أخشى ما كان يخشاه الموريتانيون هو أن يستنسخ الرئيس محمد ولد الغزواني وسلفه الرئيس محمد ولد عبد العزيز ثنائية "بوتن/مدفيدف"، فمنذ ترشح ولد الغزواني راجت شائعات كثيرة، وجرت أحداث توحي بأن الأمور تسير في ذلك الاتجاه، حتى خطاب ترشحه حمل مؤشرات توحي بأنه سائر على نهج سلفه، وتوقع كثيرون أن ولد عبد العزيز إنما يقوم بالتفافة على الكرسي ليعود إليها من جديد، وأن ولد الغزواني هو مجرد حافظ للكرسي حتى يعود إليها صاحبها، لكن ما جرى ما أحداث منذ أن نصب ولد الغزواني رئيسا للجمهورية إلى اليوم يجعل المراقب للمشهد السياسي الوطني يستطيع أن يجزم بأن ولد عبد العزيز ليس "بوتن" وولد الغزواني ليس "مدفيدف".
أولى المؤشرات على أن الوضع خلاف ما كان متوقعا، هي أن ولد عبد العزيز خرج من السلطة تماما، ولم يحتفظ بشيء منها لنفسه، سواء قصد ذلك أو اضطر إليه اضطرارا، ولو كان سيعيد مثال بوتن لكان انتُخب رئيسا لحزب الحاكم مباشرة عند تنحيه عن الرئاسة، ثم عين بعد ذلك وزيرا أول، حتى يظل له دور مباشر في إدارة البلاد، لكن أيا ذلك لم يحدث، ومن طبيعة الموريتانيين أن ذاكرتهم السياسية ضعيفة، وميولهم السياسية لا تكون إلا لمن هو في السلطة ومن يمتلك في يديه خيوطها، وعندما يتجرد الإنسان عنها، فإنه يصبح بعيدا، ولا تأثير له، والسلطة في موريتانيا اليوم هي في المنصب التنفيذي، ورئيس الجمهورية بشكل خاص، ثم القادة العسكريون الكبار، ورجال الأعمال رؤساء القبائل الكبيرة ذات التأثير الانتخابي، ولو نظرنا إلى ما بقي لدى ولد عبد العزيز من ذلك لوجدناه قليلا جدا، فقد خرج من الرئاسة كما خرج قبل ذلك من الجيش، ولم تعد له وظيفة تنفيذية ولا حزبية، أما السلطات الأخرى كسلطة القبيلة ورأس المال، فلم يكن يملك منها شيئا مسبقا، وحتى لو ملكه فهي كلها سلطات ثانوية تحتاج إلى رفد من السلطات الكبرى لكي يكون لها ذلك التأثير الفاعل، فحاصل الأمر أننا أمام وضع جديد انتهى فيه عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز تماما، وقد أحس كثير من الملتفين حول ولد عبد العزيز مبكرا بهذا الانسلاخ من السلطة، فبادروا بالانفضاض عنه، والالتفاف حول ولد الغزواني، ولم يكن في ذلك عيب لأن الفكرة التي راجت إبان فترة الترشح والانتخاب هي أن ولد الغزواني مرشح "استمرار النهج"، وأنه ليس سوى امتداد لنظام سابقه، فكان طبيعيا أن يلتفوا حوله، كما التف كثيرون آخرون لأسباب أخرى، لكن العيب هو في أولئك العتاة من أنصار ول عبد العزيز المتشبثين به طيلة فترة حكمه والذين روجوا لعهدة ثالثة ودعوه لتغيير الدستور، ثم فجأة انقلبوا عليه بعد أن تأكدوا من ذهاب حكمه، وبدأوا يكيلون له الانتقاد بل الشتائم المقذعة علنا، شاهدنا ذلك على شاشات القنوات، فهذا عيب ما بعده عيب، وأنا هنا أدافع عن الصدق وشرف الموقف، وأعيب النفاق والتلون، ولا أدافع عن الرئيس ولد عبد العزيز، لأنني لم أكن يوما من حزبه، ولا موالاته، ولا أنصاره، ولم يحدث أن أدليت بصوتي في أي انتخاب من الانتخابات الكثيرة في عهده، ولم أنس أنه انقلب على رئيس منتخب ديموقراطيا، وقضى على تجربة حرة في مهدها، وأعادنا إلى حكم العسكر، وحكم البلاد بكثير من الشوفينية والذاتية، وافتقر إلى رؤية تنموية شاملة، قادرة على أن تنهض بالوطن في شتى المجالات الحيوية، وكانت حصيلة عشر سنوات من حكمه ضئيلة جدا، رغم ما بذله من جهد محمود في مشاريع كثيرة هنا وهناك، كانت ستكون مفيدة للوطن والمواطن لو أنها دخلت في مشروع تنموي واحد شامل، لكنها بقيت جزئية، وأصبحت الفائدة منها ضئيلة.
الموالاة في ذاتها ليست عيبا إذا كانت عن قناعة وكان صاحبها صادقا فيها، لقد كنت أمقت بشدة نظام معاوية ولد الطايع، الذي دمر البلاد تدميرا شاملا، ورغم ذلك أتذكر بتقدير كبير الموقف المشرف ل "بيجل ول هميت" غداة الانقلاب على معاوية ولد الطايع، فقد ساد خوف شديد في أوساط الحزب الجمهوري والموالاة بشكل عام، وتخفى رجالها، ولزموا الصمت أشهرا، وابتعدوا عن الأضواء خوفا من القادم المجهول، وحاول كثيرون منهم التنصل من معاوية ومساوئ حكمه، والتقرب للحكام الجدد بأية وسيلة، في ذلك الظرف جلس بيجل في التلفزيون في مقابلة شهيرة، ودافع بشراسة وقناعة عن الحزب الجمهوري وعن نظام ولد الطايع، وقال قولته المشهورة "إن الحزب الجمهوري لم يمت"، وكان ذلك موقفا رفع شأنه كثيرا لصدق الموقف لا لغيره.
من المؤشرات الدالة أيضا على تغير الوضع أن الحكومة التي عينها الرئيس ولد الغزواني لم تنبع من الحزب الحاكم حزب ولد عبد العزيز، "الاتحاد من أجل الجمهورية"، ولم يكن غالبية أعضائها معروفين بأنهم نشطاء سياسيون، فقد استُبعد الحزب تماما من مشاورات تعيين الحكومة، ومن دلالات هذا الاستبعاد أن الوزير سيدي محمد ولد بوبكر الشخصية السياسية الأكثر تأثيرا وأثرة في عهد ولد عبد العزيز والذي كان أول من روج لمفهوم "استمرارية النهج" وأعطى انطباعا بأن ولد عبد العزيز سيبقى حاضرا في المشهد، ولاعبا رئيسيا فيه، سيدي محمد هذا استقال من الوزارة قبيل تسلم ولد الغزواني للرئاسة، وربما أحس بذلك الاستبعاد فبادر بالاستقالة أنفة من أن يقال، وأن يجد نفسه في العراء، كما فُعل بغالبية وزراء الحكومة السابقة، ففضل أن تكون بيده "لا بيد قصير".
لقد كان مجرد الحفاظ على نص الدستور، وتغيير شخص الرئيس مكسبا كبيرا جدا للبلاد، لأن النص هو الأساس في كل عملية ديمقراطية، واقتناع الشعب به، لا يتأتى إلا من عادة تطبيق نصوصه، فيصبح بعد وقت ثقافة من الصعب تجاوزها أو تغييرها إلا بأحسن منها، واليوم ومع هذه المؤشرات على تغير النظام فعلا، وذهاب تأثير الرئيس السابق، فهذا أيضا مكسب آخر للبلاد، لأن الوجه تغير واللاعبون تغيروا الواحد، وخرجنا من جلباب الشخصية الواحدة التي تستمر كالصنم عقودا طويلة جاثمة على صدورنا، وهذا يخفف من قداسة الرئيس ويؤهلنا للاقتناع بأنه مجرد شخصية منتخبة لتؤدي مهمة لفترة محددة ثم تترك مكانها لشخصية جديدة، مما يصعب على الرؤساء مهمة التأله، واستدامة المنصب.
لا نعرف ما يحمله لنا المستقبل، ولا ما سيكون عليه النظام الجديد الذي بدأ يتشكل من لحظة تنصيب الرئيس ولد الغزواني، ولا يزال الوقت مبكرا على الحكم عليه وعلى حكومته، لكننا ندرك بعمق أن الظروف الحاضرة توفر له فرصة ذهبية لإحداث نهضة تنموية شاملة، إن هو اقتنع بذلك وأراده، وإن هو استفاد من أخطاء سلفه، فترك لحكومته حرية العمل وراقبها بحزم، وسيكون التصدي للفساد المعشش في الإدارة منذ عقود طويلة هو المحك الأول لوطنية وصلاحية مشروعه من عدمها وهو -ما فشل ولد عبد العزيز في التصدي له- ولا سبيل إلى أية نهضة تنموية قبل استبعاد الفاسدين عن إدارة الدولة وإصلاح مساطير العمل الإداري وجعلها واضحة صريحة لا لبس فيها.