من ألف فقد استهدف / محمد يحي ولد محمد ولد احريمو

محمد يحي ولد محمد ولد احريموقال العلامة أبو عمرو الجاحظ رحمه الله تعلى: (لا يَزَال المرءُ في فُسْحةٍ من عقلِه ما لم يَضَعْ كتابًا يَعْرِضُ على النَّاسِ مَكْنُونَ جهلِه، ويتصفَّحُ به إن أخطَأَ مَبْلغَ عقلِه)، ويروى نحو هذا عن الإمام الجليل أبي عمرو بن العلاء رضي الله عنه (الطيوريات للإمام السلفي ج 7 ص 5)،

 وهناك عبارة سائرة تلخص هذه الفكرة وهي قولهم: "من صنف فقد استهدَفَ فإن أحسن فقد استعطف وأن أساء فقد استقذف"، وهي من كلام ابن المقفع (فتح المغيث على ألفية الحديث للسخاوي 2391).

وقد بسط هذا المعنى أبو علي الزجاجي في كتابه "الإيضاح في عِلل النحو" فقال: "حقيقٌ على كلٍّ مَستَهْدِفٍ عقلَهُ للناس ومُعَرِّضٌ مِقدارَه من العلم للمُعايَرَة والموازنة بتعرُّضِه بتصنيف كتاب في فن من فنون العلم؛ أيّ فن كان من جِد أو هزْل، أن يُثابِرَ على صَوْن ما صانَه طول عمره من جاهه وعقله ومحله، ويُجهدَ نفسَه في سَتْر ما سَتَرَتْه الأيام مِن خَفِيِّ أسراره، وغامض أخباره؛ لأنه قبل تكلُّفه ذلك في سِتْرٍ كثيفٍ وصوْن كَثيفٍ وحِرزٍ مَنيعٍ من إحالة المِحنة عليه، وإطلاق الألسنة في الإفاضة في نشر مقابحه ومحاسنه (الإيضاح في علل النحو ص:37 – 38).

هكذا كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتحاشون التأليف والكتابة، إلا لمن نضج علمه وكمل فهمه، وعجم أساليب اللغة، وكثرت محفوظاته ومقروآته حتى يكتسب ملكة راسخة في الكتابة والتأليف فتستقيم ألفاظه وعباراته، ويُبين عن أفكاره بعبارة وافية سالمة من هجنة اللحن وركاكة التعقيد.

ثم إن على الكاتب بعد هذا أن يبالغ في تحرير وتنقيح ما يكتبه حتى يتأكد من سلامته ويراجعه المرة بعد المرة، كما قال الشيخ سيدي عبد الله رحمه الله تعلى في طلعة الأنوار: ويكره التأليف من مقصر *** كذاك إبراز سوى المحرر

وكان العلماء يبالغون في تهذيب مؤلفاتهم وتنقيحها قال الإمام ابن جني رحمه الله تعلى في مقدمة كتابه: "الخصائص": "هذا كتابٌ لم أزل على فارط الحال، وتقادم الوقت، ملاحِظاً له، عاكِفَ الفكر عليه، منجَذِبَ الرأي والرَّوِيَّة إليه، وَادّاً أن أجدَ مهمَلاً أصِلُه به، أو خَلَلاً أَرتِقُه بعمله، والوقت يزداد بنواديه ضَيْقا، ولا يَنهَج لي إلى الابتداء طريقا" (الخصائص لابن جني ص 1).

كان ذلك حال علماء الإسلام رضوان الله عليهم فهم الذين شرعوا "المنهج العلمي" ومهدوه للناس، وحرصوا على التزامه للغاية، ووضعوا لكل علم من العلوم ضوابط منهجية تبين مصطلحه وتقيم نظامه وتضمن بقاءه وتطوره.

وفي العصر الحديث بلغت الحضارة أشدها وأخذت العلوم والمعارف زينتها وزحرفها، وتطورت وسائل النشر والاتصالات فأصبح العالم "قرية كونية"، وظهرت أنواع جديدة من الكتابة، مثل الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية... ولكن بالمقابل عمت فوضى النشر والكتابة، واتسع الخرق على الراقع، وتطفل كل أحد على التأليف والكتابة والنشر، من غير أهلية ولا تقييد بمقتضيات "المنهج العلمي".

لقد ظهر في عصرنا هذا مصداق الحديث النبوي الشريف الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن بين يدي الساعة سنين خداعة: "ينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: المرء التافه يتكلم في أمر العامة". صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق!.

مع أن الاحتياط والتروي في هذا العصر أولى وآكد لتطور طرق النشر، ووجود وسائل الإعلام والانترنت التي تطير كل مطر وتدخل كل بيت!.

إن أدنى ما يطلب في المقالة الصحفية سلامة ألفاظها وضوح أفكارها، واشتمالها على ما يفيد القارئ من تفاعل مع الأوضاع الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تهم المواطنين، وتحليلها بمنطق مقبول ولغة سليمة...

يعرف عن المفكر الكبير ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون أنه هو أول من قال بنظرية "الملكات اللسانية" التي ينسبها الباحثون الغربيون إلى الفيلسوف الأمريكي أفرام نعوم تشومسكي، وقد بين ذلك عدة باحثين منهم الأستاذ سعيد السبيعي (مقال منشور في مجلة جامعة أم القرى العدد العاشر 1415).

وتقوم هذه النظرية على اعتبار الملكة اللغوية صناعة مثل كل الصناعات تكتسب عن طريق الإلمام بقوانين اللغة وعلومها من نحو وصرف وبلاغة، والتمرس بأساليب أهل اللغة وكلامهم والاستكثار من حفظ الشعر ومطالعة الكتب حتى تتقوى الملكة وتترسخ، وذكر ابن خلدون عاطفا على ما تقدم أنه: "كلما كان قوم أعرق في العجمة، وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم". ثم ذكر ابن خلدون تمثيلا لما ذكره من قصور المكلة نقلا عن ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له يقول: "يا أخي ومن لا عدمت فقده، أعلمني أبو سعيد كلاماً أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. وأما أهل المنزل الكلاب من أمير الشين فقد كذبوا هذا باطلاً، ليس من هذا حرفاً واحداً. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله". (مقدمة ابن خلدون 365).

رحم الله ابن خلدون! هكذا يكون أداء الكاتب إن لم يكن له علم بالعربية ولا حظ من القراءة والمطالعة، فلا يبقى له إلا أن يصطفي مما عنده من العامية ما يعجبه، ويتبجح به يظن أنه على شيء! كما فعل هذا الكاتب التونسي في عصر ابن رشيق، فكم من مقالات وكتابات لا تختلف عن هذا الأسلوب في بهرجها وركاكتها! مع أن أصحابها يدعون العلم والفكر:

يقولون هذا عندنا غير جائز *** ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟!

إن من تسرع وتسور على التأليف وكتابة المقالات من غير علم ولا أهلية فقد خالف أولا قول الحق سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} الإسراء(36). ثم إنه بعد ذلك إنما يلقى بنفسه إلى التهلكة، ويعرض على الناس مكنون جهله ويكشف عنه ستر الله تعلى كما قال الجاحظ، ولقد أحسن لعمري من قال:

واعلم بأن من السكوت إبانة *** ومن التكلم ما يكون خبالا

وليس شيء أقبح بالكاتب المتطفل على العلم والفكر والدعاوى العريضة ومقارعة العلماء وحملة الفكر من كثرة اللحن وارتكاب الأخطاء الفظيعة التي يأنف عنها صغار الطلبة ممن قرأ الآجرومية وحفظ قليلا من الشعر أو وصل مستوى الصف الخامس ابتدائي:

أرسلتها هملا ولا مرعى لها *** وتركتها نهب السباع العاديه؟!

لا يعني هذا تهوينا ولا تنقيصا من شأن الكتابة؛ فالكتابة هدف نبيل ووسيلة لتلاقح الأفكار وتحليل الأحداث وأخذ العبرة منها، ومخاطبة الأجيال تعليما وإرشادا، وذلك كله من ضروريات الازدهار والرقي، ثم إن التدرب على الكتابة مطلوب والناس فيها على تفاوت ودرجات شتى، وكل ينفق مما عنده؛ ولكن المقصود عندنا التحذير من التطفل والتسرع والحث على التروي والتحرز من كل خلل أو قصور أو إهمال لأدوات الكتابة وآدابها.

4. أكتوبر 2012 - 15:07

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا