رحلة العودة من العاصمة / إسلمو أحمد سالم

لم تكن رحلتي إلى العاصمة حدثا كبيرا ، لأنها كانت مجرد توصيل لأحد افراد الأسرة ، و بعيد الاستراحة التقيت بمجموعة من الأصدقاء (المساريين) و كانوا ، رغم محاولة التظاهر بالهدوء و الحضور ، تائهين لا يعرفون ما هو مصير تكتلهم ، حاولوا استشفاف قراءتي للأحداث و مستقبل بعض الوجوه ، إلا أنني كنت أخطط لرحلة العودة لأشبع ناظري من المقاطعة ، و قد عزمت على العمل في العاصمة هذه السنة.

اتصلت بالصديق الدكتور سيدي محمد ولد اعويسني ، فلا يمكنني أن أزور العاصمة دون أن أمر عليه و اقضي معه بعض الوقت ، مهما كانت درجة الانشغال .

تبادلنا القصص و الحكايات ، و فتحنا دفتر الذكريات ، و قضينا وقتا ممتعا ، و بعيد صلاة العشاء قلت له : أدنني سأعود إلى مقطع الأحجار ، فقال لي : لا أحب لك السرى ثم إن الطريق صعبة و الليالي معتمة و ضوء سيارتك غير قوي ، و لا يمكنك الذهاب ، اذعنت له ظاهريا ، لكنني كنت قد عزمت ، و لعل هذه بعض أخطائي أنني لا اترك قناعاتي مهما كانت موضوعية طرح الآخرين ، لأنني أعتبر أن الرجال مواقف و إصرار ، فبعد القرارات لا ينبغي التراجع  ...

انطلقت نحو وقفة توجنين ، فمنها أختار رفيقا للسغر ، و يجب أن تكون له عدة مواصفات أهمها أن يستطيع التعاطي معي في حضارة مجتمع البيظان ، من فن و أدب و تراث .

(2)...

عند (وقفة توجنين) توقفت من اجل الصاحب و من اجل التزود بفاكهتي المفضلة (البطيخ) ، و هي بالمناسبة مفيدة جدا يمكن الاطلاع على فوائدها من خلال بحث بسيط على محركات البحث ، و بمجرد التوقف التف حول السيارة العديد من الناس ، لكنني انتقيت طبيبا أربعينيا من ابناء لعصابة ، و أشفعته بشاب من سكان بلتلميت تذرع بأنه مسافر من اجل مريض في المستسفى ، فقلت لهم إن الرحلة مجانية ، لكن من شروطها الإبداع في الامتاع و الإفادة ..

لاحظت ان السيارة حولاء ، فهي توجه أحد المصابيح في السماء ، و الآخر إلى الأسفل ، فقرر الإكتفاء بالضوء القريب ، و ركزت على متابعة السيارات القادمة لقياس المسافة حتى لا يحدث تلامس ..

كانت الطريق حتى إديني مريحة نظرا لوجود الخطوط على البيضاء ، و نظرا إلى أنها جديدة ، لكننا بعد ذالك عانينا من العيون الحمراء المحدقة من الباصات و السيارات الكبيرة ، فقد كانت تصيبني بدوار ، و اتحسس الطريق بالتوقع ، و كثيرا ما أنزل إحدى العجلات خوفا من الكارثة ..

كان الطريق كله ممتعا ، فقد مخرنا عباب جوانب كثيرة من انماط الحديث ، و كان الوقت يمر بسرعة ، و القمر قد دخل السماء و بدات انواره تشع جنبات الطريق ، و بدات سحر الصحراء يتسلل لداخلنا .

عند الكيلومتر 28 من ابي تلميت خرج العفريت من القمقم و وضع لبنة ممتلئة من الإسمنت المسلح وسط الطريق ، و على بعد متريت من قوائم السيارة، و أقول العفريت لسببين ، احدهما أنني لا يمكن أن اتصور ان يقوم عاقل بترك هذه القنبلة المدمرة وسط الطريق ، و الثاني سأعرج عليه خلال سرد القصة ..

 (3) .. .

عندما كنا بدوا رحلا كان الواحد منا ينتجع بماشيته في مكان خصب كثير الأشجار ، فيمحق الأشجار و يقضي ما شاء الله أن يقضي ، ثم يرحل عن المكان دون أن يكترث بالآثار السلبية لانتجاعه ، فبقيت معنا هذه العقلية و نحن نتحول للحضر ،  و هو الأمر ذاته الذي جعل صاحب السيارة الذي كان يعالج عجلتها يستجلب لبنة و يضعها في منتصف الطريق ، ثم لا يهتم لشعبة من شعب الإيمان ، و هي إماطة الأذى عن الطريق .

باغتتا اللبنة في منتصف الطريق ، و قد ظننتها في البداية كيسا فارغا ، لكن السيارة كانت في وضعية لا تسمح بالكبح ، فاتكلت على الله و تركتها تمتطي الخطر ، لأن أي كبح لها كان يقلبها رأسا على عقب . فصعدت فوق اللبنة و تحولت السيارة إلى فرس جموح و طفقت تلامس الارض ثم تنطلق في السماء .

ارتطم رأسي بالسقف ، فكبرت و أمسكت بتلابيب المقود و حافظت على التوازن ، ثم قامت رجلي بالتسلل للمكبح و عالجته بروية حتى أسكنتها على حافة الطريق ، و قضينا دقائق نلتقط الأنفاس و نتحسس أجسادنا ، و نتأكد أننا لازلنا على قيد.

نزلت متثاقلنا و قمت بعملية طواف حول السيارة ، و الرفقاء في حيرة ، ثم استعدت توازني لأجد أننا و الحمد لله لم نصب بأذى ، لكن  اليابانية المسكينة قد اصيب بشق في بطنها و تدفق الدهان أسود ناقعا على الطريق ليخبر عن رحلة أخرى من إرهاق الجسم و الجيب ..

 (4)...

عندما تأكدنا اننا أحياء ، بادر الصاحبان بالبحث عن الجسم الذي تعرض للسيارة ، و بقيت افكر بطريقة للخروج من المازق ، لكنهما لم يجدا اللبنة فقد ابتلعتها الأرض ، أو صعدت في السماء ، و هذا هو السبب الثاني الذي جعلني أقول إنه عفريت ، يتربص الدوائر بالمارين من هذه المنطقة ، و إن لم يكونوا قد تزودوا بزاد من الرقية ، قلب بهم ظهر المجن.

حاولنا توقيف سيارات على الطريق بدون جدوى ، وحدها سيارات رينو ذات الخبرة تتوقف ، لكنها لا طاقة لها للجر ، و مع ذلك تجد من يساعدك بالرأي و التشخيص .

رفض صاحباي تركي ، لكننا أقنعنا المسافر للمريض في أبي تلميت بالذهاب ، و بقيت و الطبيب ،  و دون جدوى مللنا محاولة إيجاد من يمد يد المساعدة أو من يجر السيارة لأبي تلميت مقابل مبلغ من المال .

هكذا نحن الموريتانيين ، كل واحد منا يعمل لخويصة نفسه ، و لا مجال للاهتمام بالآخرين ، فالمدرس لا يقوم بعمله و الطبيب يستثمر في الأوجاع ، و الصيدلاني يبيع الامراض بدل الأدوية ، و المسؤول الكبير ينفق كل وقته في طريقة للبحث عن تبرير لمبلغ قد يأخذ منعطفا نحو الجيب ..

أقنعت صاحبي بتأجيل قضية السيارة حتى الصباح ، و قررنا اللجوء لحارس محطة موريتل في المكان المسمى (الميعاد) ، و لن نكن قد ضربنا ميعادا ل"لميعاد" .

أحكمنا إغلاق السيارة ، و تسلقنا الكثبان العملاقة نحو الموقع ، و عند اقترابنا فوجئنا فمجموعة من الكلاب تملأ المكان نباحا ، و لقد هممت بالهرب ، لكنني عرفت أن تعبي و عدم أهلية المكان للسباق لن يكونا في صالحي ، فقررت الصبر .

(5) ...

أصررنا على تجاهل نباح الكلاب رغم ما يسببه من إزعاج و خوف ، و لكن حارس المحطة تقدم نحونا ، فسلمنا عليه ، فرد السلام ، ثم شرحنا له حالنا ، ففتح الباب ، و دلفنا معه إلى غرفة ثلاثة أمتار مربعة ، نوافذها صغيرة ، لكن المطر الذي كان على وشك النزول ساعدنا في الاسقرار في الغرفة .

تعجبت من الرجل الستيني ، الذي يملك شياه من الماعز و ثلاثة كلاب ، و يستجلب الماء من الحاضرة ، و هو أحد منحدري الحوض الشرقي ، كيف اننا لم نجد من يساعدنا على الطريق من اصحاب السيارات الفارهة ، وكيف انه استقبلنا بهذه الحفاوة رغم فقره و قلة حيلته ، و كيف بتنا نحتل فراشه ، و بات متكئا على مجموعة السرر التي يستر فيها زاده و زاد ماشيته ، و قد قلت له : لماذا لم يتم تحويلك لمكان قريب من الأهل ، قال إن المحطة سبق و أن تعرضت لعدة سرقات و أنه الوحيد الذي الذي لم تتعرض لسرقة بعد تحويله لها ، و كانت المكافأة هي سجنه فيها ، و لست اعلم هل هناك مكافاة مالية على ذلك .

كانت ليلة هادئة جميلة ، تحت رذاذ المطر و الضوء الخافت للقمر ، و نسمات الرياح الباردة تتسلل إلينا ، فغشينا النعاس و الأمان و نمنا نوما عميقا حتى الفجر.

استيقظت فجرا فتوضأت و صليت ، و ايقظت الإخوة ثم عدت للنوم ، لكنني اكتشفت انني صليت في اتجاه انواكشوط ، بدل الكعبة المشرفة ، فأعدت الوضوء و الصلاة ، و الحمد لله أنني ادركت الاصفرار قبل طلوع الشمس ..

 ..(6) 

بعد إمبلاج نور الصبح غادرنا المكان ، و كان الرجل يصر على أن نتناول الشاي ، لكننا اعتذرنا بضرورة الإسراع نحو السيارة ، كانت الأجواء جميلة و منظر الكثبان الذهبية المبللة بالمطر يسحر الألباب ، و الرياح الباردة تداعب الأجسام ، لكننا قضينا ساعات دون أن نجد من يتعاطف معنا ، فاتصلت بالمهندس عبد الله ولد سيدي الشيخ عله يرشدنا لمن يساعدنا من أهل ابي تلميت في حل المعضلة ، فاقترح علينا الاتصال بأحد الإخوة الذي بادر بالتنقل نحو ميكانيكي يبدو أنه احد المستثمرين في حوادث السير ، فله سيارة و رقمه متداول ، و يتم الاتصال به لينتقل لعين المكان فيباشر عمليات إنقاذ السبارات ، بموازاة ما يقوم به الأطباء من إنقاذ البشر ، لكن الفرق هو أن الأطباء متطوعون و هو مستثمر ينتهز فرصة المعضلة لتكون اداة دخل ،.

هذا الميكانيكي ذكرني  أصحاب محلات لإصلاح العجلات في إحدى المحطات على الطريق ، يميزون الحفر حسب نوعية عطب العجلة ، و كنا نتهمهم بحفر الطريق حتى تروج المهنة ، لأنهم أقرب مغيث ..

جاء الميكانيكي بعد لأي و كنت قد أوصيته بالإتيان بالفطور ، و في تنتظار تقيمه لأعطاب السيارة ذهبنا لتناول الشاي مع صاحبنا ، حارس المحطة ، و لكنه عاجلني باتصال هاتفي لاحضر ، فعرفت منه أن تثببت المحرك قد تأثر ، و أنه لا بد من جر السيارة ، و تلك لعمري مسألة لا احبها ، لصعوبتها اولا ، و لكرهي الشديد للانقياد ..

 (7) ...

قررنا جر السيارة ، لكن الميكاني حاول ان يوقف بعض من يعرفهم من اصحاب السيارة حتى أقتنع بان السعر باهظ ، و قد تظاهرت بالبلاهة و تركته يتصرف لقناعتي بأنه مكلف بمهمة من طرف اخ و عليه إنجازها في احسن الظروف .

المسالة التي اثرت في كثيرا هي في البحث عن حبل لجر السيارة ، فقد مرت علينا سيارة رباعية الدفع رفض صاحبها ان يعطينا حبلا بحوزته دون ان ندفع له ثمنا مضاعفا ، و هي حادثة تعبر عن الانتهازية التي تطبعنا مع من لا نعرف ، و لو أنني سألت الرجل عن قبيلته لكان اعطاني الحبل و حدثني بغير اللغة الخشبية التي حدثني بها ، فطبيعة الموريتاني انه لا يتصرف طبق قوانين و اخلاق و قيم ثابتة في ذاته و توجهه ، و إنما يتصرف وفق الرقيب الخارجي الذي يراقبه ، فإن كان في مكان معروف فيه ، تصرف بأخلاق و ادب ، و إن لم يكن معروفا تصرف بنذالة و انتهازية ، و الذي يمنعه من السرقة ليس حرمتها و قبحها عند المجتمع ، و إنما أن يراه المجتمع سارقا ، لذلك فلا احد متاكد مما يحوكه في الظلام .

اشتريت الحبل ، و اصررت على صاحبي في السفر أن ينطلق إلى اهله ، و بقيت مع الميكانيكي لتبدا عملية صعبة جدا ، تحتاج للتركيز و الحضور و سرعة البديهة .

بدأ شبه الجملة بالتحرك ، و كما تعلمون ان نصف المسافة معلق في السماء و نصفها على الارض ، و لقد عرفت الدلالة القطعية لعبارة (متحفزا لقنال) ، فقد كنت كلما مررنا على العالي و بدات التسلق تركت لحرف الجر حرية العمل ، و عندما يعترض الودي و همت باجتيازه وثبا ، كبحت الحركة بطريقة تسمح بالمحافظة على المسافة دون الارتطام .

 (8) ....

عندما وصلنا ورشة الميكانيكي ، فتحت خطا مباشرا مع الدكتور سيدي محمد ولد اعويسني ، فله خبرة في ذات البأس ، و هو ذو معرفة بأصحاب محلاته ، و من خلاله اهرف تقديرا اسعار المشتريات حتى لا افلس في الطريق .

لكنني بدأت بالبحث عما اقيم به أودي من الطعام ، فقد بت مبيت كليم و الخضر ، لأنني رفضت عرض صاحب المحطة بالعشاء معه بلبن الماعز و (باسي) ، فوجد خانا اشتريت منه كتفا لرضيع ، بقرض الآذان ، و قد قال إنه من الضان ، لكنني أعرف الفرق من الرائحة و اللون ، فاستسلمت له ، و سقاني بعد مشويه (و قد بحثت لها عن تصغير) كأسا لم تكن بأي حال من الأحوال متنازعة الخليطين ، فانتفلت نحو السيارة لارى جديدها ، فإذا الرجل لا زال يباشر عملية البطن ، ، وعدد طلباته فامرته بشرائها كلها و ستحاسب في المساء .

ما اكتشفته من مقيلي في ابي تلميت أن البسطاء لا زالوا بخير ، فقد دخلت محل غسيل الملابس و جلست على طاولة  كي الثياب ، فحضر الرجل كأس شاي اخرى ، و دعاني لغدائه ، لكنني اعتذرت فأعاد طعامه لمكمنه ، فقلت له مالك لم تأكل ، فقال لي إنه لا يستطيع الأكل في إناء وحده ، فهو ينتظر من يرغب مشاركته الطعام حتى يجده ، فتعجبت لأمره ، و كيف أننا ترمى في أحيائنا الراقية الأطعمة في الشوارع ، و يابى هذا المسكين أن يأكل وحده دون شريك ، كرما و انفة .

(9) ...

لم ترق لي كؤوس الشاي ايضا ، و خشيت أن يكون أهل بوتلميت لم يكتشفوا بعد نكهة عاشوراء ، فانتقل ابحث عن صاحب مخل شاب ، فاهتديت إلى عجلاتي ، و لعل لسكان المعاطعة عهد مع عمال العجلات ، فدخلت اسأل عن الكهرباء التي قطعت طوال النهار عن جنوب المدينة ، ثم صليت العصر عنده ، فاتحفني بكأس معتقة بها نكهة شايي المفضل ، مع نعناع (لكريدة) ، و انتظرت الثاني ، ثم الثالث .

عدت من جديد إلى السيارة فوجدت الرجل تجاوز المراحل الأولى للعملية ، و أشرفت على الخطوات الأخيرة من العمل حتى لا يبقى ما الاحظه من نواقص في الأصوات و الحركات .

انتهت العملية قبيل المغرب فبادرت إلى المقاطعة ، و انا اعلم أن الأهل كلهم فزعون علي ، فهواتفي مغلقة .

أسكنت إبرة السرعة بين ال110 و ال 120 ، و كنت أقول في داخلي سيكون خوف والدتي عونا في السفر ، فهي ستستخضر رقية كل شيء ، و قد كنت في الصغر عندما يحين وقت المغرب اقول لأصدقائي قوموا برقيتكم ، و أنا رقيتي ستقوم بها والدتي ، أطال الله بقاءها .

تحركت بسرعة و مررت على تجعدات الطريق بسرعة ، و كنت ابحث دائما عن سيارات رينو لاتبعها ، لأن تعرف خربطة الطريق بالتفصيل .

مررت من الاك فوجدت الطريق شبه مغلق من البرك ، فاخذت طريقا جنبيا ، ثم بشكار الذي لا زال يغط في الظلام ، و عندما اقتربت من الجزيرة خففت السرعة خوفا من الارتطام ببقرة على الطريق ، و بالمناسبة سمعت أن أحد السياسيين البارزين فيها قال إن عمدة مقطع الأخجار القادم ينبغي أن يكون من الجزيرة أو من التشوطن ، فقلت إنه حق طبيعي ، لكن البحث عنه يجب أن يبتعد عن الاحتقان الاجتماعي ..

وصلت المنزل فوجدت الاهل في حالة تأهب قصوى ، فتحرت الإتصالات لجميع أفراد الأسرة تبشر بوصولي ، و لا شيء يعدل  حضن الاهل بعد الخشية ...

23. أغسطس 2019 - 23:47

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا