بقدر ثقافة المرء يتسع صدره أو يضيق للمخالف في الرأي ، فكلما تعمقت ثقافته و توسعت مداركه كلما كان أكثر استيعابا للآخر بغض النظر عن أفكاره وأطروحاته ومهما اختلف معه حتى لو وصل الإختلاف في الرأي حد التناقض في كل شيء وبالمقابل نجد الأقل معرفة الأضيق صدرا تجاه الرأي الآخر ، الأكثر استعدادا لإطلاق سيل من الإساءات للخصم الفكري أو السياسي أو حتى المختلف ثقافيا .ولا يتعلق الأمر هنا بكمية الكتب التي قرأها الشخص ولا بالشهادات التي يحملها ، فإن المعرفة لا تقاس كميا ، بل إنها روح يسري في العقل ، فيبدل الجهل علما و الظلام نورا و الإنغلاق انفتاحا . و المعرفة ككل شيء تخضع لقانون البركة ، فتحل بركات الله تعالى بمطالعات شخص و قراءاته فيفتح الله عليه فهما و ذوقا و استيعابا ، فينعكس ذلك في تصوراته و في تصرفاته ، فكلما تعلم أكثر كلما اكتشف مدى جهله .. فقل لمن يدعي في العلم منزلة ~~ حفظت شيئا و غابت عنك أشياء .. و هو ما ينعكس على تصرفاته فيتمسك بخلق التواضع ، فكلما ازداد الشخص معرفة ازداد تواضعا ، و على النقيض قد يطالع البعض مئات الكتب و يحضر عشرات الدورات العلمية ، و لا تبقى وسيلة من وسائل اكتساب المعرفة إلا واستخدمها ، بيد أن البركة تكون منزوعة من جهده ، فيظن غرورا أنه أضحى علامة فهامة ، و هو لا يستطيع استنباط فكرة ولا تأليف نص سليم ، ولا يقدر على إبداع في الكتابة من أي نوع ، ويحسب أن حفظه لمئات النصوص يصيره عالما ! ولكن هيهات .. فالعلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، وليس مجرد نصوص جامدة وأنظام يحفظها المتعلم ليضحى عالما ، و هنا يصاب هذا المتعلم بنوع من الغرور و تضخم الأنا فيحسب نفسه علامة الدنيا ، فيفتي _ فتاوى لا علاقة لها بالواقع المعيش _ إذا كان الأمر يتعلق بالعلوم الشرعية ، أو يطلق الآراء الفاسدة و الإساءات للدول و الأشخاص والهيئات إن كان الأمر يتعلق بعلوم حديثة ، و قد يحسب بعض الكتاب الروائيين أنفسهم مصدرا للمعرفة والفهم السليم للحياة بسبب مؤلف لهم نجح هنا أو هناك ، فينصبون أنفسهم معيارا للحق و الصواب ، و أتساءل هنا متى كانت الكتابة الأدبية الروائية تكسب صاحبها الحق في شتم المجتمع و النيل من مقدساته و الإساءة لرموزه ؟!و هذا الصنف الأخير من الباحثين عن الحقيقة الذين قلت أن البركة نزعت من معرفتهم ، يتميزون بالتكبر على الآخرين ، وما ذلك إلا لجهلهم ، فكما أسلفت كلما ازداد المرء معرفة كلما ازداد تواضعا ، و بالمقابل كلما ازداد جهلا كلما تكبر و تجبر ، و العجيب أن الجاهل لا يدرك مدى جهله ، فيتصور نفسه المثقف الذي لا يشق له غبار ، و الفتى الذي تحدث عنه طرفة بن العبد : إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ~~ عنيت فلم أكسل ولم أتبلد .فيضفي على نفسه هالة من الأهمية ، وما ذلك إلا بسبب رواية أو روايتين قرأهما أو ألفهما _ في حالة المثقف اليساري _ ، أو نظم أو نظمين حفظهما _ في حالة المتعلم علوما شرعية _ ، و ما علم أن المعرفة أوسع ، و أن الشريعة و القانون مباحث أعمق بكثير ، و أن الغوص في بحارها فن لا يتقنه إلا من تجرد للبحث عن الحقيقة ، و أعطى العلم كل اهتمامه ، فإذا تجرد و تعب و قضى ردحا من الزمن على هذا المنوال يمكن الحديث ساعتها عن " طالب علم " أو " باحث عن الحقيقة " في أولى مراحل طريقه الطويل وهنا يتلقى هذا الباحث الرأي الآخر بأريحية ، و يتقبله بصدر رحب ، وما ذلك إلا بما اكتشف من علوم ، وما نهل من معارف ، فإذا آمن بأيديولوجية معينة لم تعمه الأيديولوجيا من الإنصاف و تقبل الرأي الآخر و استيعاب المخالفين ، وهنا يكمن الفرق بين المؤمن بأيديولوجية معينة عن بينة و اختيار و المؤمن بها إيمانا وراثيا لم يكن عن سابق قناعة و دراسة بقدر ماكان وراثة عن المحيط العائلي الإجتماعي ، فيتعصب لأيديولوجيته تعصبا أعمى ، ويرمي المخالف في الرأي بكل اتهام ، و يصنف نفسه و مجموعته على أنهم شعب الله المختار ، الذين لا خير إلا فيهم ولا فضيلة إلا حكرا عليهم ، و ماعلم أن العمل البشري حيث هو خاضع للنقص ، و أن الظاهرة الإنسانية _ بما فيها الظواهر الثقافية والإجتماعية والسياسية _ ظاهرة نسبية و معقدة ، فلذلك وجب على الأيديولوجي _ حيث هو _ ليواكب اللحظة التي يعيشها العالم أن ينهل من المعارف ، و أن يتقبل الآراء الأخرى مهما كانت ، و يستوعب الآخر و يتعايش معه في ظل الدولة المدنية المعاصرة التي يفترض أنها لا تضيق ذرعا بأي رأي ، و لا مشكلة لديها مع أي أيديولوجيا سلمية .