على أبواب مرحلة جديدة، وفي إطار التعهدات التي تعهد بها الرئيس: محمد الشيخ غزواني،وفي ضوء التحديات التي يعانيها الاقتصاد الوطني،ومن أجل أن يقوم اقتصادنا على الإنتاج وليس على الهبات والديون والمعونات فإنني ارتأيت كتابة مجموعة ملاحظات حول مواضيع أرى أنها تمثل نقاط ارتكاز في أي إصلاح هيكلي قوامه الجدوائية، والاستمرارية، والاستئثار الشامل.
وسأبدأ أولى هذه الملاحظات بتلك المتعلقة بالاقتصاد الريفي الذي أرى أنه القطاع الأول الذي بإصلاحه سيتعافى الاقتصاد الوطني، وتصحح مسارات التنمية، و تصان طاقات الشعب والجزء الأساسي من مقدرات البلد.
إن الاهتمام بهذا القطاع بشقيه الزراعي والرعوي يجب أن تتخذ فيه تدابير مؤصلة جادة وصادقة تؤكد جدية التحول في الاهتمام بهذا القطاع الحيوي لأن ذلك سيساهم في تحقيق الأمن الغذائي، ويحد من حجم ميزانية الدولة الموجهة لاستيراد الغذاء ومشتقاته، ويساعد في الوقوف في وجه الظروف الطارئة كالجفاف وتداعياته و النداءات التي غالبا ما تصدر عن البنك الدولي ومنظمات وبورصات الغذاء العالمية.
لقد اعتمدت الحكومات السابقة مجموعة من الخطط والسياسات الاقتصادية لتنمية وتنويع مصادر اقتصاد البلد والرفع من أدائه، لكن الخطأ الاستراتيجي الذي كاد يقضي على الهوية الزراعية والرعوية للدولة هو عدم الاهتمام الكافي من لدن واضعي السياسة الاقتصادية بهذا القطاع بوصفه القطاع الأول الذي تمتلك فيه بلادنا مستلزمات إنتاج واسعة وميزات نسبية كبيرة تجعل من بلدنا بلدا محدود الحاجة على الأقل في المجال الغذائي.
لقد أدى ذلك التقصير ـ المتجسد في ضعف المخصصات السنوية الموجهة لتنمية هذا القطاع بشقيه: (الزراعي والرعوي ) منذ الخطة الاقتصادية الأولى 1963 ـ إلى تدني نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، والدخل القومي. كما أدى ذلك إلى تنامي شبح الخوف لدى أغلبية الموريتانيين كلما لاحت في الأفق بوادر جفاف أو تغيرات مناخ قد تلحق ضررا بالزراعة أو تربية الماشية في ظل غياب أي سياسات بديلة تهدف إلى حماية الثروة والحد من المخاطر التي قد تحدق بها .
إن قناعتي عميقة بأنه ما لم تعط الأولوية لتنمية القطاع الريفي والتركيز على تطوير جميع مستلزماته بشكل جدي فإن جميع الإجراءات الأخرى لن تكون سوى نماذج من سياسات التـهدئة المؤقتة والموسمية التي اعتمدت خلال العقود الماضية .
وفي هذه اللحظة التاريخية التي تشهد فيها البلاد تحولا في السلطة، و في ظل تعهدات من الجهات العليا ببناء اقتصاد متكامل غير مشوه ينعم فيه المواطن بعائدات التنمية أردت أن أساهم بمجموعة أفكار تبرز الاختلالات التي يعانيها الاقتصاد الريفي وتوضح مكانة وأهمية هذا القطاع بوصفه المدخل الأساسي للنهوض بالاقتصاد الوطني .
إن تركيزنا على القطاع الريفي لا يعني أبدا التقليل من العناية التي يجب أن تكون لجميع القطاعات الاقتصادية الأخرى، وإنما يأتي هذا الاهتمام في إطار قناعتنا بضرورة تبني رؤية اقتصادية تكاملية تقضي على التشوه الحاصل في الهيكل الاقتصادي، و تدعم الإطار الاستراتيجي المؤسسي.
وبما أن التخطيط الاستراتيجي للقطاع الريفي بأبعاده الاقتصادية والمجتمعية سيمكن فعلا من تصحيح الاختلالات الحاصلة في الناتج الوطني الإجمالي، وسيُحسِّنُ من مستوى الدخول، ويحقق العدالة الاجتماعية، ويقلل من معدلات الفقر، ويدعم الاستقرار، ويعطي مرونة لتحمل الهزات التي قد تنجم عن حالات الجفاف والأزمات العالمية، فإني أتصور– في هذا الإطار- أن اتخاذ قرارات قوية تدعم منتجات الاقتصاد الريفي ستصحح مسار التنمية، و تَحُدُّ من المعوقات البنيوية، وتهيئ المجال لمزيد من التكامل ومواجهة التحديات.
ومن هذه الإجراءات أذكر على سبيل المثال لا الحصر :
أولا :على المستوى النظري :
1 ـ تشخيص حقيقي لواقع القطاع الريفي وتحديد الأسباب الحقيقية لإخفاق السياسات الاقتصادية في النهوض به؛
2 ـ تحديد الأهداف وفق مخطط محدد ورؤية واضحة مدعومة بتصور يتضمن حجم ومستوى الوسائل اللازمة لتحقيق تلك الأهداف.
ثانيا :على المستوى العملي :
1 ـ إنشاء شركة وطنية مكلفة بتسويق الثروة الحيوانية؛
2ـ المبادرة بمراجعة اتفاقيات تزويد البلاد بالأعلاف بحيث تكون أقل كلفة وعبئا على الميزانية العامة للدولة؛
3ـ الشروع في إنشاء مصانع للأعلاف توفر- في المستقبل- الاكتفاء الذاتي من هذه المادة الضرورية في حالات الجفاف؛
4 ـ إنشاء محميات كبرى تساعد على صيانة وتسيير الموارد الرعوية واعتماد سياسة تعطي الأولوية لحفر الآبار في المناطق الرعوية الكبرى؛
5 ـ العمل على استغلال أمثل للثروة الحيوانية عن طريق إقامة مصانع لإنتاج مشتقات الألبان واللحوم؛
6 ـ إنشاء صندوق قرض لدعم التنمية الحيوانية تكون له فروع في المناطق الرعوية، ويقدم قروضا في الفترات الموسمية، بحيث يتم تمويل هذا الصندوق من خلال تخصيص نسبة من عائدات القطاع المعدني وقطاع الصيد البحري وعائدات البترول والغاز، إن وجدا؛
7 ـ على مستوى السياسة المالية يجب سن قوانين استثمارية تشجع إقامة منشآت زراعية وبنى تحتية تدفع في اتجاه تنفيذ برامج للاستصلاح الزراعي والرعوي في المناطق الزراعية والرعوية، كما يجب إقرار سياسة تحمي الصناعات الإنتاجية الوليدة وتدعم الصادرات ؛
8 ـ التوسع في استصلاح الأراضي الزراعية ودعم الجهود المقام بها لزراعة الأرز والقمح بصفة خاصة؛
9 ـ دعم الزراعة المروية وفق استيراتيجية تضمن تزويد السوق الوطني بشكل مستمر؛
10ـ العناية بالواحات ووضع خطط لتطوير منتجاتها بشكل يعزز من القيمة المضافة ويزيد العائدات المالية.
إن هذه الإجراءات ستتفاعل من خلال آلية العرض والطلب، وتنتعش بموجبها الدورة الاقتصادية الوطنية، وتزيد ثقة المستثمرين في القطاع، وبالتالي ستمكن من الرفع من نسبة مساهمته في الناتج الوطني.
وذلك مما يزيد مستوى الدخل القومي، ويرفع المستوى المعيشي ، كما يساهم في تثبيت السكان في مواطنهم الأصلية، و يعمل على تضييق فجوة العجز الغذائي في الميزان التجاري وبالتالي التحسن من وضع ميزان المدفوعات.
إن هذه الإجراءات ستمكن من تعبئة واستغلال الموارد الهائلة المتوفرة في البلاد، و تساهم في امتصاص البطالة، ودعم الأمن الغذائي للمجتمع .
أخيرا أشير إلى أن مؤشر الإمكانيات( الموقع ، وحجم السكان ، وحجم وتنوع القدرات) يوضح إمكانية كبيرة لقيام تنمية مستقلة في هذا البلد قوامها الاعتماد على القدرات الذاتية للمجتمع، كما أن مؤشر التغيرات الهيكلية يفيد أن اتخاذ إجراءات وتدابير مهمة لصالح القطاع الريفي- في إطار إستراتيجية شمولية لجميع القطاعات- كفيل بنمو الناتج القومي الإجمالي وزيادة معدلات النمو في الدخل القومي، وبالتالي إزاحة و احتواء كل الآثار التي قد تنجم عن الجفاف وتبعاته