الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
كثر في هذه الأيام الحديث عن لجنة الأهلة، ووجهت اليها اتهامات بأنها خرجت على المذهب المالكي.. لأنها لم تتبع المذهب القائل بعموم الرؤية ..
وذهب البعض إلى ان اتباع قرارات اللجنة غير ملزمة للناس ..!
وأريد في هذا المقال أن أجيب بالأدلة الشرعية على هذين السؤالين :
هل خرجت لجنة الأهلة على المذهب المالكي ؟
وهل قراراتها ملزمة للناس ويجب اتباعها ؟
******
السؤال الأول : هل خرجت لجنة الأهلة على المذهب المالكي ؟
الذي يتبين من خلال مراجعة النصوص المالكية أن لجنة الأهلة بتبنيها للمذهب القائل بعدم عموم الرؤية لا تعتبر خارجة على المذهب المالكي ، ويتضح ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أن القول بعدم عموم الرؤية قول معروف في المذهب المالكي وهو رواية المدنيين عن مالك ومذهب البغداديين من اصحابه .
قال ابن رشد : ( وروى المدنيون عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية, إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك، وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك) بداية المجتهد (1/ 287).
وقال ابن عبد البر : (وقال-عبد الملك- في الشهادة: لا يلزم ذلك –أي الصوم- إلا أهل البلد الذين ثبتت عندهم الشهادة بحكم حاكمهم بذلك عليهم إلا أن تكون الشهادة ثبتت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم الصيام هذا تحصيل المذهب عند المالكيين البغداديين .وقد قيل: لكل بلد روية أهله لا يكلفون غير ذلك.) الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 335)
وقال المازري : (في لزوم ما ثبت بمدينة أهل مدينة أخرى قولان .) منح الجليل ـ عليش (3/ 492)
وقال ابن الماجشون : (إن ثبت ببينة عند حاكم غير الخليفة خص من تحت طاعته) منح الجليل ـ عليش (3/ 492)
وهذا القول ذكره ايضا ابن الحاجب في "جامع الأمهات".
ولهذا لم يزل يوجد من علماء المالكية من ينصر القول بعدم عموم الرؤية، ومن أمثلة ذلك :
قال القرافي : (نصب الله تعالى الأوقات أسبابا للأحكام كالفجر والزوال ورؤية الهلال كما نصب الأفعال أسبابا نحو السرقة والزنا والأوقات تختلف بحسب الأقطار، فما من زوال لقوم إلا وهو فجر لقوم، وعصر لقوم، ومغرب لقوم ،ونصف الليل لقوم ...
بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك الدرجة بعينها هي فجر وطلوع شمس وزوال وغروب ونصف ليل ونصف نهار.
وسائر أسماء الزمان ينسب إليها بحسب أقطار مختلفة، وخاطب الله تعالى كل قوم بما يتحقق في قطرهم ،لا في قطر غيرهم ..
فلا يخاطب أحد بزوال غير بلدة ولا بفجره وهذا مجمع عليه وكذلك الهلال مطالعه مختلفة فيظهر في المغرب ولا يظهر في المشرق إلا في الليلة الثانية بحسب احتباسه في الشعاع وهذا معلوم بالضرورة لمن ينظر فيه ومقتضى القاعدة أن يخاطب كل أحد بهلال قطره ولا يلزمه حكم غيره ولو ثبت بالطرق القاطعة كما لا يلزمنا الصبح وإن قطعنا بأن الفجر قد طلع على من شرق عنا , وإلى هذا أشار البخاري في هذا الحديث بقوله بأن لأهل كل بلد رؤيتهم) الذخيرة (2/ 490)
وقال ابن العربي معللا سبب رد ابن عباس رؤية أهل الشام المذكورة في حديث كريب :
(رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع وهو الصحيح ....ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بإشبيلية ليلة السبت، فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم، لأن سهيلًا يكشف من أغمات ولا يكشف من إشبيلية، وهذا يدل على اختلاف المطالع)أحكام القرآن لابن العربي (1/ 157)
وقال أبو الحسن القابسي رحمه الله في كتاب "الأسئلة" مبينا وجه الخطأ في عدم التفريق بين البلدان في الرؤية الذي درج عليه الكثير من المالكية: (جملة المتفقهين يطلقون لزوم حكم الرؤية عن موضعها من غير تقييد، ولا فرق بين بعيد فقط وبين بعيد أبعد بما تختلف به أحوال الأقاليم، وتتباعد فيه الأراضي بانخفاض وارتفاع، وبحسب ذلك تختلف المطالع والمغارب والاستواءات وغير ذلك مما لا خفاء به عند أهل المعرفة بوضع الأرض، وتسيير الأفلاك، وإطلاق ذلك مع الافتقار إلى البيان، ومسيس الحاجة إليه من الخطأ البين الذي لا يشك فيه أحد) نقلا عن "العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال": 1/ 39.
وما دام القول بعدم عموم الرؤية موجودا في المذهب المالكي ورجحه من رجحه من فحول المالكية فلا حرج على لجنة الأهلة أن تعمل به لاعتبارات ترى أنها مرجحة ، أو لأنه أصلح للزمان والمكان، وقد حرم من ركوب سفينة الفقه من بقي واقفا على ساحل الجمود!
الوجه الثاني : إذا لم تعتمد لجنة الأهلة على رؤية السعودية فليس في هذا مخالفة للمذهب المالكي ، لأن المالكية لايقولون بعموم الرؤية إلا بالنسبة للأقطار المتقاربة ، أما الاقطار المتباعدة فكل قطر يعمل برؤيته .
قال ابن جزي : ( إذا رآه أهل بلد لزم الحكم غيرهم من أهل البلدان وفاقا للشافعي خلافا لابن الماجشون ولا يلزم في البلاد البعيدة جدا كالأندلس والحجاز إجماعا) القوانين الفقهية(1/ 126).
وإذا كانت الحجاز بعيدة من الأندلس فهي من بلادنا أكثر بعدا.
وقد بين ابن رشد أن العلة في تفريق المالكية بين البلدان البعيدة والبلدان القريبة راجعة الى اعتبار الاختلاف في المطالع ، حيث قال في "بداية المجتهد" : (وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز والسبب في هذا الخلاف تعارض الأثر والنظر، أما النظر فهو أن البلاد إذا لم تختلف مطالعها كل الاختلاف فيجب أن يحمل بعضها على بعض لأنها في قياس الأفق الواحد وأما إذا اختلفت اختلافا كثيرا فليس يجب أن يحمل بعضها على بعض ).
واختلاف المطالع مازال موجودا فيبقى الحكم معمولا به ما دامت العلة باقية .
وبهذين الوجهين يتضح أن لجنة الأهلة لم تخرج على المذهب المالكي .
***********
السؤال الثاني : هل قرارات اللجنة ملزمة ويجب على الناس اتباعها ؟
الذي يظهر من خلال الأدلة الشرعية ونصوص الكتاب والسنة وكلام أهل العلم ..أنه يجب على الناس اتباع قرارات لجنة الاهلة واعتمادها ويأثمون بمخالفتها والخروج على امرها ..
ويتقرر ذلك من عدة اوجه :
الوجه الأول : أن القول بعموم الرؤية مسألة خلافية واختيار اللجنة لأحد القولين ينزل منزلة حكم الحاكم لأنها هي الجهة المختصة التي عهد لها الحاكم بهذا الأمر فحكمها ملزم ويجب اتباعها .
ومعلوم أن حكم الحاكم يرفع الخلاف ولا يبقى معه للمخالف إسعاف .
فيتعين على الناس اتباع القول الذي رجحته لجنة الأهلة.
الوجه الثاني : أن مخالفة قرار لجنة الأهلة فيه مخالفة صريحة للحديث الصحيح عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون" رواه الترمذي وقال : "وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس".
ولاشك أن الجماعة المطلوب موافقتهم في الصوم والفطر هم أهل البلدة التي يسكنها الشخص لا غيرهم من البلدان البعيدة ،ولا يتحقق ذلك إلا بالانسجام مع الناس والالتزام بالرؤية التي قررها الحاكم ما دام لها وجه شرعي ومسلك مرضي.
قال أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجه" -بعد أن ذكَر الحديث-: "والظاهر أنه معناه أنَّ هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل، وليس لهم التفرُّد فيها؛ بل الأمر فيها إِلى الإمام والجماعة، ويجب على الآحاد اتباعهم للإِمام والجماعة.
وقال الإمام أحمد : أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا، وهذا قول الحسن وابن سيرين.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن مطرف عن عامر: لا تصومن إلا مع الإمام، فإنما كانت أول الفرقة في مثل هذا. وإسناده حسن، ورجاله ثقات، عدا ابن فضيل الضبي- فهو صدوق، كما في التقريب ص 52.
وروى ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنكر على محمد بن سويد الفهري لما أفطر أو ضحى قبل الناس بيوم. وإسناده حسن، من أجل إسماعيل بن عياش، فإنه صدوق فيما روى عن الشاميين، ضعيف فيما رواه عن غيرهم، وعمرو بن مهاجر من أهل الشام. انظر تهذيب التهذيب 1 \ 322- 326،
الوجه الثالث :أن القول بعموم الرؤية قول مرجوح من حيث الدليل ،والقائلون بأن لكل بلد رؤيته أسعد بالدليل من غيرهم.
فالقول الذي اعتمدته اللجنة هو الراجح من حيث الدليل ويجب اتباعه لأن اتباع الراجح واجب .
وقبل أن أذكر الدليل على ذلك ، أنبه إلى أن القائلين بعموم الرؤية ليس لديهم من أصل يعتمدون عليه إلا عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وهذا العموم الذي استدلوا به غير مسلم لعدة أسباب :
السبب الأول :
أن قوله صلى الله عليه وسلم : (صوموا لرؤيته) ليس نصا في العموم لأن الرؤية مصدر مضاف إلى مفعوله ،وفاعله محذوف يمكن تقديره على التخصيص فنقول (صوموا لرؤيتكم له) ويمكن تقديره على التعميم فنقول : (صوموا لرؤية المسلمين له).
ولعل احتمال التخصيص هو الذي اشار إليه الجصاص بقوله :(وكل قوم رأوا الهلال فالفرض عليهم العمل على رؤيتهم في الصيام والإفطار بقوله صلّى اللّه عليه وسلم : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ويدل عليه اتفاق الجميع على أن على أهل كل بلد أن يصوموا لرؤيتهم وأن يفطروا لرؤيتهم وليس عليهم انتظار رؤية غيرهم من أهل سائر الآفاق فثبت بذلك أن كلا منهم مخاطب برؤية أهل بلده دون غيرهم) أحكام القرآن (الجصاص) ، ج 1 ، ص : 275
السبب الثاني : أن قوله صلى الله عليه وسلم : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ورد في سياق النهي عن تقدم شهر رمضان بالصوم قبل ثبوت الرؤية ، هذا هو سبب ورود الحديث ،ومن الروايات التي بينت ذلك:
رواية الشيخين عن ابن عمر« لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمى عليكم فاقدروا له ».
ورواية الترمذي عن أبي هريرة : ( لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا).
ورواية الترمذي عن ابن عباس :( لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين يوما).
ورواية البيهقي عن عمر بن الخطاب :« لا تقدموا هذا الشهر ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ».
فهؤلاء أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يروي هذا الحديث ويبين أن سبب وروده هو النهي عن تقدم شهر رمضان بالصوم .
وإذا كان هذا هو سبب الحديث فإنه يضعف العموم الذي يستدل به القائلون بعموم الرؤية بل إنه يقضي عليه نهائيا..!
لأن الحديث إذا كان الغرض منه التأكيد على عموم الرؤية يكون تقديره : "صوموا لرؤيته أينما وجدت وأفطروا لرؤيته اينما وجدت".
وأما إذا كان الغرض منه النهي عن تقدم الرؤية بالصوم فلا يصح ذلك التقدير ويبطل العموم الذي زعموه.
السبب الثالث :
أن قوله صلى الله عليه وسلم : "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون" .. يقضي على هذا العموم الذي زعموه ولا يمكن الجمع بينهما ، لأنه إذا ثبتت الرؤية عند حاكم بلدة ولم يعمل حاكم البلدة المجاورة بهذه الرؤية فلا يجوز لمن هم في ولا يته العمل بالرؤية المجاورة .
فيا سبحان الله !! كيف يشتهر قول كل هذه الشهرة وينافح عنه خيرة العلماء من المعاصرين والقدماء ،وما له من دليل في الكتاب والسنة إلا عموم مزعوم ..رجله مبتورة والأخرى مكسورة !!
أما الأدلة على إبطال القول بعموم الرؤية فنذكر منها :
الدليل الأول: حديث كريب ..
خرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام. قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها. واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر.
فسألني عبد الله بن عباس رضي اللهم عنهما، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟
فقلت: رأيناه ليلة الجمعة.
فقال: أنت رأيته؟
فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية .
فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه.
فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟
فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله. اتنهى
وهذا الحديث دليل على إبطال القول بعموم الرؤية من وعدة أوجه :
الوجه الأول : قول ابن عباس:(هكذا أمرنا رسول الله)صيغة صريحة في رفع هذا الحكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا تحتمل الشك ولا التأويل وابن عباس رضي الله عنه يعرف مدلول هذا اللفظ ويعرف خطورة نسبة شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل به نصاً أو مضموناً.
وأما ما ذهب إليه للشوكاني وابن دقيق العيد وغيرهم من العلماء رحمة الله عليهم من أن قول ابن عباس(هكذا أمرنا رسول الله) لا يفيد الرفع وإنما هو اجتهاد في فهم حديث (صوموا لرؤيته) فهذا تحكم شنيع ودعوى بلا دليل ورد للنصوص الصريحة بالاحتمالات والافتراضات !
وليت شعرى ! إذا جاز لنا أن نرد قول ابن عباس الصريح بمثل هذا التأويل وهذه الدعوى ،فقد جاز لنا أن نرد الكثير من الأحاديث التي رفعها الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة نفسها !
وقد نص العلماء على قبول رفع صيغ دون هذه الصيغة بكثير مثل قول الصحابي : "من السنة" وقوله "أمرنا" وقوله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم : "كنا نرى" كقول جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل" ، فهذه الصيغ كلها يعطى لها حكم الرفع ،وقد أشار إلى ذلك العراقي في ألفية الحديث بقوله :
قول الصحابي ( من السنة ) أو **** نحو ( أمرنا) حكمه الرفع ، ولو
بعد النبي قاله بأعصر **** على الصحيح ، وهو قول الأكثر
وقوله ( كنا نرى) إن كان مع **** عصر النبي من قبيل ما رفع
ثم إن ابن عباس من الصحابة الذين رووا حديث "صوموا الرؤيته وافطروا لرؤيته" والقاعدة أن الصحابي أدرى بمرويه من غيره فإذا روى حديثاً وفسره أو حمله على معنى من المعاني فإنه ينبغي الوقوف على ما ذهب إليه.
قال السمعاني : (وأما تفسير الراوي لأحد محتملي الخبر فيكون حجة في تفسير الخبر كالذي رواه ابن عمر أن المتبايعين بالخيار مالم يتفرقا ، وفسره بالتفريق بالأبدان لا بالأقوال فيكون أولى ، لأنه قد شاهد من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما عرف به مقاصده وكان تفسيره بمنزلة نقله) قواطع الأدلة ( 1/190 ).
وكثير من أهل العلم يقول بحجية قول الصحابي إذا لم يوجد له مخالف من الصحابة الآخرين..
والإمام البخاري صرح بوجوب العمرة فقال: ((باب وجوب العمرة)) . واستدل على ذلك بأنه قول الصحابة فقال: ((قال ابن عمر رضي الله عنهما: ليس أحد إلاّ وعليه حجة وعمرة)) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها لقرينتها في كتاب الله عز وجل : "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمرَةَ لِلَّهِ" [البقرة: 196] .
ومع أن مسألة الرؤية مما تعم بها البلوى فإنه لا يعلم لقول ابن عباس مخالف من الصحابة .
وحتى الذين لا يقولون بحجية قول الصحابي فهم لا يخالفون في تقديم قوله على قول غير الصحابي ،ولا شك أن القول بعموم الرؤية لم يرد صريحا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ،وإنما هو فهم فهمه بعض العلماء من حديث "صوموا لرؤيته" وقول ابن عباس مقدم على قولهم.
الوجه الثاني : الاستدلال بحديث كريب مقدم على الاستدلال بعموم حديث "صوموا لرؤيته"
لأن الخبر الذي هو نص في المسألة ودال على المراد منه دلالة قطعية مقدم على الخبر الدال على المراد منه بالظاهر .
قال ابن عاصم في مرتقى الوصول :
أو كان في المراد نصا أو ورد **** يدل من وجهين فهو المعتمد
ولا شك أن حديث كريب نص في مسألة عموم الرؤية بخلاف حديث "صوموا لرؤيته" فإنه يدل عليها بالعموم لا بالنص.
ولهذا لم يختلف العلماء في دلالة حديث كريب على المعنى المراد منه .
فقد بوب له الإمام النووي في شرح مسلم : "باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم".
وبوب له الإمام الترمذي بقوله: " باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم".
وبوب له الإمام النسائي بقوله: " اختلاف أهل الآفاق في الرؤية".
و بوب له أبو بكر بن خزيمة بقوله: "باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة لرؤيتهم لا رؤية غيرهم".
الوجه الثالث :
أن المسلمين في ذلك الوقت دولة واحدة ومعاوية خليفتهم، فلو لم يكن اختلاف الرؤية معتبرا لما وسعهم خلافه.
وما كان اهل المدينة ليخالفوا رؤية معاوية ، وما كان معاوية ليقرهم على مخالفته.
الدليل الثاني :
نقل الجصاص إجماع المسلمين على أنه لا يجب على أهل أي بلدة انتظار الرؤية من البلاد الأخرى وإنما يجب عليهم العمل بما ثبت عندهم، ولو كانت الرؤية على العموم لوجب عليهم السؤال عن الرؤية في البلدان الأخرى .
قال الجصاص في النص الذي أوردناه سابقا :
(وكل قوم رأوا الهلال فالفرض عليهم العمل على رؤيتهم في الصيام والإفطار بقوله صلّى اللّه عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"،ويدل عليه اتفاق الجميع على أن على أهل كل بلد أن يصوموا لرؤيتهم وأن يفطروا لرؤيتهم وليس عليهم انتظار رؤية غيرهم من أهل سائر الآفاق فثبت بذلك أن كلا منهم مخاطب برؤية أهل بلده دون غيرهم) أحكام القرآن (الجصاص) ، ج 1 ، ص : 275
الدليل الثالث :
لو كان القول بعموم الرؤية هو المتعين لكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده يبعثون إلى عمالهم في الآفاق ، بالبريد ، مخبرين بما ثبت عندهم من رؤية أو مستخبرين عما ثبت من الرؤية عند العمال ، لكن لم ينقل إلينا شيء من ذلك ، وإنما كانوا يتراسلون في الرؤية إذا حدث إشكال أو نازلة ،ولا يتراسلون في شأن ثبوت الرؤية ..
ومن ذلك ما رواه الدارقطني في السنن والبغوي في شرح السنة عن شقيق بن سلمة قال : (كتب إلينا عمر بن الخطاب ونحن بخانقين : "إن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهارا ، فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس").
وقد يكون هذا الأثر دليلا على أن عمر رضي الله عنه كان يقر كل أهل بلدة على رؤيتهم ، ولو كان يرى عموم الرؤية لبعث إلى أهل خانقين بالالتزام بالرؤية التي ثبتت عنده بالمدينة.
الدليل الرابع : القياس .
لا خلاف بين أهل العلم على أن أوقات الصلاة تختلف من بلدة إلى بلدة تبعا لاختلاف الوقت ، والشروق والغروب والليل والنهار.
وكما جاز الاختلاف في وقت الصلاة فلا مانع من جواز الاختلاف في وقت الصوم .
وبهذا يتضح من حيث الدليل رجحان المذهب القائل أن لكل أهل بلد رؤيتهم ، وهو القول الذي اعتمدته لجنة الأهلة فيجب اتباعه.
********
وقبل ان أختم الحديث أريد التنبيه على خطأ أصبح شائعا لدى عامة الناس بل ولدى بعض من طلبة العلم وهو ان بعضهم يظن أن صيام يوم عرفة مرتبط بوقوف الحجاج وهذا غلط شنيع ..
فصيام يوم عرفة وقته مرتبط باليوم التاسع وقف الحجاج أم لم يقفوا ، ولا علاقة بين الوقوف والصيام إلا أن كلا منهما ميقاته في اليوم التاسع .
فأهل الموقف مطالبون بالوقوف في اليوم التاسع وغير مطالبين بصيامه..
ومن لم يكونوا من أهل الموقف يندب لهم صوم يوم التاسع ولا علاقة لهم بالموقف فليغضوا ابصارهم عنه.
ونحن في هذه البلاد مطالبون بصوم يوم عرفة الموافق لرؤيتنا ولا علاقة لنا بعرفات ، فعرفة اسم الزمان وعرفات اسم المكان قال تعالى : {فإذا أفضتم من عرفات} وفي القاموس : (يوم عرفة : التاسع من ذي الحجة ،.وعرفات : موقف الحاج ذلك اليوم ) تاج العروس من جواهر القاموس (24/ 137)
لسنا مكلفين بأن نراقب الحجاج ونسعى إلى موافقتهم في يوم وقوفهم ولكنا مكلفين بمراقبة الأهلة فما ثبت عندنا حسب رؤيتنا انه هو التاسع فهو المندوب صومه.
ولكل أهل بلد تاسعهم حسب الرؤية ،كما أن لكل أهل بلد ثلث الليل الأخير الذي ينزل الله تعالى فيه نزولا يليق بجلاله،
إن وقوف الحجاج بعرفات ليس ميقاتا لأي عبادة فالعبرة بموافقة التاسع لا بموافقة وقوف الحجاج ،بل إن الحجاج إذا وقفوا في غير التاسع بطل وقوفهم إن لم يكن لهم عذر شرعي ،قال النووي : ( وإن غلطوا في الزمان بيومين بأن وقفوا في السابع أو الحادي عشر لم يجْزِهم بلا خلاف و.. اتفقوا على أنهم إذا غلطوا فوقفوا في العاشر، وهم جمع كثير على العادة أجزأهم، وإن وقفوا في الثامن فالأصح عندنا لا يجزئهم، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والأصح من مذهب مالك وأحمد أنه لا يجزئهم ). "المجموع 8 \ 292، 293".
والله أعلم والحمد لله أولا وآخرا.