عندما نزل القرآن الكريم كان الرّق من حقائق المجتمعات البشرية، ولم يشذ في ذلك مجتمع. ولم يكن الرق مجرد تسلط من الأقوياء على الضعفاء، بل كان قناعات راسخة حتى في عقول الفلاسفة والمفكرين، بل وفي عقول وقلوب الأرقاء أنفسهم. لم يكن هناك حُر يأمن الاسترقاق فتاريخ العبودية أو الاسترقاق يمتد عبر العديد من الثقافات والجنسيات والأديان من العصور القديمة وحتى أيامنا هذه بيد أن المواقف الاجتماعية والاقتصادية وحتى القانونية للعبيد تختلف اختلافا جذريا في نظم الرق المختلفة وفى أوقات وأماكن شتى.فالرق أو العبودية دخلت تاريخ البشرية مع بداية الحضارة ’ ولذلك فكل الحضارات القديمة استخدمت العبيد ومارست الظاهرة وهو ما يشي بأن الحصول علي العبيد كان أمرا سهلا ’ خاصة أن الحروب كانت هي المصدر الوحيد للإمدادات بالعبيد فعندما تسقط بلدة في يد جيش معاد فمن الطبيعي أن يأخذ هذا الجيش العبيد من أولئك السكان ويمكن تعريف الرق على أنه تقييد شخص بشخص آخر عن طريق الإكراه . فكيف يمكن والحالة هذه أن يستقيم القول بأن الرق أو العبودية مصدرها الدين أو ليس هذا تجنيا على الدين ؟؟ هل يمكن القول مع هذا أن الدين لم يكن عامل تحريروتحرر وانما عامل استعباد واسترقاق؟ أسئلة ستجد وجاهتها ومثارها ومدارها من خلال استنطاقنا لمختلف حيثيات الموضوع المعقد والشائك.
فالواقع، أنه لا بد في البداية أن نغيّر من مفاهيم وتصورات وقناعات الناس كل الناس حتى الأرقاء، ثم انه يتحتم علينا معالجة التعقيدات الناجمة عن وجود الأرقاء في كل بيت أو كل مزرعة، وكل سوق، وكل تجمّع بشري. فهل يوجد عالم اجتماع يستطيع أن يزعم أن التغيير يمكن أن يكون بقرار فجائي فوقي؟!
لا أظن أن مسألة الرّق أو العبودية عند المفكرين وعلماء الاجتماع تعالج بالطريقة التي يريدها من يعيشون في الخيال بعيداً عن الواقع وتعقيداته وملابساته، وقد يحتج البعض بالتجربة الأمريكية، قائلا انه تم تحرير الرقيق على يد {أبراهام نكولن}، وهنا تجدر الإشارة بنا أن نقدم الملاحظات الآتية :
1. يجب أن لا ننسى أو نتناسي أن تحرير العبيد في أمريكا جاء في عصور متأخرة بعد أن تطورت المجتمعات البشرية إلى المستوى الذي يؤهلها أن تقوم بمثل هذه الخطوة.
2. أن تلك الصحوة للتخلص من نير العبودية لم تأت إلا عبر حرب أهلية هائلة أزهقت أرواح الآلاف المؤلفة من البشر’ وهذا ما لا نريده لبلادنا.
3. تطور الشمال الأمريكي صناعيا وهو ما استدعي البحث عن وجود اليد العاملة الرخيصة، في حين كان الجنوب زراعياً يحتاج للأرقاء في مزارعه، فكانت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب لهذه الاعتبارات، ولم تكن الدوافع الإنسانية والأخلاقية هي التي دفعت { بنكولن} للقيام بهذه الخطوة.
4. يحكي التاريخ بأن الكثير من الأرقاء استجدوا أصحاب المزارع لإبقائهم في مواقعهم، لأنهم لا يستطيعون العيش بعيداً عن الواقع الذي عاشوه طويلاً.
5. لا شك أن الأمريكي الأسود يعاني من التفرقة العنصريّة وحتى أيامنا هذه، لأن السيد لا يزال مستعبداً لأفكاره، ولأن التحرير لم يأت في سياق التطور الطبيعي للمجتمع.
6. إذا كان لا بد أن تحدث الحرب الأهلية حتى يتم تحرير الرقيق، فلماذا لم تحصل هذه الحرب في باقي المجتمعات البشرية، والتي لا يوجد فيها الآن رقيق ؟! واضح أن الأمر جاء كثمرة لتطوير الوعي البشري، وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه ثمرة حتميّة، بدليل حصول إجماع بشري على رفض نظام الرق وأنه ظاهرة مقيتة حان الوقت للتخلص والتملص منها لأن الواقع يحتم ذلك.
فالماركسية من الفلسفات المعاصرة التي شغلت بال الناس على مدى القرن العشرين بكامله،وجاء الواقع ليثبت خطأ كثير من أسس هذه الفلسفة و كانت الماركسية تقول إنّ نظام الرق هو ضرورة من ضرورات تطور المجتمعات البشرية، والتي لا بد لها أن تمر عبر تطورها في المراحل الآتية: المشاعية، ثم الرق، ثم الإقطاع،ثم الرأسمالية، ثم الاشتراكية، ثم الشيوعية. ويكون ذلك نتيجة حتمية لتطور الاقتصاد، والذي لا بد أن يتطور على ضوء تطور قوى الإنتاج. على ضوء هذه المقولة الماركسية تعتبر مرحلة الرق مرحلة ضرورية من أجل تطور المجتمعات البشرية إلى المراحل التي تليها، ولا يكون ذلك بخيار الناس، بل يفرضه تطور قوى الإنتاج. نعم على ضوء هذه المقولة نستطيع أن نقول :
1. إذا كان نظام الرق حتمياً في وجوده وحتمياً في زواله، فلماذا يصدر الإسلام قراراً ثورياً لمحوه وإزالته؟!
2. إذا كان نظام الرق ضرورة تفرضها التطورات الاقتصادية، وإذا كان ضرورياً للانتقال إلى المراحل التي تليها، فلماذا يطلب من الإسلام أن يقف أمام التطور، فيهدم نظام الرق قبل الأوان؟!
.
واضح تماماً أن التشريع الإسلامي لم يعمد إلى الأسلوب الثوري الفوري والفوقي في معالجة مسألة الرّق، فهوجاء ليغير الواقع ويرتقي بوعي الناس، ويعدّل في اعتقادهم وسلوكهم، ويدين الانحرافات،ويضع الحلول. ولا شك أن الحلول تختلف باختلاف المرض الاجتماعي ومدى استفحاله.
اللافت للانتباه أنّ القرآن الكريم لم ينص على إباحة الاسترقاق، وفي الوقت نفسه لم ينص على تحريمه. وهذا يعني أنّه يعتبر هذه القضية من القضايا التي تحتاج إلى علاج طويل الأمد، ثم هي من المسائل التي لا بد في النهاية أن تتلاشى. عندما تحدث القرآن الكريم عن الأسرى والموقف منهم وضع احتمالين للتعامل معهم. جاء في الآية 4 من سورة محمد { ص} : ) فإما مناً بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها ( فإما أن يطلق سراح الأسير من غير مقابل،أو أن يطلق سراحه بمقابل. وهنا يتبادر السؤال التالي : لماذا لم يطرح الخيار الثالث فيقول : " وإما استرقاقاً " ؟! وهذا يعني أن القرآن ينزّه عن ذكر الاسترقاق المنافي للكرامة الإنسانية : ) ولقد كرمنا بني آدم …(فلا شك أن الاسترقاق هو اختراع بشري كما كانت عبادة الأصنام وغيرها من اختراع البشر، وعدم ذكر القرآن للاسترقاق لا يخلق في النفس نفوراً منه، ولكن يلاحظ أن القرآن الكريم اعتبر إعتاق الرقيق من أعظم القربات إلى الله تعالى، جاء في سورة البلد ) فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة.. ( وجعل تحرير العبيد من مصارف الزكاة الثمانية، بل وقدّم تحرير الرقيق في الكفارات على ما سواه. وقد وردت صيغة "تحرير رقبة " خمس مرات في القرآن الكريم، ووردت صيغة" فك رقبة" مرّة، ووردت صيغة " في الرقاب " مرتين. وفي الوقت الذي يعتبر فيه القرآن الكريم تحرير العبيد من أعظم القربات إلى الله تعالى، فإنّ هذا يعني أنّ الاسترقاق يناقض روح الدين وأهدافه ومراميه. وعلى الرغم من ذلك فإننا نجد أنّ الممارسة العملية في زمن الرسول،وزمن الخلفاء الراشدين، وعلى مدى قرون من الحكم الإسلامي، لم تجتث الرق بل مارسته فماذا يعني ذلك ؟!
أن يخلو القرآن الكريم من ذكر الاسترقاق هو نوع من تنزيه القرآن عن الحديث حول ممارسة غير إيجابية. وأن يجعل القرآن الكريم تحرير الرقيق قربة عظيمة يتقرب بها المسلم إلى الله فإن هذا حكم ضمني بأن الاسترقاق منافٍ لرضي الله. فإذا كانت الصدقة والبذل قربة إلى الله، فإن هذا يعني أن البخل والإمساك مذموم، وهذا أمر بديهي. إذن لم يبق إلا أن يُنَصّ على التحريم، وواضح أن القرآن الكريم لم يفعله، بل سكت عن الممارسة العملية المقننة في أضيق صورها سواء في عصر الرسول عليه السلام أوالخلفاء الراشدين. ومعلوم أن ممارسة الرسول عليه السلام هي حكم شرعي بالإباحة، وأدى هذا الحكم بالإباحة إلى استمرار نظام الرق لقرون بعد عصر الرسالة.
لا شك أنه من المفيد هنا أن نبين للقارئ النقلة الهائلة التي نقلها الإسلام للسيد والعبد في سبيل تغيير الواقع، وكذلك التشريعات التي تخفف من مساوئ هذا النظام. والمتدبر لهذه التشريعات وتطبيقاتها العملية في الدولة الإسلامية يدهش من قدرة هذه التشريعات على رفع مكانة الرقيق مع بقائه رقيقاً إلى درجة أنك كنت تجد العالم الذي يدّرس في الحلقة العلمية هو من الرقيق، وسيده جالس يتتلمذ على يديه، وإلى درجة أن الأرقاء استطاعوا أن يقيموا دولة إسلامية سمّيت دولة المماليك . وهنا تجدر الإشارة إلى أن قضية الرق قد أمست قضية تاريخية لا واقع لها في صورتها القديمة.
هكذا ومن خلال هذه حديثنا عن موضوع العبودية أو الرق تولدت لدينا التساؤلات التالية: هل استطاعت البشرية أن تجد حلاً لمشكلة الرق القديم، وهل أجمعت على رفضه، وهل استطاعت أن تقضي عليه فلم يعد أحدا يمارسه؟ من منا اليوم لو سأل نفسه يجد أنه يؤيد أو يرغب في عودة هذا النظام؟ وإذا وجد من يشذ ويقبل بنظام الرق هل يجرؤ أن يصرّح بذلك؟ وإذا صرح بذلك هل يُنظر إليه على أنه شخص طبيعي؟ ومن الذي يستطيع اليوم أن يسترق إنساناً ثم ينزله إلى الشارع ويبقى مسترقاً؟.
إذن هذه مسألة يمكن للإنسان أن يوجد لها حلاً، وهي مسألة يمكن للبشر أن يجمعوا على حلها، بل يدهشك اليوم الإجماع البشري الهائل على هذه المسألة، مهما اختلفت العقائد والفلسفات والشرائع والأديان. هذا يدل على أن أساسها يكمن في الفطرة الإنسانية السليمة، ثم هي قضية وعي وتطور. إذن لا دخل للدين فيها، ولا يطلب من الدين أن يضع الحل البات لها، بل إن الدين خفف من غلوائها، وهذب من مساوئها، وسرّع في دفع الإنسان في اتجاه حلها. أما تنظيم العلاقة بين السيد والعبد فهذه مسألة من اختصاص الدين حتى لا يكون ظلم وتجاوز، وحتى يصل الإنسان إلى الوعي الكافي لحل المشكلة.
ذ ـ السيد ولد صمب أنجاي
والسلام على من اتبع الهدي ونهى النفس الأمارة بالسوء عن الغوي
كيفه بتاريخ : 15 ـ 09 ـ 2019