هذه تمثيلية فاشلة لعبت الجهات الوصية فيها دورا كبيرا عندما حبست الموارد الضرورية لتكثيف التواصل وزيادة التأطير وتنفيذه بشكل منتظم.
17- التعليم الخصوصي: بغض النظر عن إيجابية التعليم الخصوصي وإسهامه في إنعاش التعليم، إن هو أخذ المسار الطبيعي لذلك، فإن التعليم الخصوصي في بلادنا ظل عنصرا سلبيا على المنظومة التربوية، بفعل تمييعه للحقل التربوي وتسليعه للعملية التربوية، واستنزاف جهود المدرسين العموميين، وعدم التقيد بالمناهج التربوية الرسمية، وتزوير نتائج التلاميذ، وغياب مراقبة الكفاءة التربوية للمدرسين في التعليم الخصوصي، وضعف الرقابة والوصاية عليه.
18- المحيط التربوي: من المستحيل التفكير بالتربية خارج الحيز الذي يولد فيه الطفل، ولأن الأسرة ظلت إلى عهد قريب المدرج الأول للتربية، وهنا لابد من مراقبة وتحسين سلوك الآباء بالتثقيف والتلاقي ومعالجة المشاكل المترتبة على بعض المظاهر كالتفكك الأسري، ومحاربة عمالة الأطفال.
19- العنف ضد الأطفال: من المظاهر الطاردة والمؤثرة على مستقبل الطفل الدراسي وحياته العامة؛ إذ تضفي صبغة سلبية قد تُظهر جانبا عدائيا فيما بعد تدفعه نحو الركون إلى الإجرام واحتراف الانحراف.
20- احتضان المتسربين من التعليم مبكرا ودمجهم في التكوين المهني إجبارا.
21- متابعة سلوك التلاميذ خارج البيت والمدرسة: من المعروف أن الشارع غالبا لا يخدم أهداف التربية، وتسليم الأبناء له كحاضنة ومكثهم فيه أكثر سيولد جيلا إجراميا ينعكس بسلبياته على المجتمع.
22- دمج وتأهيل العقدويين المحليين: مما لا شك فيه أن القطاع بحاجة ماسة إلى زيادة الكادر البشري ليتجاوز النقص الحاصل في أغلب المناطق والذي يصل أحيانا إلى حرمان بعض المدارس من مدرسين؛ على الأقل في فصل دراسي إن لم نقل سنة دراسية كاملة، وهنا يتوجب بالإضافة إلى الاكتتاب السنوي الروتيني دمج العقدويين المحليين، بعد تأهيلهم وتنمية قدراتهم، حالهم في ذلك حال النشطين في قطاع التعليم الحر إذا ما تقرر إدماجه بتفعيل المدرسة الجمهورية واعتمادها نموذجيا دراسيا حصريا.
23- إعادة الاعتبار لمادة التربية الإسلامية: فمن شأن رفع قيمة التربية الإسلامية عند الطلاب؛ من خلال زيادة الساعات ورفع الضارب أن يسهم في تحسين أخلاق الطلاب ورفع منسوب التهذيب؛ الذي هو الغاية الأولى من أي تعليم.
24- نظام الأسلاك: لا شك أن تطبيق نظام الأسلاك مطلب عند أغلب المدرسين، وغاية يحصل بها التحسين والتحفيز خدمة لجودة التعليم.
25- تأهيل البنية العمرانية: من الأهمية بمكان البدار بتأهيل البنية العمرانية، فأغلب المدارس بالداخل تعاني الخراب وفقدان النوافذ، ورداءة السبورات -التي هي اللوحات الأساسية للإيضاح- في كثير من الأماكن مما يستدعي التدخل العاجل.
26- توفير الوسائل الديداكتيكية واللوازم الضرورية لمزاولة العملية التربوية؛ ظل مطلبا ملحا، فمن غير المقبول أن يعتمد المدرس عندنا في هذا الزمان –عصر التكنولوجيا- على وسائل بدائية؛ قد لا تتعدى سبورة وطبشورا!، في غياب تام لوسائل الإيضاح ومواكبة التطور الحاصل في العالم، الذي تغيرت فيه السبورة وأداة الكتابة عليها حتى أصبحت شاشة ذكية، وانتقلت وسائل الإيضاح من مجرد مجسمات ورقية أو خشبية إلى أجسام آلية تفاعلية.
27- توفير وسائل النقل الضرورية للإدارات الجهوية والمفتشيات المحلية: معروف أن أغلب هذه الإدارات في الوقت الحالي لا يمتلك سيارات للتواصل مع طاقمه والوقوف ميدانيا على المنشآت التربوية التابعة له؛ وعلى هذه الجزئية يتوقف جانب كبير من المتابعة والتقييم والإرشاد والتأطير.
قد لا تكون هذه النقاط حصرا هي مشاكل التعليم؛ كلا وهيهات فمشاكل التعليم كثيرة، لكنها رغم ذلك تبقى إسهاما حيا ينضاف إلى طرح تقدم به آخرون من أجل إنعاش منظومتنا التربوية التي نراهن عليها في تحقيق أهدافنا التنموية.