التعليم في موريتانيا : إمكانات معتبرة تضيع بين العجز والإهمال (4) / د. محمد الأمين حمادي

تعزيز وتشجيع   تدريس العلوم    

لا يختلف اثنان على أهمية العلم في تكوين شخصية المواطن المنفتح على العالم المعاصر والمسلح بالمهارات والخبرات الضرورية لمواجهة تحديات سوق العمل والمهن التي تعيش تحولا كاملا. وهذه الحقيقة أكثر تأكيدا بالنسبة للدول التي تواجه حاجة ماسة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

في هذا المقال سيتم تقديم تحليل للأبعاد المختلفة لسياسة تدريس العلوم آخذين في الحسبان المناهج والمقاربات التربوية، والبنية التحتية والمعدات، وتدريب وتأهيل مدرسي التخصصات العلمية، ونوعية التعلم والمراقبة والإشراف التربوي.

لقد حظي تدريس العلوم باهتمام كبير من لدن الدولة الموريتانية منذ نشأتها، كما هو واضح من الإصلاحات المختلفة في الأعوام 1959 و1979 و1999.  ويتم تدريس المواد العلمية في وقت مبكر من المسار التعليمي للطفل، حيث تدرس الرياضيات في السنة الأولى من التعليم الأساسي ويتم إدراج تدريس العلوم الطبيعية والاعمال التطبيقية بدء من السنة الثالثة الأساسية.  رغم كل ذلك الجهد والإرادة الواضحة في جعل أطفالنا يكتسبون المعارف العلمية مبكرا إلا أن النتائج لا ترقى إلى الأهداف المنشودة. فلا تزال التخصصات العلمية محدودة الانتشار، والشعب العلمية تفتقر إلى الجاذبية وكأن العلوم البحتة هي من اختصاص أصحاب المواهب والنجباء من أبناءنا. ولا أدل على هذه الوضعية المزرية من أن المؤشرات الصادرة عن خلية التقييم بوزارة التهذيب والمتعلقة بمستويات التلاميذ في العلوم وخاصة في الرياضيات تعتبر كارثية ومقلقة إلى أبعد الحدود. كل ذلك على الرغم من أن الدولة قد عمدت إلى إنشاء بنى تحتية متخصصة، فتضاعفت المختبرات والقاعات المتخصصة منذ انطلاق إصلاح 1999 وبعد بناء المؤسسات المدرسية الحديثة. لكن المعدات والتجهيزات لا تزال غير متوفرة بالعدد المطلوب في كثير من الأحيان.

لقد أدى النقص الكبير في قاعات المعلوماتية وتجهيزاتها إلى جانب النقص الحاصل في عدد المدرسين، إلى العجز عن تدريس المعلوماتية المقرر في إصلاح عام 1999 وهي المهارة التي لا غنى للشباب اليوم عن اكتسابها. صحيح أن الدولة بذلت جهودا كبيرة في تكوين وتأهيل مدرسي التخصصات العلمية. وقد تم إدراج اختبار في الرياضيات في مسابقة دخول مدارس التكوين (المرسوم 281-2010). أما في التكوين المستمر فقد تم تنظيم العديد من ورشات التدريب: المعلمون بين عامي 1981 و 1999 في الرياضيات والعلوم الطبيعية، وأساتذة المواد العلمية بين عامي 2002 و 2010. لكن النقص في عدد المدرسين المؤهلين كبير جدا. ولا أدل على ذلك من أن المدرسة العليا للتعليم لم تخرج على مدى ست سنوات سوى 219 أستاذا في التخصصات العلمية في حين أن الحاجة كانت تدعو إلى تخريج 720 أستاذا.

لقد تم إنشاء وتدريب سلك المفتشين الذين يعهد إليهم مهمة المراقبة والإشراف التربوي. على المستوى الأساسي، يتم تعيين المفتشين من بين أفضل المعلمين ويخضعون للتدريب لمدة سنتين إلى أربع سنوات.  وهم متوفرون بعدد كبير نسبيًا ويغطون جميع مناطق البلد. أما في المرحلة الثانوية، فيتم تعيين المفتشين من بين أفضل الأساتذة لكن أعدادهم قليلة نسبيًا ويوجدون كلهم في نواكشوط. على الرغم من إتاحة وسائل للنقل للإدارات الجهوية للتهذيب لا تزال هناك صعوبات في تقريب وتوفير الدعم التربوي للمعلمين.

 البرامج والمناهج التربوية        

بحسب ما يفيده الخبراء المحليون، فإن الإصلاحات والابتكارات (مراجعة المناهج، والمقاربات التربوية) لا تعكس في الغالب إرادة حقيقية لدى   المسؤولون عن النظام التربوي الموريتاني بل يبدو أنها تتم تحت    « " تأثيرات الموضة" ، وربما في بعض الأحيان لأسباب نفعية بحتة.  

من أكبر المعوقات التي تواجه التلاميذ في المدرسة هو الانتقال من التعلم بالعربية إلى الفرنسية لأنهم لا يتقنون هذه اللغة الأخيرة تمامًا، وهذه الصعوبة يزيد من حدتها كون المعلم نفسه لا يتقن الفرنسية أحيانًا. ووفقا لمدرسي المواد العلمية، فإن حجم التدريس العلمي (الوقت والضارب) في التعليم الأساسي، وفي الإعدادي وفي الشعب الأدبية ضعيف للغاية بحيث لا يسمح للتلاميذ باكتساب المعارف. أما بالنسبة للبرامج، فغالبا لا يتم تنفيذها على الوجه المطلوب، بدءًا من الفكرة، مرورا بالتجريب، ثم التصديق ثم التعميم (تدريب المعلمين، والمتابعة والتقييم). وعلى الرغم من إعادة كتابتها في عام 2016، فإنها لا تشجع على استخدام الأساليب الفعالة.

البنى التحتية والمعدات        

تعاني البنى التحتية المتخصصة التي تم إنشاءها بهدف تحسين تعليم العلوم، من مجموعة من النواقص نكر منها: 

- عدم احترام المعايير المحددة المتعلقة ببناء القاعات كما هو مبين في النصوص القانونية ذات الصلة، وهو ما جعل الكثير من المختبرات وقاعات الأعمال التطبيقية غير صالحة للاستعمال. 

- النقص في المعدات وعدم انتظام وصولها.

- والنقص في توفر فنيي المختبرات. 

ومن البديهي أن النقص الحاصل في عدد المخابر واضح للعيان. فحسب إحصائيات 2017 يوجد لدينا 308 إعدادية في التعليم العمومي و257 إعدادية في الخصوصي. و من بين هذه الإعداديات البالغ عددها 308، 45 فقط تشتمل على مختبر. أما بالنسبة ل 257 إعدادية خصوصية فإن 16 منها تمتلك مختبر. و وفقًا لهذه البيانات فإن الثانويات العمومية توجد في وضع أفضل، حيث تشتمل 110 ثانويات على مختبر من أصل 133 ثانوية. ومهما يكن فإن النقص واضح جلي ونفس الحال ينطبق على ال 120 ثانوية خصوصية حيث لا يمتلك منها مخبرا إلا 12 ثانوية. ومن الجدير بالذكر أن جميع المؤسسات التي بنيت بعد البدئ في تنفيذ البرنامج الوطني لترقية قطاع التعليم المعروف اختصارا ب PNDSE   تحتوي على قاعات للمعلوماتية، في حين أن المؤسسات التي بنيت قبل تنفيذ هذا البرنامج لا تحتوي على هذه القاعات. وحتى إن كان هذا البرنامج قد أخذ في الحسبان تعليم المعلوماتية كما هو واضح من وجود قاعة للمعلوماتية في كل مؤسسة تعليمية، إلا أنه من الواضح أن جميع المؤسسات التي تم إنشاؤها حديثًا، لم يتم تزويد قاعاتها للمعلوماتية بالتجهيزات اللازمة. وفي المحصلة النهائية فإن المؤسسات التعليمية التي تمتلك قاعات للمعلوماتية صالحة للاستعمال هي: 29 إعدادية عمومية و7 إعداديات خصوصية، و21 ثانوية عمومية و7 ثانويات خصوصية.

 تكوين  وتأهيل مدرسي التخصصات العلمية        

من المهم أن نذكر هنا حالة مهمة كثيرا ما تتردد على ألسن الخبراء التربويين وهو أن الطريقة التي يتم بها وضع اختبارات مسابقة دخول مدارس تكوين المعلمين لا تمكن من اختيار أفضل المترشحين خاصة بالنسبة للمواد العلمية. فالرياضيات هي المادة العلمية الوحيدة التي يتم فها الاختبار، وضاربها ضعيف  والتعويض بين الدرجات متاح للمترشحين ونفس الحال ينطبق على امتحان التخرج من المدرسة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن غالبية المكونين في مدارس تكوين المعلمين ليسوا علميين كما أن النقص في عدد المكونين المتخصصين يضطر المدرسة إلى استخدام مكونين آخرين غير متخصصين. هذا بالإضافة إلى ضعف الطاقة الاستيعابية لمدارس تكوين المعلمين مما يحد من فاعلية التعليم العلمي.

وهذه الوضعية تنعكس على الطواقم التدريسية في المؤسسات التعليمية الأساسية والثانوية حيث تلجأ الإدارات الجهوية إلى استخدام غير المتخصصين. ووفقًا لبيانات إدارة المصادر البشرية في وزارة التهذيب للعام 2017، فإن نسبة الأساتذة العقدويين في المواد العلمية يمثلون 28٪ من إجمالي عدد الأساتذة في التخصصات العلمية وأقل ما يمكن أن يقال عن هذه الحالة هو أن سياسة الوزارة في مجال الاكتتاب لم تأخذ في الحسبان الحاجة الحقيقية من مدرسي المواد العلمية.

الكتب المدرسية        

لا شك أن إنشاء مؤسسات مسؤولة عن تصميم ونشر وتوزيع الكتب المدرسية والوسائل التعليمية لتدريس العلوم كان خطوة مهمة، ولكن الافتقار إلى الإمكانات المالية يجعل هذه الجهود غير فعالة. 

أما بخصوص الكتب المدرسية المنتجة محليًا فإنها غير جذابة البتة نظرًا لعدم تناسقها في الشكل والرسوم التوضيحية وصعوبة قراءة النصوص وتدني جودة الورق والوزن الثقيل والمحتوى غير الكافي وهلم جرا. كل هذه النواقص إنما مردها إلى ظاهرة الارتجال وعدم وجود متخصصين في مجال الطباعة والنشر.

   برنامج المعلوماتية        

تم تطوير برنامج للمعلوماتية من قبل فريق من الأساتذة والمفتشين من تخصص الرياضيات. وقد تمت كتابة المنهج الخاص بهذه المادة وفق مقاربة الكفايات وتم في البداية تكليف أساتذة الرياضيات بتدريسها بالنظر إلى قلة الأساتذة المخصصين في هذا المجال..

فيما يتعلق بالكتاب المدرسي، لم ينشر المعهد الوطني التربوي ، حتى الآن ، أي كتاب  لهذا التخصص ، مما أخر تدريسه لعدة سنوات.

جودة التعليم        

من الضروري أولاً أن نتذكر النتائج المأساوية للتلاميذ في التقييمات التي أجرتها وزارة التهذيب الوطني في العام 2014 والتي أفضت إلى استنتاج مقلق مفاده أن 9% فقط من تلاميذ السنة الخامسة ابتدائية هم من يعرفون البرنامج المقرر في مادة الرياضيات.وأن هذه هي نفس النسبة في العام 2011 بينما كانت نسبة التلاميذ الذين يستوعبون المقرر في مادة الرياضيات 11% عام 2003 .

وتشير نتائج البكالوريا لعام 2014، في شعبة الرياضيات إلى أن التلاميذ يواجهون صعوبات حقيقية في استيعاب برنامج شعبة الرياضيات والشعبة الفنية. كما لوحظ أن أفضل نتيجة كانت في الحوض الغربي، حيث تمكن 11 ٪ فقط من المترشحين للبكالوريا في شعبة الرياضيات من الحصول على 50 ٪ أو أكثر من النتيجة الإجمالية في هذا التخصص.

أما بالنسبة للشعبة الفنية، فإن الباكالوريا يتم تنظيمها فقط في نواكشوط لكن على الرغم من هذه الوضعية التي من المفترض أن تسهل المراقبة والإشراف الدائم، فإن نتائج التلاميذ في الرياضيات لا تبدو أفضل من تلك التي تمت ملاحظتها بالفعل في شعبة الرياضيات. فقد حصل 9٪ فقط من المترشحين على درجات أعلى أو مساوية لتك الحاصلة في شعبة ​​الرياضيات.

إذا كانت الممارسات والأساليب المتبعة في التعليم العلمي الثانوي في موريتانيا، ليست تفاعلية بما يكفي وتفتقر إلى المراجع التجريبية، ولا تشجع على الفهم الجيد للمبادئ الأساسية للعلوم، فإن مستوى المدرسين أمر مشكوك فيه هو الآخر. فقد دلت عملية التقييم التي أخضع لها التلاميذ المعلمون عام 2013 على أن 10 ٪ فقط منهم تمكنوا من الوصول إلى الحد المطلوب في الرياضيات للتدريس في المدرسة الابتدائية.  فالتدريس نظري بحت يفتقر إلى مرجع تجريبي من الممكن أن يساعد التلميذ المعلم على وضع تصور أفضل للمفاهيم.

المتابعة والإشراف التربوي        

ضعيفة هي عمليات المراقبة والإشراف التربوي وذلك لأسباب تختلف باختلاف سلك التعليم. ففي التعليم الأساسي، فإن افتقار المفتشين إلى وسيلة للنقل هو الذي   يعيق هذه الأنشطة بشكل أساسي، في حين أن المفتشين في المدارس الثانوية قليلون ويتركزون في نواكشوط.

في المستوى الأساسي، يتوفر المفتشون بعدد كبير ويتوزعون على جميع مقاطعات الوطن. لكن هناك العديد من العوائق التي تحد من إشرافهم على المواد العلمية: الاعتمادات المالية التافهة ووسائل النقل المتهالكة .  ولكن يجب الاعتراف بأن مستوى بعض هؤلاء المفتشين في التخصصات العلمية منخفض في بعض الأحيان ولعل السبب يكمن في عدم اشتراط أي مستوى من إتقان تدريس العلوم لا في مسابقة امتحان القبول، ولا التكوين الأولي للمفتشين، ولا امتحان التخرج. 

علاوة على ذلك، فإن طرائق التقييم تجعل من الصعب مراقبة وتقييم تعليم العلوم في المستوى الأساسي. لا تذكر شبكات تقييم المعلم، وكذلك شبكات المفتشين، الجوانب المتعلقة بتدريس العلوم (التجريب، الممارسة، العمل اليدوي، إلخ).  

في المستوى الثانوي، يواجه التفتيش مشكلات مختلفة. فعدد المفتشين صغير نسبياً وهم يتركزون في نواكشوط. وهذا يؤدي إلى عدم وجود رقابة محلية خارج العاصمة.

نظرًا للحاجة الماسة إلى المدرسين في التخصصات العلمية ونظرا لعدم تمكن المدرسة العليا للتعليم من الاستجابة السريعة للحاجة الفعلية من المدرسين في هذه التخصصات فإن اللجوء إلى اكتتاب العقدويين لا مندوحة عنه في الوقت الحالي. لذلك سيكون من الضروري تقوية الإشراف المباشر والدائم على هؤلاء العقدويين ومن جهة أخرى النظر في إمكانية جذب المتقاعدين من ذوي التخصص العلمي، ربما بمحفزات مالية عند الاقتضاء. وللتخفيف من الضغط على المدرسة العليا للتعليم، يمكننا أن نعهد إلى الجامعة بالمشاركة في تكوين الأساتذة في المستقل من خلال إنشاء شعبة خاصة بمدرسي المواد العلمية (الفيزياء والكيمياء والرياضيات والعلوم الطبيعية). كما يمكن تصور إنشاء كلية للتربية.

يتواصل ،،،

15. أغسطس 2019 - 18:29

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا