شكل اقتراع 22 يونيو 2019 حدثا بارزا في حاضر المجتمع الموريتاني ودولته الحديثة، وسيكون لهذا الحدث ما بعده باعتبار كونه يكتسي طابعا تاريخيا حيث كان تتويجا لمسار انتخابي عرفته بلادنا منذ أكثر من عقدين من الزمن بعد تتالي الأحكام الاستثنائية.
وقد شهد المسار المذكور الكثير من الانتخابات المحلية والتشريعية التي انبثقت عنها تجارب في التسيير المحلي والتشريعي البرلماني ، إلا أن خصوصية الانتخابات الرئاسية الأخيرة لها أكثر من دلالة، لأنها جرت أولا بعد عدة انتخابات من نوعها، ولأنها تتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية، مع العلم ان نظامنا نظام رئاسي يعطي لرئيس الجمهورية دورا كبيرا باعتباره المسؤول عن السير المنتظم للمؤسسات وكل هيئات الدولة، لكن الخاصية المميزة لهذا الاقتراع تتمثل في أنها أول انتخاب رئاسي يسلم فيه رئيس منتخب السلطة لرئيس آخر منتخب، وما يحمله ذلك من معاني تتعلق بأن البلاد أدارت ظهرها للانقلابات العسكرية واتجهت نحو المزيد من الديمقراطية المبنية على محاسبة الرؤساء على اساس برامجهم الانتخابية.
وفي هذا الصدد ، فإننا نستبشر خيرا بأن رئيسنا المنتخب صاحب الفخامة السيد محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الغزواني أعطى أهمية كبيرة لبرنامجه الانتخابي من حيث محتواه وعمل أثناء حملته على التعريف بهذا البرنامج الذي طال كبريات المشاكل والقضايا التي تهم شرائح عريضة من شعبنا، وكذا المعالجات والتعهدات التي كرسها للمعاناة التي ما زالت تؤرق المواطنين.
ورجاؤنا أن تحتل البرامج الانتخابية ابتداء من الآن في الديناميكية التي ستعطي لنظامنا كل الأهمية التي تستحق لكونها تشارك في تعزيز الديمقراطية من خلال الاختيار عن وعي وبصيرة ضروريين لمضمون التصويت الذي يترتب عنهما.
إن مثل ذلك الوعي هو وحده الذي يبعد عن التصويت ذو الطابع العرقي أو الفئوي الذي في المحصلة يلخص كل العملية السياسية بما فيها الانتخابات في مجرد الدفاع عن خصوصية ما فئوية كانت أم عرقية أو هي عملية لتقاسم الامتيازات التي تفرغ الوطنية والمواطنة التي نحن في أمس الحاجة إليها من محتواها.
إن هذا المنحى الذي نريد للبلاد أن تكون أخذته مع اقتراع 22 يونيو 2019 هو الشروع الفعلي في حياة سياسية سليمة رغم أن العملية السياسية عندنا تصورا وممارسة ما زالت تحتاج إلى المزيد من التقويمات والترميمات التي هي ضرورية لوضع بلادنا على سكة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى ذكر العملية التنموية فإن هذه الأخيرة تتوقف على ، من جهة، السياسيات العامة ، ومن جهة أخرى الاستراتيجيات الفرعية الخاصة بكل قطاع على حدة، كما تتطلب مناخا سياسيا مناسبا لتنفيذ تلك السياسات والاستراتيجيات، فكلنا أمل أن تلقي الانتخابات الأخيرة قبول كل الفاعلين السياسيين والمترشحين الذين ينبغي أن يضطلعوا بما يترتب عليهم من مسؤوليات ويسعوا إلى الإسهام في خلق مناخ يسمح لهم بالقيام بدور إيجابي في المشهد السياسي ويفتح لهم آفاقا رحبة يعوا من خلالها بضرورة إيجاد حلول للمشاكل المطروحة للمواطنين والغير قابلة للتأجيل والتي وعد الرئيس المنتخب بعد أن وضع لها تصورا بتنفيذ الحلول المناسبة لها.
الانتخابات الرئاسية الأخيرة، قد تكون فاتحة للشروع في بناء استراتيجيات تنموية واعدة بالنسبة لبلادنا ، وذلك بالنظر إلى ما تتوفر عليه من ثروات وامكانيات اقتصادية إذا ما تم توظيفها ضمن حكامة ناجحة فإنها ستكون أدوات حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي هي هدف كل نظام سياسي.
غير أن ذلك لن يتأتى إلا في ظل اجماع وطني يخرج الفاعلين السياسيين من دائرة الحسابات الضيقة وتركيز الاهتمام على ما هو جوهري والمتمثل في المصلحة الوطنية.
إذا ما انطلقنا من أن ذلك هو الهدف الأسمى فلا ينبغي أن ننظر إلى الانتخابات إلا باعتبارها وسيلة للتعبير الحر ولتجسيد إرادة الشعب في اختيار من يمثله ويقوده. فنحن كما عشناها يمكن أن نقيمها من زوايا مختلفة فهي مهما يكن من أمر لا تخلو من جوانب إيجابية ومن بعض النواقص. تتمثل جوانبها الإيجابية في أن الحملة التي مهدت لها كانت هادئة بحيث أتاحت لكل المترشحين فرصة لشرح برامجهم والتعبير عن مواقفهم حول مختلف القضايا الوطنية، كما جرت في جو مليء بالهدوء ودونما أية حادثة خارجة عن المألوف أو من شأنها المساس بالأمن والسكينة.
أما الجانب الإيجابي الآخر، فهو أن اللجنة المستقلة للانتخابات أدت دورها كاملا وكانت تقف في نفس المسافة من كل المترشحين وتتعاطى معهم بشكل إيجابي بالإضافة إلى ان مصالحها الفنية وطواقمها الموفدة إلى كل أنحاء البلاد لم تسجل عليها أية خروقات تذكر، وفي المحصلة أتت النتاج طبقا تقريبا للتصويت في صناديق الاقتراع مما جعل نفس النتائج التي أعلنت عنها اللجنة المستلقة للانتخابات هي تقريبا التي نالت تزكية المجلس الدستوري مع فوارق طفيفة.
ونشير إلى أن المجلس الدستوري استقبل الطعون في ظروف عادية، كما قدمها المترشحون وتعاطى معها بمهنية عالية طبقا لروح نصوص القوانين ذات الصلة، ولم يسجل المراقبون الوطنيون والأجانب أية خروقات يمكن أن تؤثر على النتائج العامة للانتخابات.
وإذا كانت هنالك نواقص فهي التي عقبت الانتخابات متمثلة في الاضطرابات في الشارع والتي كانت نقصا كبيرا في الثقافة الديمقراطية التي ما زلنا نحتاج إلى غرسها والتشبث بها. وتمثلت النواقص كذلك، في أن المترشحين الذين خسروا الانتخابات لم يعترفوا حتى الآن بنتائجها رغم الإجماع حول كونها جرت في ظروف عادية ولم يحصل فيها من الخروقات ما يؤثر على نتائجها.
ضف إلى ذلك أن الاصطفاف أو التصويت ذو الطابع العرقي والشرائحي الذي كان ميزة ولأول مرة في المسار الانتخابي في بلادنا ينذر باستبداد الوعي الوطني الذي تتأسس عليه كل تجربة ديمقراطية ناجحة بوعي فئوي وعرقي، الشيء الذي لا يقوض الديمقراطية فحسب وإنما كذلك يهدد وحدة مكونات شعبنا القومية والاجتماعية. فمثل هذا التوجه يهدد بالقضاء على الضمير والوعي الوطنيين وينتهي إلى المحاصصة التي تختزل الوطن في كعكة يتم تقاسمها بين أطراف يدعي كل واحد منها أنه يمثل مكونة عرقية أو اجتماعية.
ونرجو في الأخير أنه بنفس الطريقة التي خفتت بها الاضطرابات بفعل معالجتها السياسية والأمنية بالطريقة ذاتها عن طريق الحوار البناء وتقليب المصلحة العليا على غيرها من الاعتبارات، أن يهتدي كل الفاعلين والمترشحين إلى السعي في فتح آفاق مواتية لإجماع وطني بموجبه توفق الأغلبية إلى قيادة محكمة للبلاد وتدبير راشد لشؤونها في ظل الأمن والعدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وتقوم المعارضة بدورها البناء المتمثل في تحديد اختلالات تسيير الأغلبية واقتراح بدائل عنها تصب في مصالح المواطنين وما من شأنه إسعادهم.