لا يمكن لعين المراقب السياسي المتفرس أن تغفل عن ملاحظة حالة من الهدوء الداعي للتفاؤل الحذر بخصوص مستقبل "الأزمة السياسية" القائمة في موريتانيا على خلفية دعوات قوى سياسية معارضة لرحيل أو ترحيل النظام؛ أو على الأقل رحيل رئيسه ورئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز.
فقد توقع الموريتانيون بداية صيف سياسي ساخن بناء على وعيد منسقية المعارضة الديموقراطية وفعالياتها المختلفة بالدخول في مرحلة من التصعيد الهادف لفرض رحيل النظام بمجرد انتهاء شهر رمضان الكريم الذي أعلن فيه زعيم حزب اتحاد قوى التقدم الدكتور محمد ولد مولود أن "الأيام القادمة" ستكون كفيلة بأن توضح للرئيس الموريتاني من الأولى بالرحيل أولا: هو أم المعارضة المطالبة برحيله؟!
غير أن تلك الأيام التي قدمت بدت كفيلة أكثر بجعل قادة المعارضة يخففون من حدة نبرتهم الخطابية ويبدءون في ابتداع مفاهيم جديدة أكثر غموضا وعمومية في التعبير عما يسعون لتحقيقه، وعن شكل العلاقة التي ستربطهم مستقبلا بالنظام والتي لن تكون صدامية (في جميع الأحوال)؛ كما أنبأت عنه تصريحات الرئيس محمد ولد مولود في مقابلة له مع إذاعة "تقدمي" والتي تحدث فيها عن حل ممكن للأزمة الموريتانية من خلال العمل على "عزل" الرئيس محمد ولد عبد العزيز (وليس رحيله أو ترحيله).
ونحن نعلم بداهة أن الرؤساء لا يعزلون إلا وفق آليات وضوابط وشروط دستورية واضحة ومحددة، وأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز (في الظروف الراهنة على الأقل) لا يمكن التفكير في عزله أحرى العمل على ذلك، وبالتأكيد أننا لا نتمنى أن تستدعي أية ظروف عزله؛ لأننا لا نتمنى لجميع الموريتانيين إلا الخير؛ فأحرى لمن اختارته أغلبيتهم رئيسا منتخبا. زد على ذلك أن هذا الرئيس يتمتع بأغلبية جد مريحة في البرلمان بغرفتيه، وبدعم أغلبية سياسية وشعبية وفق ما يؤكده المرجع الوحيد المتاح لمعرفة اتجاهات الرأي العام وهو آخر انتخابات رئاسية تجري في البلاد!
فما معنى إذن الحديث عن "عزل الرئيس" بعد حديث طال عن رحيل أو ترحيله؟
لا نجد معنى لذلك خارج نطاق الأساليب التقليدية التي تستخدمها جميع القوى السياسية عندما تقرر التراجع بشكل تدريجي عن موقف بدا لها أن الظروف المتغيرة لم تعد تسمح بالجمود عليه، أو التراجع عن مطلب كشفت موازين القوى الواقعية استحالة تحققه وعبثية الإصرار عليه..
وهذا ما نعتقد أن كل أو جل قادة منسقية المعارضة الديموقراطية بصدد التهيئة السياسية والنفسية لحدوثه وفرض تقبله في الأوساط "الشعبية" التي ربما كانت هذه المنسقية تراهن على دعمها في تحقيق هدف الرحيل المستحيل.
الرئيس كسب معارك كبيرة.. فهل يخسرها؟
ما كان للمعارضة الراديكالية أن تتراجع عن مطلب الرحيل لولا أنها خسرت معارك سياسية كسبها الرئيس محمد ولد عبد العزيز وتحولت إلى مصدر قوة إضافية جعلته ينظر بكثير من اللامبالاة وحتى السخرية لمطالب معارضيه برحيل نظامه.
1) من تلك المعارك معركته ضد تنظيم القاعدة والجماعات المسلحة؛ حيث تمكن الرجل من تحسين الظروف الأمنية الداخلية إلى حد بعيد، كما كسب دعم وتعاطف الكثير من القوى الدولية التي ظلت تصم آذانها عن كل الانتقادات التي وجهتها المعارضة للاستراتيجة الأمنية للنظام؛ خصوصا في ما يتعلق بالضربات الاستباقية المنفذة خارج حدود الدولة، وتحديدا في الشمال المالي.
2) حرصه على تجاهل المسيرات الكبيرة المطالبة برحيله، والحرص على إبعاد كل المظاهر الأمنية عن ساحتها؛ ما جعل النظام يظهر بمظهر الحريص على احترام وحماية حق التعبير بكل أشكاله ما دام يتم وفق الضوابط والمحددات التي يفرضها الدستور والقوانين السارية.
3) تنظيمه لحوار سياسي أخطأت المعارضة الراديكالية في مقاطعته، ونجح النظام في جعله سببا لانقسام المعارضة إلى معارضتين: مقاطعة ومحاورة.
4) وإذا كان الإسلاميون ممثلون في حزب "تواصل" قد شكلوا رأس الحربة في كل النشاط السياسي الداعي لرحيل النظام، وإذا كانت أحداث الربيع العربي (خصوصا في طبعة ما بعد الثورتين التونسية والمصرية) قد أكدت صعوبة نجاح أي انتفاضة شعبية في تغيير نظام الحكم دون دعم خارجي مما يمكن تسميته بالدول الراعية ل"الربيع العربي"...
إذا كان ذلك كذلك؛ فإن ولد عبد العزيز قد نجح (على ما يبدو) في إبعاد تلك الدول الداعمة عن التفكير في مؤازرة أي "حراك سياسي" معارض لنظامه.. ونعتقد أنه استخدم ورقة السنوسي استخداما براغماتيا خالصا، وسلمه لليبيين ضمن صفقة لم تأخذ موريتانيا منها أي ثمن مادي، كما تحدثت بعض التخمينات دون دليل، ولكنها قبضت ثمنا سياسيا كبيرا تمثل في التزام جميع الدول الداعمة لثورات الربيع العربي بعدم مؤازرة أي حراك يستهدف أمن النظام واستقراره، وبأن تضغط في اتجاه جعل الإسلاميين الموريتانيين يستوعبون أن تغيير النظام الموريتاني بانتفاضة أو ثورة هو أمر غير وارد على الإطلاق.. ولا شك أن عبد الرحمن الكيب كان دقيقا في وصف مضمون "صفقة" تسليم السنوسي عندما ما قال إن موريتانيا قبضت مقابلها: "الود والمحبة"!!
5) أما أكبر المعارك التي استخدمتها المعارضة بقوة في مناهضة النظام والتي يبدو أن الرئيس يعمل جاهدا لكسبها هي الأخرى؛ فهي معركة "الظروف المعيشية القاسية" لأغلب المواطنين؛ في ظل ارتفاع متفاحش للأسعار وجمود مقلق للأجور والمرتبات؛ رغم كل الجهود التي بذلت لتحسين أوضاع شرائح اجتماعية كثيرة وهشة من خلال سياسة توزيع القطع الأرضية، وتشييد البنى التحتية في المقاطع السكنية الجديدة الناجمة عن تقسيم الأرض ومحاولة القضاء على الأحياء العشوائية.
الأسعار.. حبل نجاة المعارضة الراديكالية..
التوجيه الرئاسي الذي تلقاه الوزراء قبل أيام، والقاضي باتخاذ الإجراءات اللازمة لزيادة أجور ورواتب الموظفين والوكلاء وتحسين ظروفهم المعيشية، ربما يكشف عن إدراك الرئيس لحقيقة الأزمة التي يعانيها موظفو ووكلاء الدولة جراء الزيادات المتتالية لأسعار كل شيء؛ دون أن تلتفت السلطات لهذا الوضع الكارثي؛ حتى ظن البعض أن النظام القائم لا يعرف من أشكال الزيادات غير الزيادة في أسعار المحروقات؛ وما يترتب عليها تلقائيا من زيادة في أسعار كل الضروريات!!
والواقع أن ذلك التوجيه الرئاسي أثار في أوساط المعنيين به موجة تفاؤل كبيرة مشوبة بحذر أكبر؛ خصوصا أنه لم يمض أكثر من ثلاثة أيام على ذلكم التوجيه حتى تم الكشف عن سادسة زيادة في سعر المحروقات خلال أقل من ثلاثة أشهر!
وكأن الأسعار تخاطب رئيس الجمهورية قائلة: "لا عليك؛ فلن يبدأ وزراؤك التفكير في الإجراءات المطلوب اتخاذها حتى أكون أنا قد ارتفعت بنسبة تفوق ما يستطيعون التفكير فيه، ولن يستقر قرارهم على إجراء حتى أكون قد تجاوزته بأكثر مما يتوقعون.. أما عندما تتحقق الزيادة في الأجور والمرتبات؛ فستكون الرؤية قد اتضحت تماما للأسعار والتجار فيكون ارتفاع جديد يحول كل جهود حكومتك إلى رماد تذروه الرياح؛ لأن الزيادة التي تستطيع حكومتك إقرارها محدودة، أما قدرة الأسعار على الزيادة فغير محدودة ولا مضبوطة ولا خاضعة لقانون إلا قانون السوق.. أي قانون الجشع والفوضى والغلبة"..
وكأن الأسعار بهذا تقول للمعارضة الراديكالية: "لا تبتئسي؛ فها هي قوة من العيار الثقيل تعلن انضمامها إليك أياما قليلة قبل افتتاح العام الدراسي، فخططي وارسمي أهدافك واستيراتيجياتك، وأنا كفيلة بأن أجعل لك كل المواطنين متوترين، وغاضبين، ويائسين، ومحبطين.. وما عليك أنت إلا حسن استخدام الظروف المواتية".
فهل يدرك النظام جدية هذا التحدي وحقيقته؟؟..
حجم الزيادة، وشكلها، وطبيعتها، والتعامل مع ضبط الأسعار ورقابتها.. هي من سيجيبنا على هذا السؤال..