أي شيء ثمنه سلامك الداخلي لا يستحق!عرفتُ أشخاصا كثيرين يرون الحياة جهادا دائما لتحصيل المال والمكانة، غالبا على حساب الأشياء الصغيرة المهمة مثل العائلة، الأصدقاء، تثمين التجارب الحياتية بدل المقتنيات، وهؤلاء الأشخاص يجنون على أنفسهم أكبر جناية وأعظمها، ولست هنا بصدد القول إن المال غير مهم، ولكن جعلَه محورَ حياتنا وقيمتنا هو الخطأ بعينه، فيكفي من المال ما يغنينا عن الغير، أي الكفاف وما زاد عليه زوائد لا قيمة لها، وفي الأثر عن الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، وأتذكر أنني قرأت أن أحد الفلاسفة اليونان الأقدمين دخل سوقا عامرة في أثينا مع بعض تلامذته، فانبهروا بتنوع وجودة المعروض من البضائع، وقالوا له: ما أكثر ما نحتاج من هذه الأشياء، فقال الفيلسوف الحكيم، بل ما أكثر ما نحن في غنى عنه!فالغنى عن الشيء لا به، ورحم الله أبا الطيب إذ يقول:ذكر الفتى عمرُه الثاني، وحاجتُه ما قاتَه، وفضولُ العيش أشغالُ.فما يحتاجه الإنسانُ هو قوته وكفافه، والباقي أشغال وزوائد..وفي عصرنا الحالي استفحلت خطورة حب التملك وأصبح ظاهرة تُدرس تحت اسم (consumerism) أو النزعة الاستهلاكية، وصارت أقرب للمرض النفسي، ومؤخرا ظهرت دعوات في الغرب لمواجهة هذا الجشع التسوقي، فظهر مصطلح جديد، (minimalism) الذي يدعو للتخَفُّف من المقتنيات غير الضرورية، وقد قرأت كثيرا مما كتب حول هاتين الظاهرتين من الكتّاب والمفكرين الغربيين، وأدركت حجم المأساة التي يعيشها الإنسان المعاصر الذي يعتقد أن قيمته في ما يملك، ففي تحليله لتنامي النزعة الاستهلاكية في أغلب المجتمعات الحديثة في العقود الأخيرة، يبدأ عالم الاجتماع البولندي البارز زيجمونت باومان بالانطلاق من حقيقة بديهية، وهي أن جميع البشر مُستهلِكون بشكل فطري، وكانوا على مر الزمان مُستهلِكين بغرض إشباع حاجاتهم ورغباتهم، فليس اهتمامنا بالاستهلاك شيئا جديدا، فعملية الاستهلاك والإشباع سمات إنسانية طبيعية تسبق بالتأكيد ظهور الاقتصاد الرأسمالي الصناعي والتقنية الحديثة والأسواق الضخمة، إلا أنه يلفت انتباهنا إلى ظاهرة جديدة على التاريخ الإنساني بصفة عامة، لم يتصف بها النزوع الإنساني الاستهلاكي من قبل، وهي ظاهرة مُجتمع المُستهلكِين أو بتعبير آخر مُجتمع السوق.والحقيقة الثابتة هي أن ما زاد على كفاية الإنسان من المال، لن يزيده سعادة، وإنما السعادة في الرضى، والاستسلام لما ترمينا به الحياة واعتبار قدر الله خيرا كله