إن مسألة التنمية كتصور وممارسة بمعناها العام، ليست مولودا جديدا خرج من رحم المجتمعات المعاصرة، وإنما ارتبطت كمشروع فكري وعلمي، بقانون تطور التاريخ البشري، وصحيح أن فلسفة التنمية ومسارها النظامي والتنظيمي في مجالات متعددة كالاقتصاد، والفكر الأدبي، والإيديولوجيات، قد شهدت اختلافات مرتبطة بالتباينات الزمنية والمكانية. لكن رغم ذلك، فإن ما يبرر مصداقية ومشروعية التنمية في التاريخ الإنساني، هو أن الإنسان منذ صراعاته الأولى مع الطبيعة من أجل البقاء، كان يؤسس، عن قصد أو بدونه، لمشروع التنمية، الشيء الذي سيجعل منه المشروع المجتمعي التاريخي الدائم، الذي منذ بدايته كان مرتبطا بمصير إنساني مشترك، ألا وهو البقاء الذي يستدعي تفعيل الطاقة البشرية من خلال استثمار قوة العمل وتطوير أشكال التفكير والتنظيم.
وعلى الرغم من الإجماع الذي يمكن أن يقال بخصوص التنمية بمفهومها العام وخاصة الهدف منها، فهناك اختلافات واضحة حول الطرق التي تؤدي إلى هذه التنمية، وكذلك أنواعها وأنماطها، أي أن هناك اتفاقا حول الغاية، مع اختلاف حول الوسيلة. لذلك عرفت التنمية عبر تطورها التاريخي نقاشا واسعا بين الباحثين والمهتمين مما قاد إلى تبلور مجموعة من النظريات والمقاربات التنموية، التي لازال صداها يتردد لحد الآن، هذه الاختلافات الناتجة عن تطور المحيط العام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمعات البشرية. إن مفهوم التنمية لم يكتمل مدلوله ومبتغاه طوال فترات تطوره، فخلال كل مرحلة يظهر مفهوم جديد. وهذا ما سنحاول أن نعرضه في النقاط التالية.
ظهر مفهوم التنمية المحلية في اوروبا وبفرنسا تحديدا خلال سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كردة فعل على الممارسات الفوقية لتهيئة التراب الوطني، و المرتكزة على النظريات القطاعية لكل مصلحة على حدة، حيث تقترح التركيز على إحساس الانتماء لدى السكان إلى مكان عيشهم مع الأخذ بعين الاعتبار تطلعاتهم والعمل على دفعهم إلى القيام بمبادرات ذاتية في جميع الميادين التي من شأنها أن تساهم في ضمان تنمية سوسيو اقتصادية متناسقة. و يمر هذا المسلسل عبر حركية داخلية لإبراز الخصوصيات، والموارد المحلية، التي تمتزج مع حركية خارجية، لانفتاح المنطقة بشكل يسمح باندماجها في تدرجات فضائية عليا
يعد مفهوم التنمية من أبرز المفاهيم المستعملة في العلوم الإنسانية، وتختلف وتتعدد التفاسير المحدد لهذا المفهوم، وذلك نظرا لشساعة مجالات إستخدامه، لكن مفهوم التنمية يبقى من أكثر المفاهيم العالمية تداولا خلال القرن العشرين في هذا المجال، "الجغرفا البشرية"، حيث أطلق على عملية تأسيس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة، فيما يسمى ب"عمليات التنمية" التي تهدف إلى إحداث تغيرات إيجابية في البنية الاقتصادية والاجتماعية، عبر تعبئة الموارد والإمكانات المادية والبشرية والعمل على تثمينها.
ورغم صعوبة إعطاء تعريف شامل وموحد لهذا المفهوم، فقد حاول العديد من الباحثين والمختصين صياغة تعاريف لها لكنها ظلت أقرب إلى الشمولية، منها إلى الخصوصية، ومنها تعريف François Bureau، الذي يعتبر التنمية: خليطا بين التحولات الذهنية والاجتماعية لساكنة معينة، والتي تدفعها إلى أن تكون قادرة على تطوير ثرواتها الحقيقية بطريقة تراكمية ومستدامة.
بينما تعرف هيئة الأمم المتحدة هذا المفهوم بأنه: مختلف العمليات التي تتوحد بها جهود السكان والدولة، لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومن ما لاشك فيه ان التنمية هي الجهود المنتظمة، التي تبذل وفق تخطيط مرسوم، للتنسيق بين الإمكانات البشرية والمادية المتاحة، في وسط اجتماعي معين، بقصد تحقيق مستوى أعلى للدخل القومي، ودخل الفرد لتحقيق مستوى أعلى من الرفاهية الاجتماعية. والتنمية هي تطوير تقنيات وإقامة مؤسسات وتحقيق تنظيمات وتجهيزات، تسمح باستغلال واستهلاك المصادر
هذا، وبالرغم من اختلاف وتنوع موضوعات التنمية فإنها تبقى كسياسة بنيوية تراعى فيها شروط الاستمرارية، ويكون الإنسان محورها وأداتها وهدفها في الآن نفسه. وتتخذ التنمية في الوقت الراهن أنماط متعددة من أهمها: التنمية المحلية التنمية الريفية التنمية الزراعية التنمية المستدامة التنمية التشاركية التنمية المندمجة التنمية البشرية التنمية الترابية....
1-التنمية المحلية:
لقد أدت التحولات، التي شهدتها مختلف بلدان العالم، إلى ظهور نمط جديد من التنمية يرتكز على منهجية القيام بتنمية نابعة من الواقع المحلي للمجال المراد تنميته، أي أن التنمية المحلية، صيرورة في الزمن لتنويع وتقوية الأنشطة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية داخل مجال جغرافي محدد، أي الانطلاق من الخصوصيات المحلية في مختلف الميادين عوض العمومية الوطنية.
ويرى البعض، بأن التنمية المحلية هي "عملية مركبة وحركة اجتماعية تتوخى، تحقيق المتطلبات الاجتماعية وإشباع الحاجيات الأساسية لساكنة ما"، وبهذا فهي عملية ليست عفوية بل منظمة ومخططة تهدف للانتقال من وضع إلى وضع أحسن من سابقه.
إن التنمية المحلية حسب التعاريف السابقة، توحي إلى إستراتيجية تنموية جديدة تنبني على مقاربة، تنطلق من الأسفل نحو الأعلى، أي مراعاة الإمكانات المالية والبشرية المتاحة محليا، والخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع المحلي، لتحقيق تنمية متوازنة، وقادرة على تجاوز الإشكالات والعوائق المطروحة بمجال معين.
2- التنمية الريفية
يقصد بالتنمية الريفية. سلسلة من التحولات الإيجابية التي تمس مختلف جوانب الحياة في الأرياف، ويتميز هذا المسلسل بالشمولية والانتظام، ويؤدي إلى الرفع من أداء العمل الفلاحي، وترشيد إستغلال الموارد الطبيعية والبشرية، وتنويع الأسس الاقتصادية للسكان القرويين، وتحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولن تحدث تنمية قروية، إلا إذا تم الرفع، من جاذبية الحياة الاقتصادية والعمل في الأرياف، وذلك لتمكين السكان من تحقيق ذاتهم، ومواكبة التحولات التي يعرفها المحيط على المستوى، المحلي، الوطني، والعالمي.
ويعرفها البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة بانها "إستراتيجية معدة، قصد تحسين الحياة الاجتماعية والاقتصادية لمجموعة معينة من الأشخاص الساكنة القروية الفقيرة وتفرض توفير منافع لتنمية السكان الأكثر فقرا من بين الذين يبحثون عن وسائل التواجد بالمناطق القروية. إن التنمية الريفية إذا تجعل من تنمية المناطق القروية أولوية قصوى يجب العمل على تحقيقها.
3- التنمية الزراعية
ترتبط التنمية الفلاحية بشكل مباشر بتطوير وتحسين وضيعة الإنتاج الفلاحي بمجال معين وهي بذلك، تعني المستوى التنموي الذي بلغته جهة ما من حيث النمو الاقتصادي للقطاع الفلاحي، على مستوى المردودية والإنتاجية، ومدى إنعكاس ذلك على الحالة المعيشية والتعليمية والصحية، لسكان الأرياف من خلال مؤشرات التنمية البشرية.
وعلى هذا الأساس، فإن تحقيق تنمية بالمجال الريفي، تنطلق وترتكز على النهوض بالقطاع الفلاحي، والعمل على تطوير إنتاجيته، الذي سيلعب دور القاطرة، لباقي الميادين الحساسة بالوسط القروي من صحة، وتعليم، وبنية تحتية وخدمات.
4- التنمية المستدامة
تشكل التنمية المستدامة توجها جديدا في عمليات التنمية، أو مكملا لبعض جوانب النقص فيها، و يراعى فيها بعد الاستدامة او الديمومة، وعقلنة وترشيد إستعمال الموارد المتاحة، ومن هذا المنطلق تعتبر التنمية المستدامة، بمثابة مشروع لتلبية حاجيات سكان عالم اليوم دون المس بإمكانات تلبية حاجيات الأجيال القادمة.
وعموما، فالتنمية المستدامة تشكل عملية تنموية تطويرية، تهدف إلى ترشيد إستغلال الموارد المتوفرة وتوجيه الاستثمارات والقوانين والتقنيات بكيفية منسجمة، تسمح بتلبية حاجيات السكان في الحاضر والمستقبل.
5- التنمية التشاركية
تنطلق التنمية التشاركية، من مبدأ التشارك بين جميع الفاعلين، من دولة، وسكان، وفعاليات المجتمع المدني، عبر تحديد وتشخيص المشاكل المحلية، والعمل على بلورة مشاريع تنموية، كحلول لتجاوز المشاكل المطروحة. ومختلف هذه المراحل تتم بشكل تشاركي بين الفاعلين التنمويين والساكنة المعنية، وعليه فعملية التنمية التشاركية، تتطلب ديمقراطية أكثر، ومساهمة أكبر، من طرف الفاعلين المحليين، في ظل استقلالية إدارية، إضافة إلى احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك الأنظمة القضائية الفعالة....
وتعد التنمية تبعا لهذا، أهم الأنماط التنموية، المعمول بها في بلدان العالم الثالث. وإن كانت تتطلب وقتا أكبر لتحقيقها، وبذل مجهودات مهمة سواء من طرف الفاعلين أو الساكنة مما يحتم وجود خبراء ومختصين يسهرون على تتبع عمليات بلورة التصور والإستراتيجية التنموية الممكنة.
6- التنمية المندمجة
تهدف التنمية المندمجة، إلى تحقيق تعبئة متناسقة لجميع الموارد والإمكانات المتوفرة في إطار مخطط تنموي شمولي، قادر على خلق التفاعلات والتأزرات الضرورية لتغذية دينامية التنمية في الوسط القروي.
والتنمية المندمجة بهذا المعنى لا تقتصر على تحديث القطاع الفلاحي، بل تعالج مختلف جوانب الحياة في الأرياف، كفك العزلة وتحسين ظروف السكن عبر التزود بالماء الشروب والكهرباء وإقامة التجهيزات الاجتماعية والثقافية والصحية وحماية الموارد الطبيعية. وتعرف في الجغرافيا الاقتصادية بكونها وضعية أو صيرورة لتفاعل مشترك وظيفي وعضوي في مختلف ميادين الإنتاج والمبادلات في مجال واسع ذو طابع اقتصادي وصناعي.
7- التنمية البشرية
إن التطورات التي عرفها العالم، في مختلف الميادين، وفشله في عدم بلوغ الأهداف التنموية المسطرة، جعل المهتمين بهذا المجال وأصحاب القرار، يفكرون في بلورة إستراتيجية فعالة لتحقيق التقدم والرفاه الاجتماعي.
وتعد التنمية البشرية نتاج لهذا التوجه الفكري، حيث لم يكن لمفهوم التنمية البشرية، باعتباره إطارا تحليليا وقاعدة لمؤشرات القياس المستعملة، وجودا قبل مطلع التسعينات، حيث ظهر هذا المفهوم لأول مرة من خلال الأبحاث المتعلقة باقتصاد الرفاه، ولاسيما أبحاث الاقتصادي الهندي "أمارتياسن".
وقد أصبحت التنمية البشرية، تشكل توجها إنسانيا لتحقيق التنمية الشاملة والمتكاملة، ويمكن تعريفها بكونها مجموعة من التدابير التي تتيح للفرد الاستفادة من الإمكانيات المتاحة للعيش في ظروف أحسن: العيش مدة أطول وبصحة جيدة، الولوج إلى التعليم والبنيات التحتية الأساسية، أي توفير الشروط والظروف التي تمكن كل إنسان من تحقيق ذاته، هذا الإنسان الذي يعتبر محور التنمية وهدفها، ومبدع سياسات وإجراءات بديلة في تغيير محور التنمية ومعدلات إنجازها، إن العمل على تحقيق التنمية البشرية يشكل نظرة جديدة للإنسان ولإمكاناته ولقدراته في المشاركة وبناء مجتمع، تتحقق فيه المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية (2002): يمكن تحديد التنمية الإنسانية (التنمية البشرية) ببساطة بكونها عملية توسيع الخيارات. ففي كل يوم يمارس الإنسان خيارات متعددة، بعضها اقتصادي وبعضها اجتماعي وبعضها سياسي، وبعضها الآخر ثقافي. وحيث أن الإنسان هو محور تركيز الأنشطة المنجزة في إتجاه تحقيق التنمية، فإنه ينبغي توجيه هذه الأنشطة لتوسيع نطاق خيارات كل إنسان في جميع ميادين النشاط البشري لفائدة الجميع.
وتصبح التنمية الإنسانية وفق هذا التحديد، مفهوما بسيطا، لكنه ينطوي على دلالات بعيدة الأثر، ففي المقام الأول تتعزز الخيارات الإنسانية حينما يكتسب الناس القدرات والفرص فقط، ولكنها تسعى أيضا إلى ضمان توازنها المناسب من أجل تحاشي الإحباط الناجم عن فقدان الاتساق بينهما.
8- التنمية الترابية
تندرج مختلف الأنماط التنمية السابق ذكرها، في إطار ترابي معين بهدف تنميته والرفع من قدرته التنافسية، وعلى هذا الأساس تعتبر التنمية الترابية أو المجالية اليوم كإطار مرجعي لتأهيل برامج الاستثمارات العمومية وإستراتيجية الفاعلين المحليين بالوسط الريفي. خلال العشر سنوات الأخيرة، إزداد الاهتمام بالوسط الطبيعي والاجتماعي والاقتصادي، في تحديد إشكالية التنمية.
وتندرج التنمية الترابية، في إطار مشروع للتنمية، يتميز بكونه يبلور فوق رقعة ترابية محددة، وينجزه الفاعلون الاقتصاديون والاجتماعيون، بهدف تثمين موارد التنمية الخاصة بتلك الرقعة الترابية، عبر معرفة الإمكانات المتاحة والحاجيات المرتقبة والمشاكل المطروحة. ويعتمد في مشروع التنمية الترابية على مقاربة أفقية، تدمج مختلف القطاعات التي تشكل التراب، وذلك في إطار مقاربة تعاقدية بين جميع الفاعلين، مما يضفي عليه طابع الشمولية، ويبني هذا المشروع على أساس رؤية إستراتيجية ذات أبعاد يمكن تحقيقها على المدى البعيد أو المتوسط أو القصير.
إن الهدف العام، من وضع مشروع للتنمية الترابية، هو رهان مرتبط بتقوية الموقع التنافسي لذلك المجال التراب، وجعله قادرا على تلبية حاجيات ساكنته، وتوفير الشروط اللازمة للعيش على جميع المستويات، إجتماعية، إقتصادية، ثقافية، سياسية. وعليه فإن مفهوم التنمية يتخذ أبعادا ودلالات مختلفة ويترجم على شكل أنماط تنموية متباينة من حيث منطلقاتها، لكنها تشترك في رهان مركزي، يتمثل في تحقيق تنمية حقيقية لوسط ما.
ولعل مايزيد من صعوبة اعطاء تعريف محدد للتنمية المحلية بصورة عامة سواء من الناحية الاكاديمية او في السياسات الوطنية هو التداخل الحاصل بينها وبين مفاهيهم حديثة كالجهوية واللامركزية والفدرالية وهو ما يجعلنا نستفسر عن هذه المصطلحات وما دلالتها في مفهوم سياسة علوم المجال والتخطيط الترابي... يتبع.