ديباجة:
لِكلمة "حكومة" تعريفات علمية كثيرة، و تعبيرات متنوعة بعدد المفاهيم و التقاليد السياسية منذ العصور اليونانية، و غيرها من الحضارات السابقة و اللاحقة، حتى يومنا هذا. و لعل من أكثر تعريفاتها إتاحة للجميع، هو أن "الحكومة عبارة عن منظومة سياسية و إدارية يتم من خلالها تسيير شؤون بلد محدد، لصالح شعب معين". ومن هذا المنطلق تعتبر الحكومة أحد أركان ثلاثية التعريف الدستوري لمفهوم "الدولة" الوطنية المركزية، بالإضافة للشعب، و الحوزة الترابية.
أما عدد أفراد الحكومة (نسميهم غالبا - وليس دائما - وزراء) و تخصصاتهم و نوعية مهاراتهم و تسمية القطاع أو القطاعات التابعة لكل واحد منهم ... فذلك لعمري نقاش آخر و موضوع مستقل. يحتاج لوقفة تأمل. وذلك لسبب بسيط، يكمن في أن لكل قِطر أولوياته، و لكل دولة تحدياتها، ولكل قومية أو شعب همومه و غمومه. فلا تتساوى الشعوب و لا تتشابه الأمم و لا تتماثل الحضارات و لا الثقافات في كل الإحتياجات و الألولويات ... بمعنى أن تسميات الوزارات و توزيع الإهتمام بين القطاعات الوزارية يكاد يكون خاصا بكل بلد و فريدا في كل دولة، إذا ما تعاملنا معه بصورة علمية بحتة؛ موغلة في الدِّقة المنطقية. فالدفاع في سويسرا ليس كالدفاع في إسرائيل، و الأمن في كاندا ليس الأمن باليمن، و الصحة في ألمانيا ليست الصحة في الصومال، و الصناعة في اليابان ليست الصناعة في موريتانيا، و التعليم في السويد ليس كالتعليم في أتشاد، و العدالة في بريطانيا ليس كعدالة مصر، و الوحدة الوطنية في لبنان ليست كالوحدة الوطنية في السينغال، و الحرية في الهند ليست كحرية السعودية، و البنى التحتية في الولايات المتحدة الآمريكية ليست هي نفسها في جيبوتي ...
معناه أن لكل مقام مقال، فلكل دولة وزاراتها؛ تسميةً وأهميةً و تَخَصُّصًا و ميزانية و أولوية و حساسية و برنامجا ...إلخ. و من هنا كان لِزامًا على من أراد أن "يُفَصِّل" هيكلة حكومية على مقاس يزاوج بين أولويات حاجات الشعب، و حساسية ضرورة الإلتزام ببرنامج قائد منتخب ما، و واقعية في توزيع عائدات موارد الأمة على أهم مكامن الخلل، بإرجاع كافة المهام إلى أصولها و أسباب نشوء مقاصدها الأصلية ... عليه أن ينتبه لعدة معايير و بضع مؤشرات أساسية، نذكر هنا بعضا منها، لا حصرا:
- جرد قائمة الأولويات في مجالات الدولة، من الأهم فالأهم، و الأَولى فالأَولى، حسب طبيعة الشعب و حقائقه المعاشة يوميا، من حيث ثقافته و استشراف مستقبله. عندها سنميز القطاعات التي تستحق وزارات دولة، أو وزارات سيادة، ثم الوزارات العادية، أو حتى "كتابات" الدولة... فهناك وزارات تتعاظم مهامها لكونها تقف على ثغر، تَدرَؤُ من خلاله أخطارًا خارجية أو داخلية محدقة بكيان الدولة برمته، كالدفاع و الخارجية و الداخلية و الأمن والعدل والوحدة الوطنية،... على المديين القريب و المتوسط. و منها الوزارات المختصة في تجنب مفاسد تعظم على المدى البعيد، و جلب مصالح قد تربوا على المديين القريب و المتوسط، كالتربية و التعليم و الصحة و الفلاحة و التنمية الطبيعية و الإقتصاد و الصناعة ...
- التأكد علميا و عمليا من الفصل التام بين صلاحيات الوزارات، بتجنب تداخل التخصصات بين كافة الوزارات، فيما بينها من جهة، و بينها و المرافق الحكومية الأخرى من جهة ثانية،
- التأكد من الصحة والسلامة اللغوية لمسميات الوزارات (شكلا و مضمونا)، بحيث يكون خاليا من الشذوذ اللفظي، و النشاز في التعبير، و الإطناب في الكلام، و الحشو في البيان، و التكلف في النطق، و الإبتذال في الوصف، و صعوبة الترجمة، و طول التسمية ... بعرضه في آن واحد على المتخصصين في تنظيم الهياكل الإدارية، و أهل اللغة.
- التأكد أن القطاع يحتاج في هذا البلد تحديدا، و لهذا الشعب بالذات، و في هذا الزمن بالضبط، وبتلك الميزانية المتاحة، لوزارة منفردة في الأصل، بحيث يقطع الشك باليقين أن أي إدارة أو مرفق حكومي لايمكن أن يؤدي مهمة تلك الوزارة بتاتا، كما لا يمكن بأي حال من الأحوال دمجها في وزارة أخرى، أو انتدابها تحت وصايتها، أو تكليف قطاع مستقل (منتخب أو منتدب بمأمورية) بتسييرمهامها ... حرصا على أَمثَلَةِ موارد الدولة البشرية و المالية، و ضمانا لسلاسة عمل الفريق الحكومي، و أعوانه.
حالتنا المُغَزَّلُ عليها: ماهي أحسن هيكلة حكومية لتسيير شؤون الموريتانيين حاليا؟
على ضوء شيء من البحث الذاتي، بالتطفل على مطالعة بعض الكتابات و المقالات الجيدة للمختصين في الموضوع، و بعد تدارسه طيلة عقد من الزمن، تارة مع بعض الدكاترة العلميين و الأساتذة الجامعيين من جهة، و تارة على هوامش بعض النقاشات العلمية داخل أروقة الذراع الفكرية لمشروع "إلى الأمام...موريتانيا"، خلصنا إلى بعض الاستنتاجات الأولية العامة حول مقاسات الحكومة الموريتانية "المُثلى". نذكر منها استئناسا هنا:
- وضع حد فورى لعادة النسخ و اللصق المقيتة، الموروثة من حكومات سابقة و دول أخرى، بحضارة مغايرة، و تاريخ مختلف، و أولويات معكوسة و شعوب لا تتقاسم أحيانا مع الشعب الموريتانية سوى كونها من نفس الجنس البشري: لا دين يجمعها، لا لغة، لا قومية، لا وسط بيئي، لا موقع جغرافي، لا تركيبة اجتماعية أو عرقية، ... فقد تحتاج روواندا لوزارة للمصالحة الوطنية في زمن ما، و نحتاج نحن اليوم فقط لوزارة للوحدة الوطنية، و قد تريد فرنسا وزارة مكلفة بالبحث العلمي و التكنولوجا في حين تحتاج فيه موريتانيا الحالية أكثر لوزارة للتربية و التعليم. و قد تحتاج آمريكا لوكالة ناسا الفضائية و تحتاج موريتانيا، بشكل أكثر إلحاحا، لوزارة للتضامن و معالجة مخلفات الرق و الطبقية و الغبن الاجتماعي. و قد تحتاج السعودية (لديها ما يقارب نصف احتياط العالم من البترول الخام) لوزارة كاملة خاصة بالنفط، و تكتفي موريتانيا بوزارة للطاقة بشكل عام ... و هكذا....
- منطقيا، قد لا تحتاج موريتانيا -على العموم- لأكثر من عشرين وزارة من أجل تسيير شؤون البلاد بصورة مرضية و متزنة. بل قد تحتاج فقط إلى ما بين 15 إلى 19 وزارة فقط. حيث يؤول هامش التغيير هذا لإختلاف طبيعة الجمهورية (الدستور الموريتاني) و شكل نظام الحكم القائم، و كذا التوجه السياسي و ربما الفكري للسلطة العليا الحاكمة. بالإضافة إلى حركة بوصلة الخارطة السياسية (معارضة و موالاة ...).
استئناسا بالمبادئ أعلاه، و اعتبارا لمجموعة مُدخلات منها: الحداثة التاريخية للدولة الموريتانية بالنظر لتاريخ استقلالها، طبيعة مستعمِرِها السابق، دينها و مذهبها، تركيبة شعبها الإجتماعية و الثقافية، محيطها وجوارها و موقعها الجغرافي، الموارد الأساسية المعلومة و المتاحة اليوم لاقتصادها، التعداد السكاني الحالي لأفراد الشعب، شكل و طبيعة الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكمها، مكامن الخلل و نقط الضعف و عِلل الإخفاق، ومؤشرات القوة و فرص النجاح، ... يمكن لنا أن نعتمد مقاربة نظرية لاستنتاج الهيكلة الوزارية المُثلى لدولة موريتانيا الحالية، بمنطق تراكمي و شبه استنتاجي، يرد كل وزارة لمقصده مهمتها الأصلية و جوهر إنشائها الإبتدائي، بشكل منطقي صِرف، يهمل المحاكاة العمياء لدول أخرى في الشكل و المضمون، و يركِّز مائة في المائة على "الحاجة" السياسية الحقيقية "لإختراع" او ابتداع حكومة مفصَّلة على الشعب الموريتاني، حيث تقع على مصالحه، حافرًا بحافر.
القطاعات الوزارية المقترحة، حسب الطبيعة و الأولوية العلمية و الحجم المنطقي، انطلاقا من المدخلات أعلاه:
- سبع وزارات دولة : بعضها وزارات سيادة أصلا. تتبع لكل منها عدة أمانات دولة.
- العدل
- أمانة حقوق الإنسان (مفوضية حقوق الإنسان سابقا)
- أمانة محو مخلفات الرق و الفروق الطبقية
- أمانة القضاء العادل (وزارة العدل الحالية)
- الوحدة الوطنية و النسيج الإجتماعي (المتحدث الرسمي باسم الحكومة)
- أمانة التضامن الإجتماعي (جزء من وكالة التضامن سابقا...)
- أمانة الأسرة (جزء من الوزارة المكلفة سابقا بالأسرة)
- أمانة الشؤون الإجتماعية (جزء من الوزارة المكلفة سابقا بالشؤون الاجتماعية)
- أمانة مكافحة خطاب الكراهية و التفرقة العنصرية
- التربية و التعليم
- أمانة الحضانة و التربية الأخلاقية (تدمج جزءًا من الوزارة المكلفة بالطفولة سابقا و التعليم ما قبل المدرسي)
- أمانة التعليم الإبتدائي و الثانوي
- أمانة تطوير و تأطير التعليم الأصلي (جزء من الوزارة المكلفة سابقا بالتعليم الأصلي)
- أمانة التكوين المهني و تطوير المواهب العلمية
- الصحة
- أمانة الأمن الغذائي و الوقاية الصحية (تدخل ضمنها مفوضية الأمن الغذائي سابقا)
- أمانة الصحة البدنية و الأمن الصيدلاني
- أمانة الصحة الإنجابية و الأمومة
- أمانة الأمراض النفسية و العقلية
- أمانة الرياضة البدنية و الترفيه
- أمانة البيئة و التنمية المستديمة
- الإقتصاد
- أمانة الصناعات الإستخراجية (جزء من الوزارة المكلفة بالمعادن و البترول و الغاز سابقا)
- أمانة التنمية الحيوانية (جزء من التنمية الريفية و البيطرة سابقا)
- أمانة الزراعة (جزء من التنمية الريفية و الفلاحة سابقا)
- أمانة الصيد البحري (جزء من وزارة الصيد و الاقتصاد البحري سابقا)
- أمانة الصناعة التقليدية و السياحة (جزء من الوزارة المكلفة بالصناعة التقليدية و السياحة سابقا)
- أمانة التجارة و الاستثمارات (جزء من الوزارة المكلفة بالتجارة سابقا و جزء من الوزارة المكلفة بالإقتصاد و المالية سابقا)
- التوجيه الإسلامي (الشؤون الاسلامية سابقا، حيث أن كلمة "شؤون" لا تصح هنا، لأنها تفيد بأن الوزارات الأخرى تباشر شؤونا ليست إسلامية بالضرورة! في حين أن "توجيه" الدولة يعتبر كله إسلاميا حسب الدستور)
- التنظيم و التطوير الوطني (من أهم الأهداف الاستراتيجية لهذه الوزارة القفز بعقلية الانتظام و التنظيم و ثقافة الإنضباط عند المواطنين، في كل الميادين)
- أمانة التنظيم و التطوير الإداري (سابقا: اللامركزية، عصرنة الإدارة ...)
- أمانة العلاقات مع المؤسسات غير الحكومية (البرلمان، الاعلام، ...)
- أمانة سُلَط التنظيم (سلطة تنظيم الاتصالات، الكهرباء، الماء، النقل، الصفقات، الاكتتابات، ...)
- أمانة البنى التحتية (جزء من وزارة التجهيز و النقل سابقا)
- أمانة العمران و الإستصلاح الترابي (يدخل فيها الصرف الصحي ...)
- أمانة الإسكان و الحياة المدنية
- أمانة النقل
- العدل
- عشر وزارات عادية:
- الدفاع الوطني
- الخارجية و شؤون المغتربين
- الداخلية و الأمن المحلي
- التعليم العالي و البحث العلمي و التكنولوجيا
- الطاقة
- المياه
- المالية
- الشباب
- المصادر البشرية الوطنية (سابقا: الوظيفة العمومية و العمل و التشغيل...)
- الثقافة و الإبداع و الفنون
ملاحظات ختامية:
لمزيد من تبادل الافكار و تعميق الشروح و تداول التفاصيل حول الموضوع، يمكنكم التواصل معي عبر الإميل أسفله. و من ثَمّ، مواصلة النقاشات عبر الوسائط الإجتماعية الأخرى، أو مباشرة إذا اقتضت الضرورة ذلك:
إثراءًا للنقاش، سستم ترجمة هذا المقال لاحقا إلى اللغة الفرنسية إن شاء الله.
حقوق الطبع و النشر محفوظة للكاتب ®، وإعادة النشر مع المرجع مقبولة.
والله الموفق.
نواكشوط، 15 أغسطس 2019
د. نورالدين محمدو