الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين :
في زمن خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاءه رجل، فقال: يا أبا الحسن ، لماذا اجتمعت كلمة الناس في زمن أبي بكر وعمر، واختلفت في زمنك وزمن عثمان ؟، فقال له علي رضي الله عنه : لأن الرعية في زمن ابي بكر وعمر كانت مثلي أنا وعثمان، وأما الرعية في زمني وزمن عثمان فهي أنت وأمثالك !
أما عبد الملك ابن مروان فقد وقف على المنبر فرأي الناس حديثي عهد بالخلافة الرشادة ولا يرضون منه إلا أن يسير سيرتها ويحذو حذوها فقال في خطبته : "ألا تنصفوننا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة ابي بكر وعمر ولم تسيروا في انفسكم ولا فينا سيرة رعية ابي بكر وعمر نسأل الله ان يعين كلا على كل".
هكذا هو دائما منطق الذين يسألون عما لهم من حقوق ولا يهتمون بما عليهم من واجبات ..!
منطق الذين يأخذون ولا يعطون ..ويستفيدون ولا يفيدون ..
منطق الذين يريدون أن يقال لهم : ماذا تريدون ؟ لا أن يقال لهم : ماذا ستقدمون ؟ !
منطق المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون !
يتحدث الناس كثيرا عن صلاح الحاكم، وعن ضرورة أن يكون لديه مشروع إصلاحي ،ولكنهم يهملون الحديث عن ضرورة صلاح المحكوم..!
إنهم لا يدركون مدى التلازم بين صلاح الحاكم وصلاح المحكوم، المشار اليه في الأثر المرفوع: "كما تكونون يولّ عليكم" رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة..
فمن اجل تحقيق أي نهضة إصلاحية لا بد من تحقق أربعة شروط : - صلاحية الحاكم - وصلاحية المحكوم - وصلاحية المشروع - وصلاحية الظروف.
مخطيئ من يريد الفصل بين الدولة والشعب ..أو من يعتقد بأنه يمكن إصلاح أحدهما دون إصلاح الآخر ..
بل لا بد لكل من يريد وضع خطة لإصلاح الدولة أن يضع خطة موازية لإصلاح الشعب ..
فالشعب هو الدعامة التي يقوم عليها كل مشروع إصلاحي ..منه الموظف ،ومنه التاجر، ومنه الأستاذ، ومنه الطبيب ،ومنه المهندس، ومنه العامل ..وبصلاحه تستقيم الأمور.. وبنشاطه ومثابرته تتقدم الدول .
لن يبعث الله الينا ملائكة يتولون تسيير البلاد او تنفيذ مشاريع إصلاحية ..لن يقوم بذلك إلا من نشأوا في هذا الشعب واحتكوا بمن فيه من صالح وطالح ،وتأثروا بما فيه من خير وشر..
وما الحكومة برمتها الا مرآة مصغرة لهذا الشعب الذي جاءت منه ..
لن يوجد حاكم عادل إلا إذا وجد القاضي العادل ..والمدير العادل ..والموظف العادل .
و من الإجحاف ان نقارن بين حكامنا وحكام الغرب ، ولا نقوم في الوقت نفسه بالمقارنة بين شعوبنا وشعوب الغرب !
إن القوة الاقتصادية والنهضة الصناعية للغرب لم تتشكل بمجرد قرارا ت حكومية .. وإنما بتوفر مجموعة من الأسباب ،من أهمها : طبيعة الشعوب الغربية، التي تتمتع بقيم مهمة كالنشاط والاستقلالية و التحدي والاعتماد على النفس،فتمكنوا بذلك من غزو العالم بمنتجاتهم.
و لدى اليابانيين منظومة من القيم جعلتهم ينجحون في نهضتهم من بينها: حب العمل ،والاهتمام بالجودة ،والإخلاص، والالتزام بالمواعيد المحددة ،والانضباط ،والنظام .
كيف استطاع مهاتير محمد ان يحقق مشروعا اصلاحيا ناجحا في ماليزيا ؟..
لقد كانت ما ليزيا دولة زراعية تنتج المطاط الخام ليعود إليها خاماً مصنعاً وبأغلى الأثمان!
وفي سنة 1995م أكدت التقارير بأن ماليزيا أصبحت عاشر دولة صناعية في العالم ، وفي يوليو 1997م احتلت ماليزيا المرتبة رقم 17 في تجارة العالم ، وفي عام 2000م حققت نمواً سنوياً قدره 6.5% سنوياً بعد الأزمة الآسيوية ، وحققت إنجازاً بأن أصبح السكان تحت خط الفقر 6.8% ومعدل التضخم بلغ مستوى مقبولاً وهو 2.8% ونسبة بطالة متدنية وصلت إلى 3 % فقط .
لقد نجح مهاتير محمد في تحقيق مشروع إصلاحي تنموي في ما ليزيا ؟
فهل سينجح مثلا لو جاء بنفسه وحاول تطبيق هذا المشروع بحذافيره في بلادنا ؟
سيكون هناك بالطبع عنصر هام مفقود هو الشعب الماليزي وما يتمتع به من صفات ..
ربما يكون من الدعابة لو قلنا إن بعض الإصلاحيين يحتاجون إلى استيراد شعوب فاعلة !
لكن الواقع يفند أسطورية هذه المقولة ،..فالهجرة المفتوحة في الولايات المتحدة ما هي إلا باب مفتوح لاستيراد الشعوب..
واستقبال المهاجرين السوريين بأعداد كبيرة من طرف ألمانيا لم يكن إلا بغية الاستفادة من كفاءتهم وما لديهم من خبرات ..
إن طبيعة الشعوب تلعب دورا هاما في نجاح المشاريع الإصلاحية أو فشلها .
أما الشعب الكسول المتواكل فهو ينتظر مائدة الإصلاح تنزل عليه من السماء ! وأن توفر له الحكومة كل ما يحتاج إليه من وسائل الحياة الضرورية والكمالية ..
إنه يرى ان دوره منحصر في المراقبة والانتظار !
ويعتقد بأنه لا يحول بينه وبين الإصلاح إلا بعض القرارات الحكومية !!
انه شعب يريد من الحكومة ان تقوم بكل شيء دون ان يشارك هو في أي شيء !
لا هو يريد أن يتحلى بالمسؤولية التي أدى غيابها إلى هدر المال العام وتبديد الثروات الوطنية ..!
ولا هو يريد أن يتخلى عن كسله وعدم رغبته في العمل، الذي أدى إلى خلل اداري أصبح ضاربا في الجذور ،واستحال معه القيام بأي مهمة على الوجه المطلوب، بسبب التأخر أو الإهمال، أو عدم الاتقان! ..وترى الناس يخرجون الى اعمالهم كارهين ! كما يجر الجيش الجبان إلى ساحة حرب شعواء!
ولا هو منته عن فوضويته التي وصلت الى كل الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية.. فوضوية لا يعترف اصحابها بنقطة البداية ولا يكترثون لنقطة النهاية ..!
ولا هو راغب عن انانيته التي جعلت المصلحة الشخصية فوق المقدس، والمصلحة العامة مهملة وغير معتبرة !
ولا هو مستعد لدعم أي مشروع إصلاحي يكبح جماح الظلم والفساد والمحاباة القبلية والجهوية ..!
ولا هو يريد ان يتحلى بالجندية ويكف عن التمرد الذي اصبح مهيمنا على العلاقة بين الرئيس والمرؤوس والزوج والزوجة والأب والأبناء !
ولا هو معترف بأن له دورا كبيرا في هذا الواقع السيء !
بل يرى أن الحكومة هي وحدها المسؤولة عن كل السلبيات!
إذا كان الشعب يريد من الحاكم أن يقوم بدوره على اكمل وجه ،فعليه أن يكون جادا في إرادته ويقوم هو ايضا بدوره على أكمل وجه ..وفي الوقت المحدد ، وبإتقان ومهارة ، وانضباط ونظام ، ومسؤولية وإخلاص ..
أعطني حاكما صالحا ،وشعبا فاسدا.. أعطيك حكما عاجزا ..!
حينما يقوم كل فرد من أفراد الشعب بواجبه، ويؤديه على أكمل وجه ،سواء كان موظفا أو تاجرا أو عاملا أو حرفيا أو شرطيا أو طبيبا أو مدرسا أو صحفيا أو أبا أو ربة منزل ...حينها فقط يحق للشعب أن يحمل المسؤولية للحاكم وحده .
صحيح أن الكثير من الخلل الذي نعيشه راجع إلى غياب الدولة وعدم قيامها بمسؤوليتها ..
لكن الكثير منه أيضا مصدره شعبي ..
نعيب زماننا والعيب فينا……وما لزماننا عيب سوانا
ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب……ولو نطق الزمان لنا هجانا
فالفساد مصدره شعبي حينما لا يقدم الموظف للمواطن أي خدمة إلا على أساس المعرفة، او الواسطة المتبادلة ،أو "مس لبنتك"، او "ادهين اللحية" -او مكانها على الأصح- ...!!
والفساد مصدره شعبي حينما يكون الربح في التجارة قائما على أساس غش الناس، وتزوير البضاعة، والكذب في الترويج ،وخديعة المستهلكين..
والفساد مصدره شعبي حينما يطوف المستورد أرجاء العالم بحثا عن أسوء نوعية في الانتاج، ليغرق بها أسواق بلده ويملأها بالدواء المزور، والغذاء الضار ، والبضائع الرديئة !!
و والفساد مصدره شعبي حينما يكون الطب قائما على أساس التربح، والاستفادة من المرضى، وإجراء العمليات غير الضرورية، والوصفات غير الدقيقة، وإعطاء الأدوية المزورة ..
والفساد مصدره شعبي حينما يكون المال العام فريسة يتنافس أبناء الوطن في سرقته وإفساده، ويعتبرون ذلك من علامات "التفكريش" !
والفساد مصدره شعبي حينما يغيب الضمير والإخلاص عند المدرس والأستاذ، ويصبح التعليم مجرد وسيلة لجمع المال لا رسالة تربوية ولا مهمة وطنية..
والفساد مصدره شعبي حينما تكون خدمات العمال والحرفيين قائمة على الخديعة ، وعدم النصح ، وغياب الاتقان، والحالة الغالبة هي "التفرفيش" !.. إذا أنجزوا لك أي عمل في محضرك أرهقوك ، وإن أنجزوه في غيابك غشوك !
ومهما قلبت نظرك بحثا عن الكفاءة والاتقان والإخلاص فلن يرتد إليك بعد طول عناء إلا وهو حسير!
إن الكثير من الخلل في المنشئات والمشاريع والخدمات ليس راجعا إلى نقص في الوسائل المادية، وإنما إلى الخلل في العقول والمسلكيات، وتفشي الكسل والأنانية والجشع وغياب الضمير، حتى أصبح التمسك بالمبادئ نوعا من المثالية أو الغباء..
وأصبحت القاعدة التي تحكم المعاملات هي تبادل الضرر لا تبادل المنفعة !
وغاب المعنى الذي من أجله جعلت الحرف والوظائف المهمة من فروض الكفاية !
أما الامانة فقد طارت بها العنقاء!.. إلى حد أصبح فيه العبث بالممتلكات العامة وممتلكات الغير سمة ظاهرة ..
في الكثير من الدول تقوم البنوك بوضع الصراف الآلي على الطريق دون الحاجة إلى أي حراسة ، أما في بلادنا فلا بد لها من حراسته في الليل والنهار ليس خوفا من السرقة فقط وإنما خوفا من أن يناله عبث العابثين ..!
وقد تقوم السلطات بعد الكثير من المماطلة بتوسيع بعض الشوارع التي ضاقت على المارة، فيبادر المواطنون المحترمون بشغل مساحة التوسعة إما بتوقيف سياراتهم، أو بعرض تجارتهم، وفي بعض الأحيان بإلقاء النفايات فيها فيعود الشارع أضيق من مساحته الأولى !
وكأنك يا أبو زيد ما غزيت !
وانظر إلى جميع المرافق العمومية فسوف ترى عبثا يعضده إجماع سكوتي! ..
قال محدثي متعجبا : مع ان الدولة قامت بإصلاح الطريق الرابط بين نواكشوط ومدينة بوتلميت إلا أن حوادث السير مازالت بنفس الوتيرة تقريبا !!
قلت له : إن الدولة قامت بإصلاح الطريق لكنها لم تقم بتغيير عقليات السائقين ..
وغالبية الحوادث لا ترجع إلى خلل الطرق وإنما إلى عقليات ومسلكيات السائقين ..
وما زال سائقوا الشاحنات الكبيرة يمازحون أصحاب السيارات الصغيرة على طريقة الثقيل الذي مازح امرأة حاملا فروّعها حتى أسقطت ما في بطنها !!
إن عملية إصلاح الدولة عملية طويلة وشاقة تحتاج إلى الوقت والصبر والشمولية في جميع المناحي السياسية والاقتصادية الاعلامية والاجتماعية والتربوية .
إن محاولة الإصلاح عن طريق الإجراءات الإدارية فحسب ليست بأسهل من شرب البحر في يوم عاصف الموج !
ان اصلاح الخلل المستشري في الدولة لن يكون بجرة قلم، ولا بمسحة بنّورة، وانما من خلال معالجة الجذور والاسباب والعلل ..
لا بد من مناقشة الكثير من الافكار والعقليات ، وتغيير الكثير من العادات، ومعالجة الكثير من المسلكيات ..
لقد قمنا بإنشاء مستشفيات لأمراضنا البدنية والحسية ، لكننا اليوم بحاجة ماسة إلى إنشاء مستشفيات لأمراضنا الفكرية وعاداتنا السلوكية ..
وعلاج الأبدان أيسر خطبا .... حين تعتلّ من علاج العقول
لن يحدث ذلك بين عشية وضحاها ..بل قد يحتاج إلى تغير جيل كامل من الشعب !!
إن بني إسرائيل لما رفضوا دخول القدس وقالوا لموسى : { إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22] حرمها الله عليهم أربعين سنة وضرب عليهم التيه في أرض سيناء، إلى أن نشأ فيهم جيل جديد رباه موسى عليه السلام بتربية جديدة وسلوكيات جديدة فأصبحوا مؤهلين للنصر وتحقق وعد الله لهم في زمن نبي الله يوشع بن نون عليه السلام : (( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا )) (الأعراف 137)
وقبل أن تحدث الحلول الجذرية ،والتغيرات المرضية ،لا بد من بعض الحلول العاجلة التي هي بمثابة مسكنات للألم ..
ولا بد أن يكون هناك تكامل بين الخطط الطويلة والقصيرة..
لكن ألم الواقع وبؤسه يجعل الناس غير واقعيين في تطلعاتهم وآمالهم..إنهم كالسجين الذي يترقب أي خبر بالإفراج عنه ولو كان كاذبا ..!
إنهم يعلقون على كل حاكم جديد آمالا حالمة،.. متناسين أنه ورث عن خلفه تركة ضخمة من الفساد والخلل..
ومتناسين أن الدولة محكومة بتوازنات سياسية واجتماعية صعبة ..!
حتى التعيينات في أي قطاع من قطاعات الدولة لا بد ان تخضع لهذه التوازنات ولو على حساب الكفاءة ..
وقد لا يتم فصل أو تعيين أي موظف مهما كان صغيرا إلا بعد النظر في موقعه من هذه التوازنات ..!
والشيء نفسه بالنسبة للعقاب ..والمكافأة ..وسن القوانين ..وتطبيقها ..وتكافؤ الفرص..!
وللعلة نفسها تصطدم المساءلة والمحاسبة بعقبة المتحصنين بأصحاب النفوذ والضغط ..
وفي هذا الإطار قد تظهر معاملة متميزة لبعض الحيتان الكبيرة والديناصورات العملاقة، لا محاباة لها وإنما لأنها تهيمن على مراكز النفوذ والقوة في المجتمع والدولة !
إن هذه التوازنات تطرح إشكالية كبيرة ، لكن إذا لم تتم مراعاتها فلن يتمكن الحاكم من الوقوف على أرضية صلبة ..
وقد قيل في المَثَل: مَن لم يَزْدَرِد الرّيق لم يَستكثر من الصديق..
ولهذا قال عمر بن عبدالعزيز لمن طالبه بالتسريع بالإصلاحات : "والله ما استطيع أن أخرج لهم شيئا من الدين الا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم خوفا من أن ينخرق على منهم ما لا طاقة لي به"
إنها معادلة صعبة تكاد لا تميز فيها بين الشجاعة والجبن ولا بين الشدة واللين ، بل إنك قد لا تميز فيها بين الحق والباطل !
يكاد الأمر يكون محيرا..! لكن السياسة فن الممكن كما يقال .
فعلى الشعب المريد للإصلاح أن يكون شعبا إصلاحيا ، ويتعاطى بإيجاب مع الإصلاح ، وعليه ان يدرك أن مشروع الإصلاح قبل أن يعمل بيديه ويسير على رجليه لا بد أن يحبو على ركبتيه ..
والتوفيق بيد الله