بدءا لابد من القول بأن من يكتب في الشأن السياسي الموريتاني لا يختلف كثيرا عن لاعب السرك الذي يمشي فوق حبل رقيق معلق في فراغ.
فالكاتب معرض ـ هو أيضا ـ للسقوط إلى "الهاوية" في كل لحظة، وسقوط الكاتب الذي أقصده هنا، هو السقوط من أعين قراء عرفوا ذلك الكاتب مدافعا عن فريقهم السياسي فإذا به "فجأة" ينتقد ذلك الفريق.
ولعل المزعج حقا أن مقالا واحدا قد يتكفل لوحده بعملية السقوط تلك، حتى وإن كان ذلك المقال قد جاء بعد تسعة وتسعين مقالا كانت كلها تخدم آراء ذلك الفريق السياسي وتدافع عنه.
ومن المزعج كذلك أن الكثير من القراء لا يزال يصر على أن يخلط بين الكاتب والناشط السياسي، وينسى أولئك القراء بأن دور الكاتب يختلف عن دور الناشط السياسي، ولذلك فليس من العدل ولا من الإنصاف أن يطلب القراء من الكاتب أن يبتعد عن انتقاد فريقهم السياسي إذا ما أخطأ ذلك الفريق. طبعا يمكن للكاتب أن يكون ناشطا سياسيا، ولكن لذلك بعض الضوابط التي لا يتسع المقام لتفصيلها.
إن الناشط السياسي هو الذي عليه أن يفكر في مزاج أنصاره عند لفظ أي كلمة. أما الكاتب فإن أسوأ ما يمكن أن يقوم به هو أن يشغل نفسه لحظة الكتابة بمن سيغضب، وبمن سيرضى، أو أن يفكر فيمن سيربح من الأنصار بسبب هذا المقال أو ذاك، وفيمن سيخسر، لأنه عندما يفكر بتلك الطريقة الحسابية فإنه سيتحول تلقائيا إلى "سياسي" بالمفهوم المحلي، لا تهمه الحقيقة بقدر ما يهمه أن يكسب المزيد من الأنصار، أو يحتفظ بآخرين، حتى وإن كان ذلك على حساب قول الحق، والصدح به، أي على حساب المهمة الأساسية التي على الكاتب أن يلتزم بها لقرائه، حتى وإن أسقطه التقيد بذلك الالتزام من أعين بعضهم.
إن أسوأ ما يمكن أن يقوم به أي كاتب هو أن يفكر لحظة الكتابة في مزاج القراء، وفي أهوائهم، وفي مواقفهم السياسية المتباينة، أما أفضل شيء يمكن أن يقوم به فهو أن يفكر في ضميره هو، وفي قناعته هو، وأن يعبر عن تلك القناعة حتى ولو تسبب ذلك في غضب كل القراء.
وعلى الكاتب في الشأن السياسي أن يأخذ مسافة واحدة من كل الأطراف، وعليه يكون متوازنا فيما يكتب، أي أن لا يتفرغ لانتقاد فريق دون فريق، وهذا لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ بأن التوازن المطلوب هنا هو أن نساوي حسابيا بين ما نخصصه من مقالات لنقد السلطة، وما نخصصه منها لنقد المعارضة.
إن التوازن الحسابي ليس هو التوازن المقصود، وإن "المسافة الواحدة" بين الأطراف يجب أن لا تتساوى في طولها، لذلك فعلى الكاتب أن يخصص معظم وقته لإزعاج السلطة القائمة ولانتقادها، لأنها هي أول من يجب أن نحمله مسؤولية كل ما نعاني منه من مشاكل وهموم. كما أنه على الكاتب أن يتفادى قدر الإمكان الحديث عن أخطاء المعارضة، وذلك لأنها أولا معارضة، و ثانيا لأنها محرومة من كثير من وسائل التعبير المتاحة للسلطة (الإعلام الرسمي).
إن التوازن الذي أقصده ليس توازنا حسابيا، وإنما هو درجة من الاستقلالية والموضوعية تجعل الكاتب قادرا على أن ينتقد المعارضة بعد أن يكون قد انتقد النظام كثيرا، وتجعله كذلك قادرا على أن يبرز حسنة للنظام بعد أن يكون قد أبرز تسعة وتسعين حسنة للمعارضة، إن كانت المعارضة تملك مثل ذلك العدد من الحسنات.
تلك كلمة كان لابد من قولها من قبل الحديث عن موضوع هذا المقال الذي سأخصصه لموقف المعارضة المثير للاستغراب، ولردة فعلها الباهتة على المجزرة البشعة التي راح ضحيتها تسعة من الدعاة الموريتانيين.
والحقيقة أني قد توقعت ردة فعل باهتة من المعارضة، لذلك فقد طلبت من رؤساء أحزاب المنسقية في مقالي السابق: "كيف نرد على المجزرة؟"، والذي كتبته في اليوم الثاني بعد حصول المجزرة، طلبت منهم أن يكونوا على رأس الجماهير التي ستستقبل جثامين الدعاة، وأن يحضروا للصلاة على أرواح شهداء الدعوة في سبيل الله، ولم أكتف بذلك الطلب، وإنما ناشدتهم أكثر من مرة من خلال صفحتي في الفيسبوك، ولكن زعماء المعارضة كالنظام لا يهتمون بما يُكتب، ولا بما يُقال، وإنما يعتمدون في كل مواقفهم على مزاجهم الشخصي، تماما كما يعتمد الرئيس على مزاجه الشخصي.
لقد وجهت في مقال : "كيف نرد على المجزرة؟" عدة مطالب للتعامل مع المجزرة البشعة، بعضها كان موجها للسلطة الحاكمة، والبعض الآخر كان موجها لزعماء المنسقية، ومع أني أعلم بأن المعنيين لم يقرؤوا ذلك المقال، سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة،إلا أنه مع ذلك يمكن القول بأن السلطة قد قامت بالكثير من ردود الأفعال التي كانت مطلوبة منها ( استقبال الرئيس لجثامين الشهداء، استقباله في القصر لجماعة من الدعوة والتبليغ، إرسال وفود وزارية للتعزية، الصرامة مع الحكومة المالية، الاستقبال المنتظر لأسر الضحايا من طرف الرئيس..)، وهذا لا يعني بأن الحكومة لم تقصر في جوانب أخرى، فتعامل الإعلام الرسمي مع الفاجعة كان مخجلا، كما أن الحكومة قد أخطأت أيضا في عدم إعلان حداد بعد المجزرة.
وإذا كانت الحكومة قد قصرت في جانب، ووفقت في جانب آخر خلال تعاملها مع المجزرة، إلا أن المصيبة كانت في المعارضة التي قصرت في كل الجوانب المتعلقة بها. لقد اكتفت المعارضة ببيانات باهتة، وهي بيانات يبدو أنها لم تكتتب لاستنكار الفاجعة، بقدر ما كُتبت لتحميل النظام الحالي ما يجري في مالي، ولتحذيره من تسييس الفاجعة. تغيب المعارضة، وتغيب ردود أفعالها ومع ذلك فتطلب من النظام أن لا يسيس هذه الفاجعة الأليمة.
إن الذي اختفى يوم استشهد تسعة من خيرة أبناء موريتانيا هو الذي يحاول أن يسيس هذه الفاجعة الأليمة، وأن يقلل من شأنها.
وإن الذي ناقش هذه الفاجعة بشكل ثانوي على هامش مؤتمر صحفي أو ندوة مخصصة لعملية تسليم السنوسي هو الذي أراد أن يسيس هذه الفاجعة، وأن يقلل من شأنها.
ثم إن الذي شجع النظام على تسييس هذه الفاجعة هم أولئك الذين غابوا نهائيا عن المشهد، وتركوا فراغا كبيرا استغله النظام لصالحه حتى ظهر وكأنه أكثر اهتماما من المعارضة بدماء الموريتانيين.
فبأي منطق يرفض "أحمد داداه" أو "جميل" أو "ولد مولود" أن يشاركوا الموريتانيين في فاجعتهم الأليمة؟ وبأي منطق يرفض أولئك أن يستقبلوا جثامين الشهداء والصلاة على أرواحهم الطاهرة؟
فهل كان لدى أولئك "الرؤساء" مشاغل أكثر أهمية واستعجالا من مواساة الموريتانيين في فاجعتهم، ومن مشاركتهم في استقبال الجثامين، والمشاركة في الصلاة على أرواحهم الطاهرة؟
لقد حضر مواطنون عاديون ولكنهم كانوا أكثر نضجا ووعيا من رؤساء أحزاب المعارضة، حضروا لأنهم علموا بأن الحضور كان واجبا أخلاقيا ودينيا ووطنيا وإنسانيا حتى، وأنه لا يعني بأي حال من الأحوال مناصرة للنظام القائم.
لقد فرق أولئك البسطاء بين الدولة والسلطة الحاكمة، وهو ما تعود زعماء المعارضة على أن يفشلوا دائما فيه.
حضر مواطنون عاديون لاستقبال الجثامين، وتمكنوا من أن يُسمعوا للرئيس ـ ووجها لوجه ـ ما لم تستطع المعارضة أن تسمعه له. حضروا وانتقدوا الرئيس، بل ورشقوه بالحجارة، وهو الشيء الذي يتمنى زعماء المعارضة أن يروه عن قرب، ولكنهم لم يحضروا فحرموا أنفسهم من رؤية ذلك المشهد الذي طالما تمنوا رؤيته، وحرموا أنفسهم كذلك من شرف استقبال جثامين الدعاة، وشرف الصلاة على أرواحهم الطاهرة.
إن الذي يغيب عن مآسي المواطنين وعن فواجعهم وهو لا يزال رئيس حزب فقط، سيغيب حتما عند ما يصبح رئيس دولة، وعندما يلتف حوله الكثير من المصفقين والمنافقين والمطلبين.
لقد أخجلتمونا يا زعماء المعارضة يوم غبتم عن تشييع شهداء الدعوة، كما أخجلتمونا في مواقف أخرى سابقة، لذلك فاسمحوا لنا أن نقول لكم : لترحلوا أنتم أيضا مع النظام الذي تريدون رحيله.
يبقى أن أشير في الأخير بأن هناك جهات أخرى تجاهلت تماما هذه الفاجعة بطريقة تثير الاشمئزاز، خصوصا أن تلك الجهات كانت معروفة بكثرة بياناتها وتصريحاتها، فهل ذلك يعني بأن هناك تمييزا بين الضحايا عند تلك الجهات؟
لقد غاب ملتقى منظمات حقوق الإنسان "فوناد"، ولم يعلق على هذه الفاجعة الأليمة، ولم تعلق نقابات ولا حركات ولا أحزاب أخرى، ولعل من أكثر الأحزاب إثارة للاستغراب حزب حركة التأسيس الذي يرأسه "كان حاميدو بابا"، فهذا الحزب كان قد نظم حفلا بعد المجزرة بيوم واحد، وذلك بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثالثة لإنشائه، وتحدث رئيسه في ذلك الحفل عن كل شيء حسب المنشور في المواقع، ولكنه لم يتحدث ولو بكلمة واحدة عن هذه المجزرة الفظيعة.
إن هناك أحزابا عليها من الآن أن تراجع بعض مواقفها، وأن تعيد ترتيب أولوياتها، فأن يتجاهل حزب موريتاني مجزرة راح ضحيتها تسعة مواطنين موريتانيين، أو أن يتجاهل الفيلم المسيء للمسلمين ( وموريتانيا دولة مسلمة)، أو أن يتجاهل قضية مثل تسليم السنوسي فذلك يعني أن ذلك الحزب بعيد كل البعد عن القضايا التي تهم الموريتانيين في مجموعهم، حتى وإن اهتم بقضايا أخرى، تستحق الاهتمام لأنها تهم بعض الموريتانيين.
تصبحون على هموم موحدة..