في إطار هذه السلسلة التي تهدف للارتقاء بمنظومة المحظرة، تحدثنا في المقال الأول عن محاور ثلاثة:
- تطوير الوسائل مع حفظ "النموذج".
- من "الفردية" إلى التنظيم والضبط المؤسسي.
- التكامل بين منظومتي المدرسة والمحظرة.
ونقدم في هذه الحلقة ثلاثة محاور أخرى:
- المحظرة تعليم متخصص:
المحظرة منظومة متخصصة في العلوم الشرعية والعربية، وما يقال عن شمول مقرراتها في القديم كان استثناء تدعو له الحاجة، لكونها المنظومة التعليمية الوحيدة التي صمدت في وجه عاديات الزمان، وتكيفت مع حياة ساكنة الصحراء، أمَا وقد أتاح التعليم الحديث تخصصات أخرى فإن الشراكة تكون أولى من التكرار والازدواج، وقد عرضنا في المقال الأول مجموعة آليات مقترحة للتكامل بين المنظومتين.
وليس شرطا للتطوير أن يدرج ضمن المقررات الإلزامية للمحظرة تدريس المواد العلمية، أو اللغات أو تكنلوجيا المعلومات، مادام بالإمكان تحصيلها عن طريق المدارس والمراكز التعليمية والتدريبية، مع أنه لا مانع من أن تكون ضمن البرامج التكميلية للمحاظر، بشرط كفاية الموارد، وعدم مزاحمة الدرس المحظري.
إن حديث بعض النخب عن "الفجوة المعرفية" غير مطروح للمحظريين الذين التحقوا بالمدراس في سن مبكرة، فهم أهل الريادة والتفوق بجميع الشعب في الغالب، وأما الذين نذروا حياتهم للعلم وتفقهوا في الدين فليس شرطا أن يحوزوا لسانا غير لسانهم، ولا أن يلموا بالمعارف التخصصية الأخرى، فلا أشرف من تخصصهم، لأن شرف العلم من شرف المعلوم، وإن ركبوا الصعب وارتادوا غير مجالهم - كما يحصل عادة - فقد جمعوا الحسنيين.
- الدرس المحظري.. مرونة وحرية منضبطة:
من أسباب نجاح "الدرس المحظري" وتفرده: ما يتسم به من حرية ومرونة، فالطالب حر في المقرر والمستوى والدرس اليومي وطريقة الحفظ بتوجيه وإشراف شيخه، الذي هو حر كذلك في طرائق التدريس وأساليب الإيضاح وتحديد الزمان والمكان وترتيب الأولويات، إلى غير ذلك من محددات العملية التعليمية، مما أذكى روح التنافس، وفتح باب التحصيل على مصراعيه لذوي النبوغ والجد في التحصيل، بعيدا عن سجن المقرر والمستوى، فالعلم في المحظرة يطلب بهمة وقصد، لا تحضيرا لامتحانات فصلية أو سنوية، أو سعيا لنيل شهادات، فكان بذلك أعمق وأبقى وأنقى وأتقى.
لذا يجب أن تكون سياسات ومبادرات تطوير المنظومة منسجمة مع هذا المبدأ، فتقتصر على أدلة إرشادية، وتوجيهات وخدمات استشارية، وبرامج تدريب وتأهيل، بعيدا عن التعليمات والقرارات الآمرة، كما أن على أهل الرأي أن يعمقوا النقاش حول الجوانب الفنية الإجرائية والتنظيمية، ويتركوا المقررات العلمية ومحتواها لــشيوخ المحاظر، فهم بالعلم أحق، وبرتيب مهماته أليق، و"لا يفتى ومالك في المدينة".
ومن المهم أن نشير إلى أن "حرية الدرس المحظري" حرية منضبطة، فالكتب المقررة في كل فن معروفة ومستقرة، والأساليب التي تواضع عليها المحظريون محصورة، لذا لا مكان لما يثيره خصوم المحظرة من شبهات وما يختلقونه من فرى، وقد أثبتت المحظرة عبر التاريخ أنها خير وسيلة للتعليم والتدين الراشد، لما تزرع في الطالب من قيم، وما تنمي فيه من ملكات.
- تخطيط وتنمية الموارد المحظرية:
قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ - (النساء / 5)، وفي الطبري عن ابن عباس: (﴿قِيَامًا﴾ بمعنى : قوامكم في معايشكم)، وعند أحمد والطبراني وصححه الألباني: (قال الله تعالى: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)، وروى أبو نعيم عن سفيان بن سعيد الثوري قال: "ما كانت العدة - أي المال المعد - في زمان أصلح منها في هذا الزمان"، كان ذلك في النصف الأول من القرن الهجري الثاني، فماذا نقول عن زمان الناس هذا؟!.
وقد أدرك المسلمون هذه الحقيقة في وقت مبكر، فأنشأوا الأوقاف ورصدوا الموارد لخدمة العلم، فضمنوا بذلك استقلال واستمرار المدارس والمكتبات دون الارتهان للسلطة، أو التأثر الكبير بالتحولات السياسية والاجتماعية، ورغم ظروف البداوة والانتجاع وشظف العيش ظل أهل هذه البلاد في خدمة المحظرة وطلابها، وشاعت ثقافة الحُبُس، فكانت لبعض المحاظر ثروة حيوانية كبيرة، وكان أهل الحي مع المحظرة كالأشعريين، إذا قل طعامهم جمعوا ما كان عندهم، ثم اقتسموه بالسوية، ولأن غالب الأملاك كانت من المنقولات، لم ترث المحظرة المعاصرة عقارات وقفية، ولا أصولا ثابتة مدرة للدخل.
إن غياب التخطيط المالي، وضعف الموارد وعدم ربطها بالأهداف، يمثل أكبر تحد لمنظومة المحظرة، خاصة مع تعدد أوجه صرف الأمول في موازنة المحظرة المعاصرة: رواتب الكادر الإشرافي والتدريسي – إيجارات وصيانة وخدمات – مصاريف ماء وكهرباء – مصاريف إعاشة – تجهيزات وأدوات - مصاريف عمومية وإدارية.
وهنا تبرز أهمية وجود الجهات المساندة للقطاع، لتقدم التوجيه والتدريب والمشورة اللازمة، وحتى تتوفر تلك الجهات نشير هنا إلى المصادر التي يمكن من خلالها تنمية وتنويع موارد المحظرة:
أولا/ الإنفاق الحكومي:
لا يزال الإنفاق الحكومي على المحاظر ضئيلا جدا، مقارنة بأهميتها التاريخية والحضارية، باعتبارها مجد شنقيط الذي رفع ذكرها في الخافقين، وسفارتها التي مثلتها مغربا ومشرقا، كما أنها رافعة مهمة جدا للعملية التعليمية والتربوية، مما يحتم إعادة النظر في هذا البند من الموازنة، ومضاعفته ليسهم في تطوير القطاع وبناه التحتية، مع الحرص على التوظيف الأمثل لهذا البند، وصرفه وتوزيعه وفق خطة مدروسة، وضمان الشفافية والمتابعة والتدقيق.
كما يمكن أن تسهم الدولة بشكل فاعل جدا في الارتقاء بالمنظومة من خلال انتداب أصحاب الكفاءات من مختلف القطاعات ذات العلاقة، للعمل في المنظومة المحظرية، بشرط الصرامة في التقييم والمتابعة، كأن يتم انتداب الأساتذة من قطاع التعليم، والمؤطرين والمكونين كل حسب مجاله.
ثانيا/ القطاع الخيري وقطاع الأعمال:
يجب أن يلعب القطاع الخيري، والناشطون في خدمة المجتمع، ورجال الأعمال دورا بارزا في رصد الموارد اللازمة للمحظرة، والتعاون في هذا الإطار مع الشركات والأفرد، مع التركيز على المجالات التالية:
- تأسيس وإنشاء مشاريع وقفية يوجه ريعها للمحاظر.
- تشييد وصيانة وتأهيل المحاظر خاصة في الداخل.
- تسويق مشاريع لكفالة طلاب المحاظر، خاصة من الأيتام وأبناء الفقراء.
- خلق أساليب جديدة في دعم المحظرة، توائم الحياة المعاصرة، وتحفظ كرامة ومكانة الطالب المحظري.
- نشر ثقافة الإنفاق، وتعميق الوعي بأهمية دور المجتمع في خدمة المحظرة.
ثالثا/ الرسوم الدراسية:
كان دور الأهالي وسيبقى محوريا في المنظومة المحظرية، لذا يلزم أن يسهم المستطيعون في تحمل أعباء تدريس أبنائهم بدفع رسوم دراسية عادلة، تماما كما يدفعون رسوم المدارس النظامية، وهو ما لا يمانعون فيه عادة، على أن يكون ذلك تبعا للمبدأ التعاوني، وبما يغطي المصاريف الفعلية، دون السعي لتحقيق أرباح، وبعد تعذر تغطية هذه المصاريف من البنود الأخرى.