ملح المعارضة ..قليله إدام ، وكثيره سام..! / محمد الامين ولد آقه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
العلاقة بين الراعي والراعية ينبغي أن تكون قائمة على التعاون والتناصح ولا منافاة بين الأمرين ..
والمعارضة الناجحة هي التي تجمع بينهما ولا تهمل أيا منهما ..
إن دور المعارضة هو مراقبة الحاكم وتقويم عمله وتصحيح أخطائه والإشادة بإنجازاته والإعانة على تحقيق مشاريعه
إن دورها هو دور المعين المرشد الناصح لا دور المخالف المتربص الباحث عن الخلل والزلل.
وهذا الدور بمثابة قوة نابذة تكبح جماح التأثير السيء للمتملقين وبطانة السوء الذين يلتفون حول الحاكم ويزينون له الفساد د بغية الاستفادة منه ..!
يتوهم البعض ان مهمة المعارضة هي جلد الحاكم وتعنيفه والتقليل من أهمية إنجازاته والتشكيك في جدوى خططه ومشاريعه ..
وهذا الخلل قاد إلى الكثير من الزلل..
بل إن مفهوم المعارضة عند بعض المنتسبين إليها يحتم عليها مخالفة الحاكم في كل شيء ..!
فإذا قال الحاكم : "لا إله إلا الله" .. قالت المعارضة:  "الله واحد لا شريك له" .. ، واذا قال الحاكم: " سبحان الله" .. قالت المعارضة : "تعالى الله" ..المهم ان يحدث نوع من المخالفة ولو في صيغة الذكر !
إن خير ما يعاشر به الحكام قلة الخلاف ..
وحينما يكون للمعارضة وسائل إعلام تنافس إعلام الحاكم.. وتنظر إليه وإلى كل ما يقوم به من إصلاح بعين السخط لا بعين الرضا ..!
وحينما تبث الأخبار بصيغة يصعب معها التمييز بين الواقع والمتوقع والسليم والسقيم..
وحينما يكون لها  أنصار وأتباع على مواقع التواصل الاجتماعي ، يروجون لما تريد من أفكار وأخبار، قد لا تدعم مشروع الاصلاح المنتظر..
وحينما تعتبر كل إصلاح لم يخرج من عباءتها إفسادا ..!
حينها يمكن القول بان المعارضة لم تشارك في عملية الإصلاح، إن لم نقل بأنها تشكل عقبة أمام تحقيق هذا الإصلاح !
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ..إذا كنت تبنيه وخلفك ألف هادم ؟!
إن الحياة أخذ وعطاء ..ومن المهم أن نعطي الثقة لمن نطلب منه القيام بمهمة ما ..
لأن عامل الثقة في النفس شرط أساسي للنجاح في أي عمل ..
قامت بعض المراكز البحثية بإجراء تجربة في علم النفس فأخذو مجموعة من الطلاب ووضعوهم في قسم وانتقوا لهم مجموعة من الأساتذة ، وقالوا للطلاب أنتم افضل مجموعة من الطلاب وجدناها ..
وقالوا أيضا للأساتذة : أنتم أفضل أساتذة يمكن اختيارهم لهذه المهمة .!
وفي نهاية العام كان القسم متفوقا على سائر الأقسام ..
لكن المفارقة أن الطلاب لم يكونوا من خيرة الطلاب ، ,وأن الأساتذة أيضا لم يكونوا من خيرة الأساتذة ..وإنما قيل لهم ذلك من أجل إعطائهم ثقة عالية في انفسهم وقد كان ذلك ..!
وحين تحصر المعارضة دورها في الجانب السلبي وهو النقد والتشكيك والاتهام فإنها –شاءت أم أبت-تنزع من الحاكم ثقته في نفسه وتفقده شرطا أساسيا من شروط النجاح في العمل ..
وأضر الأشياء أن تعلم رئيسك أنك أدرى منه  بالرئاسة ومقتضياتها..!
وكما أن كثرة الاعتراض داعية إلى الاحباط ،فإن كثرة المعترضين تعيق السير وتزيد في الارباك وتبعث على التردد ..
فالمعارضة للنظام كالملح للطعام قليله إدام وكثيره سام ..!
وقد قيل : كثرة الآراء مفسدة.. كالقدر لا تطيب إذ كثر طباخوها !
كان عامل بناء يبني لأسرة منزلا فأوصاه الأب وقال : اجعل الباب في جهة الغرب حتى يكون مقابلا للظل، فمرت به الأم وهو يضعه في جهة الغرب فقالت : اجعله في جهة الشرق حتى يكون مقابلا للريح ..!
فنقله الى جهة الشرق ..فمر الابن وقال : اجعله في جهة الشمال مقابل الشارع الكبير ..!
فمرت به  البنت وهو يجعله في جهة الشمال فقالت : لا تجعل الباب هنا ..اجعله في جهة الجنوب مقابل باب جارتنا..
فاستشاط غضبا وسد الباب من جميع الجهات وجعله في ناحية السقف ..
وطاف أفراد الأسرة بالدار يريدون الدخول فقالوا : أين الباب ؟
قال وهو يبتسم ابتسام المغضب : جعلته مقابل نفحات الله ..!
وربما كانت كثرة الآراء سببا إلى الخلاف والنزاع ، كما قال الشاعر :
تصدع رأيهم فمضوا شتيتا ...من الآراء خلفا وانقساما
وأوشك أن يشبوها ضروسا ... يكون وقودها جثثا وهاما !
*****
إن التبرم من سوء الأوضاع والنقد المستمر لطريقة علاجها ليس مؤشرا على كفاءة المعارضة وصلاحيتها للحكم ،فالنقد سهل لمن كان في موقع التنظير ، بعيدا عن معالجة العقبات ومكابدة الصعوبات ..!
وإذا ما خلى الجبان بأرض ..طلب الطعن وحده والنزال !
ليس من شرط المعارضة الجادة أن تكون دائما حادة ..!
ولا يدل على حيويتها أن تكون شقية وصاخبة  ..
وقد لا يتنافى مع مهمتها ان تربت على كتف الحاكم وتناجيه بنغمة هادئة.. إنها لا تخرج بذلك عن سياق المعارضة ..
بل إن ذلك هو الأجدى وهو الأوفق مع  الشرع ..
ألم تسمع  قول الله عزَّ وجلَّ لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
وعن عائشةَ رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيءٍ إلاَّ زانَه، ولا يُنْزَع من شيءٍ إلاَّ شانَه" رواه مسلم.
و"شيء" نكرة ، والمقرر عند أكثر الأصوليين أن النكرة في سياق الشرط تعم.
بل ورد التنصيص على هذه المسألة في حديث عياض بن غنم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أراد أن ينصح السلطانَ بأمرٍ فلا يُبدِ له علانيةً، ولكن لِيأخذْ بيدِه فيخلو به، فإن قَبِل منه فذاك، وإلاَّ كان قد أدَّى الذي عليه له" رواه أحمد  والحاكم  وابن أبي عاصم في السنَّة ، وقال الألبانيُّ في تخريجه: " صحيحٌ بمجموع طرقه".
وعند أحمد - رحمه الله - في " المسند " (4/383) : أن سعيد بن جمهان تلكم في السلطان فغمزه عبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - ثم قال : ( ويحك يابن جمهان !! ، عليك بالسواد الأعظم ، إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم ، فإن قبل منك وإلاّ فدعه ، فإنك لست بأعلم منه ) .
وفي الصحيحين أن أناساً انتقدوا على أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وقالوا له : ألا تدخل على عثمان فتكلمه ؟! ، فقال : ( أترون أنّي لا أكلمه إلاّ أسمعكم !! ، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمراً لا أحبّ أن أكون أول من فتحه ) .
وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن كيفية أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر ؟ ، فقال : ( إن كنت فاعلاً ولا بُدّ ففيما بينك وبينه ) انظر" جامع العلوم والحكم "لابن رجب .
وأنت بصير بأن المشاكسة قد تكون لها نتائج عكسية ، ويكون الهدوء والانضباط أكثر منها جدوائية ..
كانت أم لها رضيعان توأمان أحدهما سريع التأثر كثير البكاء ، والآخر هادئ وقليلا ما يبكي ..
لا حظ الناس أنها تعتني بالصبي الهادئ أكثر من اعتنائها بشقيقه المشاكس ، فسألوها عن ذلك فقالت : هذا الصبي الهاديء يحتاج الى مراقبة دائمة لأنه قد يتعرض لبعض المعاناة والألم ولا أشعر به ، وأما الآخر فإنه يخبر عن نفسه ببكائه ..
وهذا هو حال الحاكم مع الناس ، فكلما قل اعتراضهم واكتمل انضباطهم كان حريصا على دوام ارضائهم مع مراقبة أحوالهم ومباشرة أوضاعهم ، وكلما شاغبوا عليه وأكثروا من الاعتراض خالطه الملل ودعاه إلى قلة العمل.
ومن أجل أن تكون المعارضة موضوعية في معارضتها ينبغي أن تعترف بأن الحاكم ليس هو من يصنع الأحداث وحده وليست المهمة مهمته وحده ..وليس النجاح نجاحه وحده ..وليس الفشل  فشله وحده ..!
هناك الجهاز الإداري ..وهناك الطبقة السياسية ..وهناك النخب العلمية والفكرية والمجتمعية  .. وهناك الشعب من حوله ..
مهمته هو أن يعمل ويثابر ..ومهمة الجميع أن يكونوا له عونا وسندا وطاقة ومددا ،لا أن يضعوا أمامه العراقيل ..تحت لافتة "المعارضة" .
****
إن المعارضة التي تكون في خندق مقابل لخندق السلطة في جميع الاحوال والظروف معارضة غير ناجحة ..
أما المعارضة التي لا تجد تعبيرا عن نفسها إلا بزعزعة الاستقرار والتشويش على الحاكم والتشكيك فيه ..فإنها تضر أكثر مما تنفع ! ..
بل إن هذا النوع من المعارضة قد يفتح الطريق أمام المفسدين وأصحاب النوايا السيئة المعشعشين في دياجير الخلل الأمني..
والمتأمل في التاريخ وأخبار الأمم يلحظ أن الشطار والعيارين وقطاع الطرق كانوا يكرهون تمكن السلطان ولا يكفون عن إثارة الفتن والنعرات بل كانوا يهيجون العامة على انتقاص الدولة ،يتربصون بذلك الفتن ..
ومن امثلة ذلك قول الذهبي  في (حوادث سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة) :(فيها ثارت العامة ببغداد على النصارى، فنهبوا البيعة وأحرقوها، وسقطت على جماعة من المسلمين، فهلكوا، وعظمت الفتنة ببغداد، وانتشر الدعار. وبطل الحج من العراق في هذه السنة.) تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (27/ 225)
وقال ابن البيطار : (واجتمع بنو العباس وكشفوا وجه النكير على المأمون، وتداعوا للقيام وخلعوه وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، فوقع الهرج وكثر القتل والنهب ببغداد، وانطلقت أيدي الذعار بها من الشطار والحربية على أهل العافية والصون، وقطعوا السبيل وامتلأت أيديهم من نهاب الناس، وباعوها علانية في الأسواق،) حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر (1/ 360،).
وقد ذكر ابن خلدون في المقدمة أن انتقاص العامة للسلطة من أسباب ضعف الدولة وانحدارها إلى الفناء.
وكان من أسباب الفتنة في زمن عثمان رضي الله عنه أن جماعة من الناس جاهروا بالإنكار عليه ،وأكثروا من انتقاده وذكر عيوبه حتى أبغضه بعض العامة وأشربت قلوبهم ذلك ،فقتل عثمان رضي الله عنه ووقعت الفتنة التي مازال المسلمون يعانون من آثارها إلى اليوم ..!
ويشهد لذلك ما ذكره ابن سعد في " الطبقات الكبرى " (6/170) عن عبدالله بن عكيم - رحمه الله - أنه قال : لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان - رضي الله عنه - !! ، فقالوا له : يا أبا معبد أوَاعنت على دمه ؟! ، فقال : إنّي أعدّ مساويه عوناً على دمه .
ولهذا كان من شأن أهل الصلاح والبصيرة الدعوة بالتمكين والقوة للسلطان في كل دعاء لهم لأن الله يدفع به عن البلاد والعباد كما قال ابن حيوس الغنوي :
فإذا دعوا وتضرَّعوا لمْ يسألوا ... إِلاَّ إِدَامَةَ عِزِّ ذَا السُّلْطَانِ
قال الإمام أحمد رحمه الله : لو كان لي دعوة مستجابة؛ لصرفتها للسلطان؛ فإن بصلاحه صلاح الأمة.
وقد روى الخطيب في " تاريخه " ( 5/ 437 )، بإسناده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال على منبر البصرة : ( اللهم أصلح عبدك وخليفتك علياً أهل الحق أمير المؤمنين ) .
ينبغي للمعارضة أن تعطي للناس دروسا في الانضباط والانتظام ، لا أن تفتح لهم الباب نحو الشغب وهيشات العوام ..
ونحن مجتمع تحاصره الفوضوية الموروثة، و"لمجانين ما ينعتلهم الترصاف "..!
ومن اليسير تحريك الساكن لكن تسكين المتحرك عسير..!
والواقع من حولنا أبلغ نذير .
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.

6. سبتمبر 2019 - 9:32

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا