جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل))
أخرجه ابن أبى الدنيا في كتاب (قضاء الحوائج) وحسنه الألباني في (صحيح الجامع).
في البداية أريد من القارئ الكريم أن يترك السياسة جانبا ويتجرد من كل رواسب الآلة الدعائية التي واكبت صناعة السُّلَّم الإجتماعي المختل الذي ورثناه عن أسلافنا ليدرك معي دون كبير عناء أن المجتمع الموريتاني تعرض في معظمه لظلم كبير سَلَبه الكثيرَ من حقوقه الأساسية و سيدرك أيضا أن أبشع تجليات ذلك الظلم التاريخي على الإطلاق هي حرمان الناس من حقهم في الحرية و العيش الكريم و استغلال الإنسان لأخيه الإنسان بكل تجرد من الدين والإنسانية والشفقة والرحمة. إنها ظاهرة العبودية، تلك الكارثة الإنسانية التي ظهرت و مورست في مجتمعنا بأبشع أشكالها، وهنا أرجو أن لا يُزايد علي أحد لا من المدافعين ولا من المؤيدين ولا من المتشددين ولا من المعتدلين ولا من المتدينين ولا من العلمانيين ولا من الحقوقيين لا في الداخل ولا في الخارج لأن خزائننا و صناديقنا مليئة بالوثائق و الكتابات التي توثق افتداءات الأحرار الذين يُعترف لهم بالحرية و مع ذلك يُدفع المال أو الجاه أو هما معا كي يُرفع الظلم عنهم فما بالك إذن بمن يعتبرون عبيدا في ذلك التاريخ، غير أن البحث هنا عن الجانب الإيجابي لمعالجة هذه المعضلة التاريخية يستلزم مني الإختصار و عدم إثارة ما لا تلزم إثارته.
أيها القارئ الكريم، لكي تدخل معي في صميم الموضوع وصلبه تصور معي أنك ولدت عبدا في أسرة من العبيد جُلب أبوك وأمك من منطقة أخرى ليستقر بك المطاف مستعبدا إلى جانب والدك ووالدتك وإخوتك وأخواتك في أسرة من ((الأسياد)) أحسن حالاتها، إذا كنت محظوظا، أن تخالف فيك دينها الذي تدَّعي أنها بموجبه استعبدتكم والذي ينص في أكثر من موضع على أن تُلبسكم مما يَلبسون و تُطعمكم مما يَطعمون و تجُلسكم على ما يجلسون عليه و أن لا يكلفوكم ما لا تطيقون وإلا فعليهم أن يساعدوكم فيه وهي حقوق كفلها الإسلام و قد لا يوفرها ((سيدك)) هذا لأبناء عمومته أحرى أن يوفرها لمن يعتبرهم ثروة قبل أن يكونوا بشرا، ثم دخل الأوربيون و رجال الأعمال على الخط ليشتروا الأقوى فيقع الإختيار عليك وعلى والدك فتفارقا بقية الأسرة الضعاف و دموعهم االيائسة ستبقى في ذاكرتك توقظك كلما أردت نوما وتؤلمك كلما أردت استرخاء و أنت في حقل تجر عربة ثقيلة على كتفيك لتقتطف القطن تكابد الحياة القاسية في ميامي أو فلوريدا لتتأقلم مع أسيادك الجدد الذين لم يستطع بياض قطنهم ولا بشرتهم أن ينسيك سواد مستقبل بقية أسرتك الضعاف الذين تركتهم منذ أربعين سنة في صحراء موريتانيا المترامية ينتظرون مستقبلهم المجهول.
أخي الكريم، من أجل هؤلاء الضعاف المساكين الذين تركت هنالك بعيدا دون إرادتك أرسم خطتي إلى مجتمع تَورَّع عن كل ذلك و أصبحت العبودية فيه جُرما يعاقب عليه القانون بأشد العقوبات، إلى مجتمع مستعد لمسح عار ذلك الظلم الشنيع، إلى مجتمع يريد أن يُنسي أسرتك آلام الظلم، إلى مجتمع يريد أن يَعمَّه العدل والمساواة، إلى مجتمع لا يساوم في وحدته الوطنية لكنه لا يعرف من أين يبدأ ولا كيف يتصرف.
(نحن سادة كلمات لم تُنطق ولكننا عبيد تلك التي تركنا السنتنا تزِلُّ بها!)
وينستون تشيرشيل.
(العبيد فقط يطلبون الحرية. الأحرار يصنعونها!) نيلسون مانديلا.
لقد آن أن نصنع الحرية بعد أن أصبحنا جميعا أحرارا و بموجب القانون.
إن الوضعية الكارثية التي آلت إليها آلاف الأسر من الأرقاء السابقين بسبب ظلم المجتمع تتطلب هبة وطنية لا نظير لها في تاريخ الأمة الموريتانية منذ كتابته إذا ما أردنا أن ندخل التاريخ ف بأروع و أجمل تجلياته.
إن كل فرد من أفراد هذا الشعب الكريم المسلم المسالم مطالب اليوم بالمساهمة من أجل إعطاء درس في التكافل الإجتماعي و الحفاظ على زرع الخير والمحبة بين أفراد مجتمعنا، كما أن هذه المعضلة الإنسانية و الإجتماعية فرصة نادرة للتقرب إلى الله عن طريق عمل وطني تطوعي جبار قد يغفر الله به خطيئات أسلافنا و يثبت به أقدامنا و سيكون كنزا في البذل والعطاء و الأخلاق و التعاضد والتسامح و التفكير السليم يضاهي كل الكنوز التي سنوَّرثها للأجيال القادمة. لقد علمتني التجربة في إدارة المنظمات الحكومية وغير الحكومية أن التطوع الجماعي يصنع المعجزات و يوصل الرسائل أكثر من غيره إلى القلوب.
لا أتصور أن على الدولة الموريتانية وحدها أن تقوم بحل هذه المعضلة عن طريق أموال الشعب و إن كانت القضية يمكن أن تصنف على أنها كارثة وطنية و يكون التعامل معها في ذلك الإطار، وذلك لأن ما ينتظر الدولة من مشاكل لا حصر لها ولا تقبل التأجيل خدمة لكل المواطنين (الصحة، التعليم، الأمن، الرواتب، الطرق، الفقر، الكوارث الطبيعية.....إلى آخره) يقف عائقا دون التفكير في حل القضية عن طريق الدولة وحدها إلا أن دورها سيكون مهما و قد يكون حاسما في بعض الأحيان في ما أتصوره كحل وطني سيكون تاريخيا لهذه المعضلة.
إن الطريقة الوحيدة التي ستُشعر هذه الشريحة بانتمائها لهذا المجتمع وترتاح لذلك و تَسترجع بها آلاف الأسر إنسانيتها و كرامتها و حقوقها المغتصبة عبر التاريخ، في مجتمع أعمته السيبة وعدم السلطة المركزية و قيَّده التقليد وعدم الاطلاع على أحوال العالم و على المبادئ الأساسية للإنسان كإنسان، لا يمكن أن تتم إلا في إطار تطوعي شامل منظم ومدروس تشارك فيه كل فئات المجتمع من (فقهاء و سياسيين و مجتمع مدني و جاليات و رجال أعمال و أطباء و أساتذة و معلمين و رجال قانون وفنانين و أدباء وشعراء ومسرحيين و شركات عاملة... إلخ) و يشارك فيه كل فرد من أفراد شعبنا من رئيس الدولة إلى المواطن العادي وذلك على النحو التالي:
1- إنشاء منظمة غير حكومية تسمى: منظمة الحرية والكرامة لأخي المواطن
*يتم الترخيص لها على وجه الإستعجال و يتم اعتبارها منظمة ذات نفع عام لما يترتب على ذلك من خصوصية قانونية و ميزات تسهيلية.
* تقوم هذه المنظمة بتخطيط وتنفيذ و مراجعة وتقويم كل ما من شأنه أن يساهم في تحقيق هدفها الذي هو تصحيح الأخطاء التاريخية الكبرى التي ارتكبت في حق الفئات المهمشة وعلى رأسهم الذين تعرضوا للعبودية المباشرة و المساهمة في تعزيز الوحدة الوطنية.
*تسند مهمة إنشاء هذه المنظمة لطاقم من ذوي الكفائات الإستثنائية و الشخصيات الوطنية و المرجعيات الدينية و الإجتماعية و الأطر و المثقفين و يكون هذا الطاقم بمثابة مجلس إدارة من المتطوعين الذين لا يتقاضون أي راتب و سيقومون باختيار الطاقم الإداري الذي سيتولى التسيير الفعلي للمنظمة ( أقترح أن تسند مهمة البحث عن هذا الطاقم للرجل الفاضل والمتواضع صاحب الأخلاق الرفيعة الأستاذ محمدٌ ولد الشدو نظرا لعلاقاته الواسعة مع جميع مكونات الشعب الموريتاني ونظرا لتكوينه القانوني وخلفيته الحقوقية ونظرا لحسه الوطني وتفكيره الشمولي على الرغم من اختلافي مع بعض آرائه حول قضايا الأمة وخصوصا عند استقراء بعض الأحداث التاريخية و إسقاطها على واقع المجتمع قديما وحديثا رغم التفاوت في المكان والزمان والواقع والمتاح، إلا أنه يبقى الرجل المناسب لهذه المهمة الوطنية والإنسانية الجسيمة حسب رأيي المتواضع و هناك آخرون).
2: تقوم هذه المنظمة بفتح حسابات بنكية في البنوك التي ستتطوع بذلك و تكون هذه الحسابات متاحة لكل المتطوعين في الداخل و الخارج عن طريق الإعلام المتطوع من تلفزيونات و إذاعات و جرائد و مواقع و مدونين.....إلخ.
3: تقوم المنظمة بإحصاء وطني شامل و دقيق و شفاف لكل من يجب أن يستفيد من خدماتها على امتداد التراب الوطني.
4: تقوم المنظمة بفتح سجل وطني لتسجيل كل المتطوعين بأسمائهم وأرقام هواتفهم لتحديد كيفية الإستفادة من تطوعهم، وهنا سأرسم بداية الخطة العملية التي قد تسير عليها هذه المنظمة وذلك بإعطاء أمثلة محددة تكون إنارة للطريق في تعاطيها مع جميع المسجلين في السجل الوطني للمتطوعين آنف الذكر.
سجل الأطباء و الصيادلة و المعلمين و الأساتذة:1:
يتم تسجيل كل المتطوعين من الأطباء و الصيادلة والعيادات و الصيدليات و المدرسين و المدارس بطبيعة تطوعهم وأوقاته و يتم توجيه زبائن المنظمة حسب الحاجة و الأولوية و الوقت و هكذا يحصلون على الصحة و التعليم و التوعية والتثقيف مجانا و بإرادة تامة من إخوانهم المتطوعين بعيدا عن السياسة و الاستغلال لمعاناتهم ،
و هكذا و بنفس الطريقة يسجل كل المهنيين وأصحاب الحرف فيكون هناك سجل للكهربائيين و المهندسين و عمال البناء وعمال النقل و الميكانيكيين إلى آخر ذلك من كل ما قد يساعد تلك الأسر في الولوج إلى خدمات لا يملكون المال لولوجها .
2: يتم عبر الإعلانات المجانية في وسائل الإعلام المتطوعة و المدونين و وسائل التواصل الاجتماعي الترويج لاقتطاعات مالية شهرية عبر الحاسبات البنكية للمنظمة يتطوع بها رجال الأعمال و المؤسسات المالية و الشركات العاملة في موريتانيا و شركات الاتصال و الموريتانيون في الخارج وكل من أراد التطوع. هناك الكثير من الإقتراحات في هذا المجال يضيق الوقت عن ذكرها إلا أنه من المؤكد أن هذه الإقتطاعات المالية الشهرية ستوفر للمنظمة مليارات الأوقية سنويا لتنفيذ برنامجها الذي ستقترحه إدارتها والذي سيكون التعليم و تمويل المشاريع الصغيرة و المتوسطة عموده الفقري فعلى سبيل المثال إذا افترضنا أن مائة ألف من الموريتانيين في الخارج ( يبلغ الموريتانيون في الخارج أكثر من ثلاثمائة ألف نسمة) سيقومون باشتراكات شهرية في حساب المنظمة بمعدل عشر دولارات للشهر و هو أقل من المتوقع فإن ذلك يعني حصول المنظمة من الجاليات فقط على مليون دولار شهريا أي 12 مليون دولار سنويا وهو ما يعادل أكثر من 4,2 مليار أوقية قديمة.
3: النشاطات الفنية و الثقافية:
وهنا أقترح أن يتم إسناد هذه المهمة إلى الفنانين الوطنيين الكبار: سدوم ولد أيده، محمد سالم ولد الميداح، محمد ولد حمباره و بياكي ولد نفرو و وآخرون نظرا لما يتمتعون به من علاقات واسعة مع جميع مكونات الشعب الموريتاني و ما يتميزون به من ثقافة واسعة و سمعة وطنية و ابتعاد عن السياسة و استعداد طبيعي للتطوع خدمة للقضايا الوطنية و لأن المجتمع سيتسابق إلى سماع هذه الأصوات الشجية العذبة كل ما أعلن عن ذلك. يقوم هذا الرباعي المتميز باختيار بقية الفنانين و المثقفين و الفرق المسرحية و ضيوف الشرف لإحياء سهرات شهرية في الملعب الأولمبي تتبناها و ترعاها مباشرة وزارة الثقافة بوصفها عملا ثقافيا شهريا سيحرك و يثري الساحة الثقافية و يذكر بمعاناة شريحة كبيرة من مجتمعنا عن طريق الفن والثقافة الذين يعتبران من أبلغ وسائل التوصيل و يتم الولوج إلى تلك السهرات الشهرية عن طريق تذكرة تحدد المنظمة قيمتها على أن يدفع جميع دخل هذه السهرات و كذلك ثمن ترخيص نقلها عبر التلفزيونات في حساب المنظمة البنكي.
هذه أمثلة قليلة من الأنشطة التي تصورتها و قد توفر أزيد من سبع مليارات من الأوقية القديمة سنويا و يمكن الحصول على عشرات الإقتراحات غيرها والتي ستمكن هذه المنظمة من الحصول على أموال ضخمة كلها من تطوع الشعب الموريتاني. تصوروا معي المثال التالي: إن التكفل بطالب موريتاني في جامعة انواكشوط قد يكلف سنويا 300000 أوقية قديمة ما يعني أن التكفل بعشرة طلاب سنويا سيكلف ثلاثة ملايين و مائة طالب جامعي سيكلف التكفل بهم سنويا ثلاثون مليونا أي أن المنظمة ستكون قادرة على مواكبة مائة طالب من إخوتنا من أول سنة في الجامعة إلى تخرجهم بمبلغ لن يتعدى مائة و عشرين مليونا على مدى أربع سنوات و هو مبلغ زهيد بالنسبة لمنظمة قد يصل دخلها كل سنة سبع مليارات أي ما يعادل ثمانية وعشرين مليارا لأربع سنوات و هو ما يعني أن هذه المنظمة يمكن أن تأخذ على عاتقها التكفل بجميع أبناء هذه الشريحة و مواكبتهم من بداية تعليمهم وحتى تخرجهم من الجامعات أي أنه و خلال عشر سنوات سيكون في كل أسرة من هذه الشريحة ابن واحد على الأقل يحمل شهادة جامعية وعشرات الخريجين من المعاهد الفنية و التقنية و هو ما سيدفع بهذه الشريحة دون تكلف و لا تزلف إلى مستوى يتساوى مع مستويات جميع مكونات الشعب الأخرى وهو ما يُشعر بالسعادة و المواطنة و المساواة و يساعد على التفرغ لبناء الوطن كأمة واحدة تسهر على مصالحها وتُراعي مستقبلها المشترك.
إن هذه الهبة الوطنية التطوعية الكبرى ستكون كفيلة بانتشال هذه الشريحة من مستنقع الظلم و المعاناة و إعادة بناء ما هدمته حقبة مظلمة من تاريخنا و ستكون نهضة تاريخية وطنية لمساعدة ومؤازرة و مواكبة إخوتنا في الدين و الوطن والآمال والآلام وسيكتبها التاريخ بأحرفه الذهبية كي لا نُخجل أجيالَنا.
باب ولد يعقوب ولد ابراهيم ولد الشيخ سيديا ، خبير موريتاني مقيم في كندا