شاهدت البارحة على الفيس بوك سجالا بين رجل وامرأة حول تعدد الزوجات خطر ببالي قول لجيم بن مصعب:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القولَ ما قالت حذام
ثم تذكّرت تفكك الأسر وحال الأبناء وما يلقون من نصب وهوان في ربوع الوطن بعد فراق الأب أمَّهم، فقلت ردّا على أولئك الداعين إلى جلب الويلات والمشاكل باسم سنية التعدد.
إن المجتمع مثقل كاهله بالمشاكل الأسرية وكثرة الطلاق، وضنك العيش، وتسيب الأبناء بعد مغادرة الأم لبيت الزوجية.
فالنداء الذي يطلّ علينا ناقوس خطره يقتضي منا أن نطالب بتفعيل المدونة الأسرية، حماية لحقوق الأطفال، لكي نقلّل من أعباء تصدّع البيوت، وتشرّد الأبناء. فالرجل الموريتاني في أغلب أحواله جالس في برج عاجه أسهل عليه تشتيت بيته من تجرع غصة ماء، ظانا أن فعلته هي محض الرجولة الشامخة، دون أن يلتفت إلى مصير بنيه بعد فارقهم.
قبل أن نفكر في التعدد علينا أن نوفر مقومات العيش الأساسية للأسرة. بربكم هل يجوز لرجل معدم لا كفاف له، عاجز أن يعول زوجته وأبناءه أن تطمح نفسه لأخذ امرأة ثانية، من أين يأتي بسكناها ونفقتها، وكيف يعيل على الأبناء الجدد، وكيف يدرسون ؟ ما مستقبلهم مع تحديات العصر؟
إن العصر الذي نعيش فيه صعب المراس يتطلب استفراغ الجهد بحثا عن سد الرمق، فالأزمات مطلة بمخالبها المفجعة من كل جوانب الحياة، والكيّس من دان نفسه، وجدّ في العمل لينعم أهله.
أعتقد أنك لو جبت العالم بأسره ، جنّه وإنسه ما وجدت رجلا لم يتجاوز الخامسة والعشرين بلْه الثلاثين تزوج ثلاث مرات أو أكثر. أما في موريتانيا فحدث ولا حرج. يتزوج اليوم ويطلق غدا ثم يتواصل المسلسل، أبناء عالقون عند امرأة مسكينة لا معيل لهم، ما ذنبهم؟. أما والدهم فقد ذهب يسرة ليخلف أبناء آخرين عند أخرى ثم ينسل إلى ثالثة جذلا، وهكذا.... وكأن الطريق محفوف بالورود. لا منبّه، ولاردع حتى يدفن في التراب فقيرا.
جاري الطيب يقول لي في محفل على رؤوس الأشهاد أنتم الموريتانيون أكثر الناس طلاقا في العالم، ثم يردف :صاحبي فلان كل عام يذهب إلى موريتانيا يتزوج في العطلة ويطلق قبل أن يغادر موريتانيا، أتدري كم تزوج ؟ لقد وصل السابعة.
هل في عالم الأحياء غير هذا المنكب البرزخي امرأة تخرج من بيتها حاملة معها فلذات كبدها إلى وجهة مجهولة أو إلى أهلها تاركة الدار الفسيحة لرجل أحمق قليل المروؤة ليجلب لها في اليوم الموالي فريسة أخرى ثم يصليها مصير السابقة لها.
الأبناء ضائعون أقل أحوالهم أن يكونوا في كفالة خال أو أخ، أو جدّ أنهكتهم الحياة بحثا عن سد حاجاتهم، وأن تكون المطلقة مستورة سليمة من أذى المجتمع الضارية أنيابه. أو جدة عمياء أيامها قليلة وتقضي نحبها تقتات على أقارب يرسلون لها زكاتهم في العام أو ما فضل عنهم.
لقد تفاقم الأمر وبلغ السيل الزبى، حيث أصبحت كل أسرة تئنّ من ثقل المؤن،
أبناء تركوا سائبين لا أب لهم.
ما جرم هؤلاء خرجت ابنتهم من خدرها طلبا للسعادة الزوجية فرجعت إليهم بعد لأْيً مصفرّة الوطاب كانت وحدها، واليوم جاءت متبطّنة أقمارا لم تطق تركهم يتسكعون في الشوارع.
لا مانع من الطلاق إذا كان هو الحل الأسلم من وطأة الشقاق بين الزوجين، لأن الله أعلم بمصالح عباده، لذا شرع لهم الطلاق رحمة بهم قال جل اسمه (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) البقرة: 229)
والتعبير بالتسريح يقتضي وقفة أسلوبية فلمَ لم يعبّر بالطلاق أو الترك بدل التسريح. وإنما عدل إلى التسريح إشارة إلى احترام العلاقة الودية التي عاشها الزوجان معا في حب واحترام. ثم وصف الله التسريح بالإحسان، مخافة أن يتبع المطلق زوجته بظنينة، أو ظلم من كلام ساقط، وتصرف خادش كنشر سرهما بين الناس. وفي آية أخرى قال تعالى ( أو سرحوهن بمعروف} [البقرة: 231]. فالمعروف والإحسان ذكرا في آيتي الطلاق، لما لهما من تأثير إيجابي وعطف وتهدئة للنفوس.
وإن أولى الناس بالمعروف أن يحسن الأب إلى بنيه، ويراقبهم في حركاتهم وسكناتهم بعينه، ويصونهم بالحفظ، وبخاصة إذا سكنوا بعيدين عنه، فلا يدري ما طارق ليلهم، وما حالتهم؟ أيحتاجون قضاء حوائج فيلبيها لهم. قال تعالى مبينا حقوق الولد على الوالد (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده) [سورة البقرة : آية 233]
ألم نسمع حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وما ينطق عن الهوى، فنسترشد بهديه. قال عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» ( رواه الحاكم المستدرك على الصحيحين:8526)
ألم نؤمر باتّباع نبيا؟ أليست في قلوبنا رأفة أو شفقة نعطف بها على فلذات أكبادنا
ألم يحفظ كلنا قول حطّان بن المعلى مظهرا حالة الأبناء واحتياجهم إلى الرعاية، وأن كل شيء في الدنيا يهون إلا تضييعهم، ورميهم لمخالب الدهر المفترس :
لَولا بُنيات كَزَغبِ القَطا حَطَطنَ مِن بَعضٍ إلى بَعضِ
لكان لي مُضطرَبٌ واسِعٌ في الأرضِ ذاتِ الطولِ والعرضِ
وإنَّـــــــما أولادُنـــا بَينَنا أكبادُنا تَمشي على الأرضِ
إنْ هَبَّتْ الرَّيحُ على بَعضِهم لَمْ تَشبعْ العينُ مِن الغَمضِ
ما حال هذا الأعرابي لو أدرك عصر الواتساب، والفيس، والملهيات والمغريات...الخ.
ألم يأنِ لنا أن نطالب بتطبيق قانون الأخلاق في أن تعيش تلك المطلقة سعيدة مربية لأبنائها، آمنة في سربها، ونلزم الرجل نفقة أبنائه حتى يبلغوا سن الرشد.
والشيء بالشيء يذكر تنبيها وتبصرا، ذات مساء كنت في زمرة من المثقفين أحاديث من هنا وهناك حتى استقر الحديث عن وفرة الطلاق وتفكك الأسر. قال أحد الحاضرين قبل أيام اتصلت علي أختي بعد العشاء تصيح بصوت مرتفع يافلان أين أنت إذا كنت في الدار سنحضر إلي؟ك أنا لا أريد فلانا زوجا ما عشت أيامي، سأذهب إلى المحكمة. قال رددت عليها اجلسي في بيتك مع أولادك، لست منك في ورد ولا صدر... بعد كلام طويل اقتنعت أن الحل الأمثل في بيتها.
قال بعد يومين اتصلت علي مسرورة أين أنت أنا وفلان (زوجها) والأبناء في مدينة كذا بعد وصولنا سنأتيك. قال استقتبلها بحفاوة مستبشرا بقدومهان ثم تناولنا الحديث عن السفر وأمور عامة، بعد المؤانسة وخروج زوجها. قلت لها يافلانة أنت الآن في سعادة غامرة وأنس بزوجك وبنيك. ما النتيجة لو استقبلتك ذلك المساء؟ وغدوتِ إلى المحكمة، أخد، ورد، بكور، وتهجير، ورواح، ومراجعات وانتظار. أعرف أنك قلت في نفسك وقت الشكاية : أخي لا يحبني، ولا يغضب لي. بل لا يرضى لي أن أكون في جواره أراه صباح مساء. قال ابتسمت ودموعها تنهمل على خديها قائلة بصوت خافت استحياء جزاك الله خيرا، العجلة من الشيطان. قلت في نفسي ليت قومي يعتبرون من هذه القصة!
قد يكون ترك الأبناء مع أخوالهم سائغا أيام كان أهل الخيام ينتجعون الغيث طلبا لرعي المواشي. أما الآن والحياة معقدة. فالطفل يريد رعاية صحية، رعاية تعليمية تعصمه من الانحراف والانغماس مع أصحاب المخدرات والمسكرات وغير ذلك مما عمّت به البلوى، حتى أصبح عقلاء العالم تائهين كلما فكّوا لغزا حلّت بهم طامّة أعظم منه.
الحلول المقترحة
في هذه العجالة أقترح ما يلي:
أن نثقف أبناءنا وبناتنا ونربيهم على احترام الآخر، والمعاملة الحسنة، ونخبرهم بأن الزواج مسؤولية جسيمة، وانتقال من القرار الفردي إلى الجماعي، تشاورا في تذليل طرق الحياة نحو الكمال والسعادة، والصبر على إكراهياته، بحثا عن إجراءات تسهّل دينامية الحياة واستمرارها.
ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب.
السعي في حل المشاكل الأسرية بطريقة دون تجريح، ولا تعريض بأحد الطرفين، وخدش في عرضه. (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) وهذه السنّة القرآنية وُئدت في بلادنا منذ أمد.
التخفيف من المؤن نحو العادات السيئة المجحفة فبعض الرجال ينفق في كل المناسبات ما يملك، (مناسبة العيد، والعقيقة، والصاحبة، والقائمة عريضة...) ثم يضطر إلى السلف أو السرقة ليسد مروؤة كاذبة أملتها عادات المجتمع، فإن لم يفعل صكّت المرأة وجهها وضربت أبناءها زعما أن الرجل لا يحبها، ولا يريدها بل يسعى لفضحها بين الأقارب والأحماء، وأحيانا تذهب إلى أهلها غضبى، فيتلقونها بالورود والحبور تشجيعا لعصيانها، لأنها رفعت رؤوسهم، ولم ترض بحجج رجل ماكر.
على القضاة أن لا يتهاونوا في قضية الأبناء بل ينزلوا أقسى العقوبات على الآباء المفرطين في التربية.
إنشاء هيئة قضائية عليا تضم حقوقيين، وجمعا من الأمن السري تلاحق الرجال المفرّطين في حقوق أبنائهم.
وفي الختام سدّدوا وقاربوا، واعطفوا على أولادكم في حياتكم،ــ ليكونوا لكم بعد مماتكم ــ، سواء كنتم معهم، أو انفصلتم عن أمهاتهن لأسباب ما، فإن الله سائل كل راع عمّا استرعاه أحفِظ ذلك أم ضيع.
ها إن ذي عذرة إن لا تكن نفعت فإن صاحبها مصادف النكد