كلمة الإصلاح تستطيع بسبب عيشتها داخل موريتانيا مدة أكثر من 50 سنة ولله الحمد أن تقدم ملاحظتها علي حياة موريتانيا السياسية والاجتماعية في كل هذه المدة وما تخللها من أحكام المد والجزر والتنوع في تصرفات أولئك الحكام .
ولكن نظرا أن علم التاريخ لا فائدة منه الا بما فيه عبرة او توجيهات لمن يقبل ذلك فإني سوف أقتصر علي ما كنا فيه قبل هذا الحكم المنصرف قريبا وما عشناه فيه وما يجب ان يكون عليه مستقبلنا .
وباختصار فإن موريتانيا بدأت على نمط جديد ما زالت آثاره متبوعة ابتداءا من دخول ما يسمي الديمقراطية سنة 92 ، تلك الديمقراطية العسكرية الفوضوية التي مزقت موريتانيا شر ممزق وقلبت فيها الأمور عن كل مألوف في الدول واختلط فيها الحق بالباطل والحابل بالنابل وأبيح فيها بشكل لم يسبق له مثيل أكل المال العام والخاص بلا توار ولا حياء بل بتقنين لذلك ، وبيع فيها الولاء والحياء والنسب والأصل والفصل بالمزاد العلني في سوق سياسية الديمقراطية العسكرية الفوضوية الجديدة ، وأؤكد هنا أن هذا الانقلاب الفوضوي السياسي لم يقع من الحكام آنذاك من سوء نية طرأت عليهم ولا طموح فكرة ديكتاتورية تنشد الاستبداد القاتل للشعوب ، ولكن لمجرد المطبق للديمقراطية العادلة الخلاقة وبعدها الشديد من مهنة العسكر ، وفي نفس الوقت ضغطت الأحداث الخطيرة التي لا يرحم شركاؤها ولا خلفيتهم الأوربية الأمريكية الشريرة الحاقدة علي مثل دولتنا الموسومة بأنها عربية إسلامية وهذه الصفات في ذلك الوقت ومازال ذلك الوقت ممتدا أضاعها المنتسبون إليها وأهزلوها من جميع روافدها الخيرة عروبة وإسلاما حتى سامها سوء العذاب كل مفلس من ماكر خبيث الطوية أصلا على هذه الصفات وموتور في عظمته وكبريائه في تلك الآونة ، فقام حكامنا آنذاك بخلق هذه الديمقراطية الفوضوية المحصورة في تقديم الولاء والاستغناء بها نهائيا عن جميع أركان الدولة في الجيش وقوة الأمن والإدارة الإقليمية والاقتصاد والشؤون الاجتماعية وجمعوا كل الحياة المتعلقة بالدولة في سياسة هذا الولاء الذي آل أمره إلي تكوين رجال مخربين ومثقفين تلهث أفئدتهم وأبصارهم وأسماعهم إلي جمع المال المنهك للدولة عن طريق هذا الولاء الذي لا يبقي للدولة ولا يذر ، فصدرت الأوامر إلي كل السلطات أن الأمر أصبح بيد المنتخبين ولا كلمة لغير منتخب سيء الطوية مملوءا ولاءا لا كرامة معه لغير موال وبدأت البغضاء بين أصحاب الولاء المطلق يقوده المنتخبون وبين المعارضة المنتخبة وغير المنتخبة أي كل معارض ، وصدرت الأوامر لجميع أركان الدولة أن اجعلوها تحت تصرف المنتخبين الولائيين على جميع أشكالهم وشرائحهم واضربوا على وتر هذا الولاء فسوف يأتيكم من كل فج عميق كل من سمع نغمة لحن ذلك الوتر تارة تكون بالقبلية أو اللون أو الاديولوجية ، الخ ، ومن اجل ذلك اتجهت كل مؤسسة إلى حجز ما عندها للدولة لنفسها مدعية صرفه في هذا الولاء وأول الفاعلين قادة الجيش فاستولي قادة القواعد العسكرية على أكل ميزانيتهم أكلا خاصا وكان فيها معيشة الجنود ، تاركين لهم العمل في أي كسب استطاعوه ، فعمد كل منتخب إلي ذويه من الجيش وفرغه من العمل مع بقاء راتبه الهزيل مصروفا عليه ، وهكذا فعلت وزارة الداخلية وكل توابعها من إدارة للأمن والولاة والحكام إلي آخره .
وهنا يحضرني مثال فصندوق التنمية الإقليمية الذي كان يرسل إلى الخزينة الجهوية تحت تصرف الوالي لتنمية الولاية أُمر فيه الوالي باستدعاء المنتخبين لتقسيمه مثل النواب والشيوخ في الولاية ، فيقوم الوالي باستدعائهم – تذكرة – وضيافة من الصندوق لمدة يومين ويقسم الصندوق نقدا على الوالي والحكام والمنتخبين وكل من حضر من الأمن يحثو له حثوة تقل وتكثر حسب الخوف من رجل الأمن المشارك ، وتكون النتيجة صرف الجزء الأقل منه على مقاولين محليين اختيروا لهذه المنفعة لكسب ولائهم ، ويقوم هؤلاء المقاولون بطلاء يكاد لا يري بالعين المجردة لمدرسة أو مؤسسة حكومية وهكذا ، وفي نفس الوقت كان الولاة يساعدون الأمن ماديا وكذلك مدراء التعليم بتجهيز أدوات التلاميذ والمنمين للمحافظة على الثروة الحيوانية ، كل ذلك انتهي نهائيا .
هذا على مستوي الولايات أما المستوي العام فجميع موارد الدولة من دخل وطني ومساعدة دولية يقدم المنتخبون لذلك رجالا يحولون الجميع إلى ممتلكات خاصة بهم إلى آخره ، ومن هنا أود من القارئ ا لكريم أن يعفيني من تتبع هذا الفساد الذي عم البلاد والذي سببه وضع الحكام آنذاك لهذه الدولة بيد المنتخبين في الديمقراطية الفوضوية العسكرية الحديثة ، وبناءا على ذلك أصبح لابد من انقلاب يصحح الوضع ويمكن أن نقول أن الانقلاب آنذاك أصبح مباحا إن لم نقل واجبا شرعيا ، ذلك الانقلاب المباح قام به هذا الرئيس المنصرف وحده – وبمساندة هذا الرئيس الحالي الآن - أما الرئيس المعين آنذاك فلهروبه من مشاكل البشر غير المظنونة عليه قبل أن يكون رئيسا ليخلص العسكر من القيادة المدنية ، ولذا خفض المدة الانتقالية إلي اقل مدة ، وحصل ما حصل من انتخاب رئيس مدني – ولمعرفة الرئيس المنصرف محمد عبد العزيز بأنه هو الذي قام بالانقلاب الأول لأسباب عامة وأخرى خاصة بين الأسرتين القائدة والحارسة لم يبتعد عن الرئاسة وكانت قدرته على الانقلاب الثاني اقوي من الأولي لأن الجيش آنذاك معنوياته منخفضة لآثار جفاف الدولة بصفة عامة ، وعندما قام هذا الرئيس المنصرف بالانقلاب على الرئاسة المدنية التي كانت وديعة عنده جاء إلي الدولة وقلبه ملآن بالعزم علي الإصلاح أي إصلاح كل شيء لأن كل شيء فاسد بالمنتخبين والولاء اللا مشروط الفوضوي إلا أنه للأسف عمل بآخر الآية وترك العمل بأولها ، فشعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد رسالته الموجهة إلى قومه الفاسدين قال لهم (( وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت )) فذلك الرئيس المنصرف أراد الإصلاح ولكنه اختار قطاعات خاصة للإصلاح وترك قطاعات خاصة ساهم في فسادها بتركه الحبل على الغارب لمؤسساتها ومع ذلك خالف إلي ما أفسدت الدولة الأولي من نشر لولاء قاتل للوطنية في جميع مكونات الشعب جاعلا مكانها من جهة الشعب الولاء الأعمى من اجل الولاء فقط ، ومن جهة رجال الأعمال قضي علي رجال أعمال وطنيين كانوا يأخذون ما أعطتهم الدولة ولكن إذا احتاجت لهم وجدتهم ومع ذلك مسالمين لكل أفراد الشعب ، فأبدلهم بولاءات رجال أعمال متوحشين بدأ ذلك بالكتيبة البرلمانية المشهورة التي تعرف لحن القول ولسانها على الزناد دائما ليطلق القارب لكل من وضع يده علي مكان للضربات القاتلة التي يوجهها ذلك الرئيس المنصرف لمخالفه ، وخلق كذلك كتيبة مساندة تعرف من الولاء التليد الأعمى ما يغنيها عن هذا الولاء الجديد ، ولذلك ضبطت موريتانيا حياتها التعيسة في كثير من الحياة الداخلية على هذه الوضعية التي وقعت فيها الانتخابات الأخيرة : جيش صلح بقدر الإمكان وموارد مالية كذلك على النمط الحديث لاستغلال الموارد ، إعلام مفتوح ، ومفتوح التعبير فيه على مصراعيه من غير وضع ميزان يترك الكلم الطيب يرتفع إلى عنان السماء ويحاسب فورا على الخبيث ، أما ما ترك من المنشآت فاسدا وهو حياة الدولة والوطن والشعب والأمن الداخلي فيجمعه ما يلي :
1 – كما قلت ترك الولاء الأعمى إلا انه زاده وحشية واستعدادا للانقضاض على فريسته وهي كل معارض ، فإذا كان عنده نشاط مالي فليدخل حظيرته أو يترك فقيرا يتسكع في الشارع وإذا كان يقود مشاريع خيرية لضعفاء موريتانيا فلا مكان لها فوق أرض موريتانيا الخ .
2- الإدارة الإقليمية بما فيها وزارة الداخلية وما يتبع لها من رجال الأمن أصبح كل ذلك أثرا بعد عين فاستفحلت الجريمة داخل الوطن وأصبحت هي اكبر مهنة للشباب الفاسد وما أكثره .
3 – الشؤون الاجتماعية فلا ضوابط للاجتماعات القبلية – الشرائحية – والاديولوجية كل ذلك لا قانون يضبطه ولا سلطة تتابعه لتحد من ضرره .
وباختصار أصبحنا مثل الذبابة بالضبط من ضعف جسمنا الخلقي أي ريح تذهب بنا حيث شاءت ومن ناحية نفعنا وضررنا جناح ينعم في الخير وعنده الدواء وجناح ييأس داخل البأساء ولصاحبه الداء .
أما ما علينا أن يكون عليه مستقبلنا فهو في نظري كما يلي :
أولا : يظهر أنه موجود شبه إجماع على أن هذا الرئيس يريد الإصلاح ما استطاع دون استثناء لأي قطاع ومع أي احد يريد الإصلاح ، وعليه فعلينا وعلى المجتمع الموريتاني أن يتفق في بناء دولة العدل والمساواة الجديدة علي ما يلي :
أولا : خلو الرئيس والوزراء من الانتماء لأي حزب سياسي ولكن يكون الرئيس والوزراء للجميع أي لجميع الأحزاب .
ثانيا : إنشاء ديمقراطية حقيقية يكون الحزب فيها مكونا من مكونات المجتمع المدني يعلن في حزبه برنامجا ويشترط فيه أن يكون مهتما بترقية هدف من أهداف الحياة ، إما التعليم وإما توفير البضائع المستعملة في معيشة السكان بأرخص ثمن وكحزب مساعدة المرضى العاجزين عن دواء أنفسهم ، وكذلك عنوان الاديولوجيات مثل حزب تحفيظ القرءان في الأرياف وحزب ترقية العقيدة الصحيحة في عقول المسلمين الخ ، هذه الأحزاب يكون مباحا لها في نطاق هذه المهمات أن تنتخب النواب وتصوت على كل هيئة تقدمت لشغل منصب للتشريع ولكن بلا عداوة لأي احد .
ثالثا : تعمل الدولة مسحا للقطاعات : الدفاع ، الداخلية ، الخارجية ، العدل ، إلى آخر جميع الوزارات وتحدد مهنة كل واحدة منها مشروحة ومعلنة وملزم بإتباعها شبرا بشبر وباعا بباع ، ويعلن هذا الرئيس أن ما سوي هذا لا يجوز الخوض فيه ولا طلب ترقية بل ولا المصادقة علي أي نشاط آخر تختص به جماعة بثقافتها او لونها او جهتها إلي آخره .
أظن أن هذه الأفكار التي تحوم حول الابتعاد عن ما كنا فيه من هرج ومرج وسيبة سياسية مقنعة لا أول لها ولا آخر وهو خسران الدنيا والآخرة ويكون العنوان الوحيد هو قوله تعالي : (( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءا فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا ،،،،، ))