حين تعقد المؤتمرات في إحدى دول المغرب العربي الشقيقة يوجه المؤتمِرون في الختام رسالة شكر وولاء إلى الشخصية الأولى هناك، وغالبا ما يصفونها – زيادة على صفتها الرسمية- بأنها الأولى منهم حسب مجالهم؛ فإذا كانوا مفكرين وجهوا الشكر والثناء إلى "المفكر الأول" وإذا كانوا رياضيين فإلى "الرياضي الأول".. وهكذا. (كان هذا يحدث حتى نهاية القرن العشرين للميلاد، ولا أعرف هل ما زال كذلك).
مرة عقد في تلك الدولة كبار الطباخين مؤتمرا كبيرا تداعوا إليه من كبريات فنادق العالم ومطاعمه ودام أياما جاد فيها كل طاه بما أنضجته قريحته فشنف الصحون والآذان، وأمتع الأنوف والمِعَدَ، وحلَّى الموائد والأفواه.. وفي النهاية وجهوا تأييدهم وشكرهم إلى "الطباخ الأول نصره الله" وهم يرون أن هذا وصف يزيد الموصوف به شرفا، ولا يرون مهنتهم أقل شأنا من سواها، ففوجئوا بوسائل الإعلام تمتنع عن بث بيانهم أو نشره أو الإشارة إليه؛ نأيا بأنفسها عن العطب. وبعد ما انتبهوا - أو نُبِّهوا- أعادوا تحضير البيان بعيدا عن مفردات المطابخ، فمر بسلام.
لو كنت ذلك الزعيم – رحمه الله- ووصفوني بأني الطباخ قبل الأخير (بل ولو الأخير) لشعرت بالفخر ولوجهت إليهم ملتمس تأييد ومساندة ودعم مطلق على طريقة المتملقين الموريتانيين! فأنا لا أعلم عملا يدويا أو بدنيا إلا ولي فيه نصيب قل أو كثر؛ باستثناء الطبخ، فتجاربي فيه جديرة بإكساب العقد النفسية لمن له قابليتها.
رغم هذا فأنا في الغالب آخر داخل إلى مطبخ المنزل ليلا، وقد أكون أول داخل إليه صباحا، تفقدا لإغلاق القارورة ومنافذ الغاز. وعلى نحو يذكرني بما يقال في الأسطورة الشعبيىة إن الشيطان لا يكل إتلاف الكتب إلى أتباعه فأنا أيضا لا أكل استبدال قوارير الغاز الفارغة وتركيب صمامات لبدائلها وتثبيتها وتجربتها إلى غير نفسي، ولا أتهاون فيما يتعلق بالغاز.. كل ذلك حرصا على السلامة من مصائبه وكوارثه.
أما تجاربي في مجال الطبخ فهي فريدة.. أسوق بعضها أدناه؛ عسى أن يكون قابلا للاستهلاك مكتوبا، وإلا فلا غرو.
في الواحدة والعشرين من سنوات عمري عملت في متجر لأحد أفراد العائلة الأقربين، وفي الأيام الأولى تركني في متجره ذات صباح بعد ما أوصاني بما شاء، ثم أوصى قريبا آخر متحد الرتبة معي في القرابة إليه بإعداد الغداء، مبينا له توفر كل متطلباته؛ إما في الثلاجة وإما ضمن بضائع المحل، ثم لف لثامه عليه بإحكام وجمع دراعته من وراء ظهره وخرج.
كنت في خطوتي الأولى في هذا الميدان، من فئة يضن أصحاب تلك المهنة على واحدها بصفة "الوگاف" مكتفين بوصفه بـ"الكَبَّاب" تعبيرا عن عدم الجدوى في تشغيله. بينما كان قريبي قد أمضى حوالي عامين متتاليين في المهنة وصار كفؤا للمتداول من أمورها. وقد تخلص من العمل منذ يوم أو يومين ليستريح، وكان يصغرني بحوالي ثلاث سنوات.
أنصت المراهق بأدب إلى الوصية المتعلقة بالغداء حتى انتهت فأعاد رأسه إلى الوساد بمجرد خروج الموصِي ونام ما شاء، ثم تمطى ونهض قرب انتصاف النهار وخرج إلى حال سبيله، وحين ابتعد أمتارا التفت إلي مؤكدا أن لا أنسى إعداد الطعام!
لم أجد معنى لإجابته؛ فهو يعرف أن المهمة أوكلت إليه لا إلي، ولو كنت أحسنها لما عُهِد بها إليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ومع ذلك لم أرض أن يعود صاحب العمل موغرا فلا يجد الطعام جاهزا مهما كان وضوح عذري.جلست أجيل الفكر بين ألوان الطعام اعتمادا على ما أجده على الموائد، فوجدت في كلها عقبات لا يمكنني اقتحامها، ولم أجد ما أجرؤ عليه سوى الأرز المسلوق بالماء (گوسي) لما تخيلته من بساطة أمره.
انزاح الهم عن نفسي فنهضت كمن اكتشف قسما رابعا للأحكام العقلية، أو مكونا ثالثا للماء، أو حاسة سابعة للإنسان، واتجهت إلى حيث رصت الأواني، وأخرجت عدة الطبخ فأتقنت غسلها، ثم أشعلت الغاز تحت الماء والملح. وحين فار التنور أخذت كمية من جيد الأرز وصببتها صبا (لم أكن أعلم أنه يغسل قبل الطبخ) وراقبت "المختبر" باهتمام.
لم يظهر للأرز تأثير في البداية، باستثناء الغبرة التي شوهت صفاء الماء، فزدت الأرز فلم أر جديدا، ثم زدته.
بعد قليل رفع الأرز غطاء الأداة عدة سنتيمترات، وحين تفقدته وجدته ثلاثة أقسام متمايزة جدا، ككلام النحاة:
1. دائرة قصوى متفحمة بتأثير لهب النار ومباشرة الآلة ومن ثم الجفاف.
2. دائرة داخلية تبدو ناضجة.
3. كمية في "الذروة والقلب" لم يمسسها سوء، وتكاد تمكن إعادتها إلى الكيس وبيعها!
هذا نموذج اقتصرت عليه من عدة محاولات متباينة المنطلقات والوسائل؛ متشابهة النتائج والخلاصات.
وفي عام 1998 انتبهت لأهم اكتشاف لي في علم التغذية.. إنه تحضير الطعام - عند ما لا أجد مناصا من ذلك- من دقيق الحنطة! فإن نضج فهو "العيش الصالح" وناهيك به، وإلا فالماء والدقيق دواء يسمى "لِمْرِيسْ" مفيد للاضطرابات العقلية ذات الطابع العصبي؛ فإذا لم يكن غذاء فهو دواء خال من الآثار الجانبية على الأقل!