رئاسيات 2019 : المأمورية الثالثة / سيد احمد ولد مولود

صفقوا أيها المواطنون البسطاء، وزغردوا ملء حناجركم. صفقي وزغردي أيتها الدهماء، لهذا التناوب السلمي على السلطة في بلاد الانقلاب العسكري؛ لكن النظام في موريتانيا لم يتغير. نظام لديه قدرة خارقة على البقاء، ومافيا الفساد التي يعتمد عليها في الحكم، لديها هي الأخرى قدرة فائقة على البقاء في دائرة السلطة.

هؤلاء القادة العسكريون الذين يحكمون البلاد منذ عقود من الزمن، هم بارعون في المراوحة بين الانقلاب والانتخاب للوصول والبقاء في السلطة. وانتخابات يونيو 2019 ما هي إلا خدعة مثل سابقاتها؛ إلا أنهم هذه المرة فعلوها بشكل علني وصريح.

 قال الرئيس المنتهية ولايته إنه باق في الحكم، وإن نظامه لن يتغير، وهذا هو الذي يحدث بالفعل.

يقولون في مجالسهم الخاصة إنهم لن يتركوا مافيا الفساد تجهض مشروعهم الإصلاحي الذي ضحوا بحياتهم من أجله، مهما كلفهم ذلك من ثمن.

 رئيس منتخب يسلم السلطة لرئيس منتخب، رئيس يتنازل عن السلطة احتراما للدستور والناس ينظرون، أمر يستحق الإشادة.

لكن النظام هو هو، والذي يحدث بالفعل، هو أننا دخلنا مع الرئيس الجديد - شئنا أم أبينا - في بداية مأمورية ثالثة للرئيس القديم.

هذه المأمورية التي طالب بها كثيرون، وعارضها كثيرون، وظنوا أنها سقطت بالكلية من أجندة ولد عبد العزيز بملء إرادته، أو استجابة لإرادة زملائه في الجيش، لم تسقط إلا من حيث الشكل.

فما اختياره لصديقه ورفيق دربه إلا مأمورية ثالثة تأتي بشكل قانوني شفاف.

1 - العسكر

كانت عسكرة النظام السياسي في موريتانيا قد بدأت مع حرب الصحراء، فالجيل الأول من الضباط الذين شاركوا في الحرب هم من أسس النظام الحالي، جيل ولد هيدالة وولد الطايع. وعندما شاخ النظام جاء الجيل الحالي وهو جيل ولد عبد العزيز وولد الغزواني.

لا نقول إن "التناوب" السلمي على السلطة بين ولد هيدالة وزميله ولد الطايع يشبه التناوب الحاصل الآن بين ولد عبد العزيز وصديقه ولد الغزواني، لكن أوجه الشبه كثيرة بين ولد الغزواني وولد الطايع من جهة، وبين ولد هيدالة وولد عبد العزيز من جهة أخرى.

جاء التناوب بين الأولين بشكل غير ودي بإملاء من فرنسا، وجاء التناوب بين الأخيرين بشكل توافقي ودي سلس، وبمباركة فرنسية.

ولد الطايع وولد الغزواني رجلان من فئة الزوايا يستندان كلاهما - وإن بدرجة مختلفة - إلى تلك المرجعية الغربية التي تحبها فرنسا في قادة المستعمرات القديمة.

أما ولد عبد العزيز وولد هيدالة فهما من حملة السلاح، ويستندان إلى مرجعية صحراوية بدوية مارقة بقيم القوة والشجاعة على الكثير من مقتضيات المشروع الغربي، وذلك أمر لا تحبه فرنسا في قادة الدول التي تسير في فلكها.

 2 – الفساد

عندما عجز ولد عبد العزيز في بداية أمره عن استرجاع أوقية واحدة من أموال القرض الزراعي التي استولت عليها مافيا الفساد في آخر عهد معاوية، أدرك أن شعار مكافحة الفساد الذي أطلقه غير واقعي.

وأن الذخيرة القانونية والإدارية غير كافية للدخول في حرب حقيقية ضد الفساد، كما أنه هو وصديقه ولد الغزواني هما أول من استفاد من الفساد بالصعود إلى رتبة جنرال في الجيش بجرة قلم، مكافأة من صديقهما الرئيس، وكان في الجيش من هو أحق منهما بتلك الرتبة، فاكتفي بالحرب الكلامية، وبعض الاصلاحات في هيكلة الخزينة العامة والنظام الضريبي..

الفساد في موريتانيا شر لا بد منه، العارفون بمفاصل الإدارة يعلمون أنه لا يمكن إنجاز أي مشروع دون اللجوء إلى أساليب فساد، إما بدفع عمولات ورشاوى أو بفرض تجاوزات قانونية لا تستقيم الأمور إلا بها.

أجور الموظفين والعمال لا تمكنهم من العيش الكريم، ويضطرون إلى التحايل لكسب قوتهم اليومي.

3 - التكنوقراط

أخفق الرئيس الجديد في أول امتحان له في الحكم، وهو اختيار أعضاء حكومته، لكنه نجح في الإبقاء عليها سرا قبل إعلانها وذلك مؤشر إيجابي على ضبط الأمور.

أبقى على وزراء من الحكومة القديمة كأنه في تعديل وزاري عادي يأتي بعد إعادة انتخاب رئيس كان في السلطة.  

حاول الرئيس الجديد الهروب من منطق المحاصصة والمكافأة إلى منطق الكفاءة، لكن إدارة الشأن العام تتطلب مؤهلات لا يمتلكها الكثير من حاملي الشهادات. التكنوقراطي هو في الغالب شخص مستلب، ليس لديه أي مؤهل سياسي أو اجتماعي يخوله انجاز المشاريع التي تتطلب بعدا في النظر، وتجربة في القيادة. التكنوقراطي هو ذلك الشخص الضعيف المتخفي الذي لا يحمل هم المجتمع، يعتني بربطة عنقه وتسريحة شعره أكثر من الشأن العام. شخص يمكن الاستغناء عنه بجهاز كمبيوتر أو بتطبيق معلوماتي.

كان زملاؤهم في الدراسة، يحملون هم المجتمع، ويضحون بمستقبلهم من أجله، يقارعون الأنظمة، وينتزعون الحقوق، في حين ينزوي التكنوقراطي الطفل في الركن في انتظار جني الثمرة.

حكومة التكنوقراط خدعة وهروب إلى الأمام، آلة  تلجأ إليها الأنظمة الشمولية للتغطية على العجز والاستبداد. هم آلة طيعة في يد القائد المستبد، لا يشاركونه في الرأي، يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه، أشخاص من فئة الطفيليات همهم الأول هو الحفاظ على مناصبهم بالطاعة العمياء.

المستجير من رجال السياسة بالتكنوقراطي في إنجاز مشاريع التنمية، كالمستجير من الرمضاء بالنار.

4 - اللون

الحكومة الجديدة لا ترضي الـ 52% الذين صوتوا لمرشح "الإجماع الوطني"، وهي من إرضاء الـ 48% الذين صوتوا لغيره أبعد.

أوضحت نتائج الانتخابات أن الخارطة السياسية تغيرت وأصبحت ملونة، ساحة تقلص فيها دور الحركات السياسية التقليدية، وصار لون البشرة عاملا حاسما في جلب أصوات الناخبين.

وجاءت الحكومة ملونة، بسبعة وزراء من فئة الحراطين، ولا ندرى مدى تأثرهم بهموم ومعاناة الفئة التي ينتمون إليها.

وجاء تمثيل القوميات الزنجية في الحكومة ضعيفا، عقابا لها – في ما يبدو - على عدم التصويت لمرشح النظام. صوتوا لبرام وكان حامدو بابا.

مسألة التصويت الملون هي المسألة الوحيدة التي أخذت بعين الاعتبار في تشكيل الحكومة.

5 - السلطان

لا يعرف الموريتانيون الآن من هو رئيسهم الفعلي، فقواعد التوحيد لا تسمح بتقاسم السلطة بين اثنين. ولد عبد العزيز لا يصلح بطبيعته أن يكون مستشارا، وذلك لحرصه على الممارسة الفعلية للسلطة، وولد الغزواني لا يصلح أن يكون دمية في يد غيره. الداعمون لولد الغزواني يكرهون ولد عبد العزيز ويتربصون الدوائر للعلاقة بين الاثنين، يريدون الإيقاع بينها ليخلو لهم وجه رئيسهم.

أجهش ولد الغزواني أو كاد بالبكاء لدى النطق باسم صاحبه في خطاب التنصيب، لكنه تغلب على الأمر وتابع الإلقاء بصعوبة.

هل أدرك حينها أن ساعة الفراق أصبحت قريبة، وأن قيم الصداقة والوفاء مهما كان عمقها، قد لا تصمد طويلا أمام إكراهات الممارسة الفعلية للسلطة. إكراهات عويصة لا تزن فيها المشاعر الطيبة جناح بعوضة.

6 - القسمة

لن يخرج ولد عبد العزيز من السلطة بالسرعة والسهولة التي يتمناها معارضوه في السياسة، ولا تتوفر لحد الساعة معلومات عن المكان أو الإطار القانوني الذي ينوى ممارسة السلطة من خلاله. الحزب الحاكم، حزب الاتحاد من أجل الجمهورية لديه أغلبية مطلقة في البرلمان وأهله جاهزون للهتاف باسم عزيز إن هم تأكدوا من بقائه في الحكم، وجاهزون للتنكر له إذا ساءت الأمور بينه مع الرئيس.

القادة العسكريون الذين شاركوا ولد عبد العزيز وولد الغزواني في تنفيذ مشروعهما لديهم نصيبهم في الحكم، ويعتبرون أنفسهم قوة ضامنة لاستمرار النظام، وإن كانت قواعد التوحيد لا تسمح بتقاسم السلطة بين اثنين فكيف بها إن كانوا جماعة.

صورة النظام السياسي التي تلوح في الأفق الآن هي جهاز تنفيذي تكنوقراط يترأسه ولد غزواني، وجهاز سياسي مشاكس يتزعمه ولد عبد العزيز، وقادة عسكريون يحفظون استمرار النظام ويشاركونه في الحكم.

7 – المنطق

كنا نقول : "هذا صحيح وهذا خطأ"، وأصبحنا نقول "هذا يعجبني وهذا لا يعجبني"، صار العقل السياسي رهينا لوسائط التواصل الاجتماعي، فالباحث عن الإعجاب لا يفكر بميزان العقل بل يفكر بميزان العاطفة، ميزان الحب والكراهية. يكتب ليرضي محبيه وليغيظ خصومه، لا ليقول الحقيقة.

وهكذا تسيطرت الغوغاء والدهماء على العقول في عصر التواصل الاجتماعي، وحل منطق العاطفة مكان منطق العقل.

صار الناس يميلون إلى تصديق ما يعجبهم، لكن القرارات التي يصفق لها الناس ليست بالضرورة هي القرارات الصائبة.

فصفقوا أيها المواطنون البسطاء، وزغردوا ملء حناجركم، لكن النظام في موريتانيا لم يتغير.

 

سيد احمد ولد مولود

نواكشوط، 05 سبتمبر 2019

5. سبتمبر 2019 - 20:22

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا