الإختلاف لا يعني الخلاف / باباه ولد محمد غالي

تفاقمت في الأيام الأخيرة مسألة اختلاف أهل العلم في رؤية الهلال، والحقيقة أن هذا الخلاف القديم المتجدد لم يكن يوما يفسد للود قضية بين أهل العلم 

ولكن وللأسف الشديد ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الجماعات من صغار النفوس من المتعصبين الذين لم يستضيئوا بنور العلم ولم يتحلو بالأدب تجاه أهله 

ولم يعلموا أن اختلاف العلماء رحمة للمسلمين وأنه ظاهرة صحية في هذا الدين فقد وقع في صدر الإسلام بين أعظم جيل عرفته البشرية جيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

ولكنه كان يدار بطريقة تُجلي الحق ولا تورث الشنآن ،

وقد ظهر الإختلاف كذالك بين علماء المذاهب الأربعة ولم يذكر أن أحدا منهم تجاوز حد اللياقة الأدبية فيه ، فقد ورد أن مالك ابن أنس رحمه الله كان يكتب لليث ابن سعد بعد كل مسألة إن اختلافنا في الرأي لايفسد للود قضية 

وورد عن الشافعي رحمه الله أيضا قوله (ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإلم نتفق في مسألة )وروي عنه أيضا قوله (ما ناظرت أحدا إلا تمنيت أن يجري الله الحق على لسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته )

وكان الإمام الذهبي رحمه الله يثني على تقي الدين السبكي شيخ الأشاعرة على ما كان بينه وبين شيخه تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله من اختلاف في العقيدة وغيرها 

من هذا المنطق أردت من خلال هذا المقال اماطة اللثام عن بعض أقوال أهل العلم حول رؤية الهلال واختلاف الأمصار 

واتحادهم ومن قال به من أهل العلم ودليل كل طرف.

فأقول وبالله التوفيق إن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت للناس وللحج وجعل مراقبتها فرض كفاية على المسلمين 

ولايثبت الهلال إلا برؤية عدلين عند المالكية في جميع الأهلة وعند الحنابلة ما عدى رمضان فيثبت عندهم برؤية عدل واحد 

ودليلهم في ذالك ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته  فصام وأمر بالصيام (أخرجه أبو داوود)

وقد اختلف أهل العلم في مسألة اتحاد الرؤية بين الأمصار واختلافها 

فذهب المالكية والحنابلة والأحناف إلى أن الهلال يثبت في سائر الأقطار  إذا ثبت بقطر واحد من أقطار المسلمين ودليلهم في ذالك قول النبي صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته والظاهر أن الخطاب هنا عام  لا مخصص له من الشرع

ولهذا أشار خليل ابن إسحاق بقوله وعم إن نقل عنهما بهما لا بمنفرد.

وأما الشافعية فقالوا إذا ثبتت رؤية الهلال وجب على أهل كل جهة قريبة منها من جميع النواحي أن يصوموا بناء على هذا الثبوت ،

والقرب عندهم باتحاد المطالع بأن يكون بينهما أقل من أربعة وعشرين فرسخا أي ما يقارب مائة كلو متر تقريبا

ولم يستندوا في قولهم هذا على نص وإنما قاسوا ذالك على مسافة القصر في الصلاة في السفر

وعموما المسألة تعتمد على تحقيق المناط وتحقيق المناط يحتاج إلى معرفة بالواقع وليس فقط معرفة النصوص 

وإذا عدنا إلى الواقع نجد أن علم الفلك قد قدم لنا معرفة واسعة هذه الأيام لم تكن متوفرة في أيام الأئمة رضوان الله عليهم. نحن نعرف اليوم مثلاً أن ولادة الهلال تحصل في وقت واحد بالنسبة لجميع مناطق الأرض، أما رؤيته فتختلف حسب المواقع. كما هو الحال في إختلاف المواقع في رؤية طلوع الشمس.

ونحن نعلم من النصوص الشرعية أن بداية الشهر القمري لا تحتسب من لحظة ولادة هلاله بل من وقت رؤية هلاله. ورؤية الهلال غير ممكنة إلا بعد مرور عدة ساعات على ولادته. لأن الهلال عند ولادته يكون صغيراً وقريباً من الشمس فيغلب نور الشمس على نوره ويمنع رؤيته.

ونحن نعلم أن الهلال يتأخر عن الشمس كل يوم بحوالي 48 دقيقة، أي إذا غاب بعد غياب الشمس بساعة فإنه في اليوم التالي يغيب بعد غيابها بحوالي ساعة و48 دقيقة. وهذا يعني أن القمر يتخلف عن الشمس دقيقتين كل ساعة.

فإذا ولد هلال رمضان مثلا الساعة 19 من يوم 26 آذار فإن رؤيته ممكنة حوالي الساعة 24 من اليوم نفسه لأن الهلال يكون قد تخلف عن الشمس بحوالي 11 دقيقة أي يغيب بعد غياب الشمس بحوالي 11 دقيقة أي يغيب بعد غياب الشمس بـ 11 دقيقة. أي تمكن رؤيته في كثير من بقاع الأرض مثل المغرب مثلاً.

فعلى القول باتحاد الرؤية وهو رأي جمهور أهل العلم 

إذا رآى بعض المسلمين الهلال وأعلموا غيرهم بتلك الرؤية صار الجميع ملزمين بتلك الرؤية. 

لأنه لا يوجد في الواقع  أثر لاختلاف المطالع، لأن ولادة الهلال تحصل في مكان واحد وفي لحظة واحدة بالنسبة لجميع بقاع الأرض، والاختلاف هو في الرؤية، ورؤية بعضهم ملزمة للباقين.

أما القول باعتبار اختلاف المطالع والرءا فقد قال  به أيضا عدد من المتأخرين من المالكية 

ودليلهم في ذالك  ما رواه مسلم في صحيحه من حديث كريب مولى ابن عباس أن أم الفضل بنت الحارث بعثته في حاجة إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه يوم الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: فلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ووجه الشاهد عندهم من هذا  الحديث يتضح في النقاط التالية

1- أن المسلمين في ذلك الوقت دولة واحدة ومعاوية خليفتهم، وابن عباس ممن يقرون ذلك، فلو لم يكن اختلاف المطالع معتبرا لما وسعهم خلافه.

2- أن كريباً أخبر ابن عباس بأنه رأى الشهر ورآه الناس معه فصام وصاموا ولم يأخذ ابن عباس برؤيته، وكريب تابعي جليل من أفضل من روى عن ابن عباس وغيره من الصحابة، وقد خرجت له أحاديث كثيرة في البخاري ومسلم وغيرهما.

3- أن ابن عباس قال هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسب الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عليم بمدلول اللفظ وبخطورة نسبة شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل به نصاً أو مضموناً.

4- اختلاف زمن غروب الشمس بين أهل الشام وأهل المدينة طويلاً، كما هو معروف.

وعليه، فلا لوم عندهم على المسلمين في أن يختلفوا في بداية الصوم ونهايته، وفي تحديد يوم عرفة ويوم العيد ما دامت مطالعهم مختلفة، لأن العبرة عز

هظ في دخول الشهر بالرؤية أو بإتمام الشهر ثلاثين يوماً، ويكون يوم عرفة ويوم العيد بالنسبة لمن بمكة غير يوم عرفة ويوم العيد بالنسبة لغيرهم ممن يختلف مطلعهم عنهم كالشام أو غيرها، وإذا تأخرت رؤيتهم للهلال عن رؤية أهل مكة مثلاً فلا يقال إنهم صاموا يوم عرفة في يوم العيد وصومه ممنوع، لأنه لم يكن قد دخل يوم العيد عندهم حتى يقال عنهم إنهم صاموا يوم العيد، وأما أهل البلد الواحد المتحد المطلع فيلزمهم أن يتحدوا في الصوم والعيد إذا رأوا الهلال أو أتموا الشهر فيصوموا أو يضحوا في يوم واحد باعتبار ثبوت الهلال لديهم، أو إكمال عدة الشهر، ولا يصح أن يوافقوا أهل البلد الآخر، ولا يصح أن يختلفوا ويتفرقوا في هذه الحالة، لما ثبت في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصوم يوم تصومون، والإفطار يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون.

ومن هنا يظهر أنه إذا لم يتم الشهر عندهم، ولم يروا الهلال، وأعلن غيرهم عن دخول الشهر أو خروجه ممن يخالفونهم في المطلع، وأخذ بعض الناس برؤيتهم أخذاً بمذهب أكثر الفقهاء القائل بعدم اعتبار اختلاف المطالع، فقدم صومه أو فطره معهم قبل أهل بلده فلا ينكر عليه، لأنه آخذ بقول معتبر لأهل العلم.

والحاصل أن الأمر فيه سعة ولله الحمد

وعلى المسلمين جميعا مراعات الإختلاف وعدم التعصب .

 

15. أغسطس 2019 - 18:24

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا