هوامش على قناة المحظرة / عبد الوهاب ولد الشيخ الحطاب

كان افتتاح قناة المحظرة حدثا عظيما، وعرسا بهيجا أثلج الصدور، وأشاع الحبور في الأوساط العلمية المحلية والدولية ، لأنها تتويج ونشر للمحظرة الشنقيطية عبر وسائل التواصل المرئية الحديثة. فهي عبق امتد شذا عرْفه لتتفيأ ظلاله جميع الشعوب الإسلامية، كي تنهل من معين شنقيط الوارف الذي عزّ نظيره في العالم.

 كما أنها غيث همع فعمّ سحّه الذين اكتووا بنار الابتعاد عن المحظرة، ونصوصها العِذاب، وجوها الإيماني، حيث أتاحت لهم قناة المحظرة فرصة ذهبية، إذ ربطتهم بحياتهم الأمّ، فأرتهم العسجد ، فذا الاحمرار، وذاك مختصر خليل ، وتي الألفية، وهؤلاء الستة الشعراء... الخ. وغير ذلك مما تشتاقه النفوس، وتأنس بسماعه.

تجمّع في قناة المحظرة مشايخ علماء حذقوا النصوص الشرعية واللغوية نظمها ونثرها، فكان فيها مالك، والشافعي في الفقه، وأبو عمرو، والأصمعي في اللغة، والخليل وسيبويه في النحو، وبشار، والمتنبي في الشعر. 

إن هذه حلقة متسلسلة عن حلقات علمية حافلة بالمعرفة، فاض شعاعها منذ قرون خلت، وما زالت أشرعتها يانعة، ولسان حالها ينشد مع العلامة الشاعر الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا (ت1869م) قصيدته البديعة التي وصف فيها أجواء المحظرة الشنقيطية وما حوته من العلوم والعلماء في زمنه. فقال: 

أذاكر جمعهم ويذاكروني ... بكلّ تخالف في مذهبين

كخلف الليث والنعمان طورا .. وخلف الأشعري مع الجويني

 وأوراد الجنيد وفرقتيه ... إذا وردوا شراب المشربين

وأقوال الخليل وسيبويه ... وأهلي كوفة والأخفشين 

نوضح حيث تلتبس المعاني. دقيق الفرق بين المعنيين

 وقد حاولت قناة المحظرة أن تتمثل المحظرة الشنقيطبة في كل جوانبها، وقد نجحت إلى حد تحسد عليه. 

غير أن العمل البشري جبل على النقص، لذا أكتب بعض الملاحظات لعلها تُسهم في تطوير برامج قناة المحظرة:

_ إن الطالب المحظري يتلقى محفوظاته من الطرر، وأغلبها مزال مخطوطا، لذا عليه أن يتجتهد في مراجعة أصولها من خلال المطبوعات المحققةــ تحقيقا علمياــ عند ما يريد أن يدخل الساحة الإعلامية، مراجعة عصرية، من حيث الأسلوب، أي: أن يكون أسلوبه قريبا من المتلقي، متخيرا الأمثلة التقريبية قبل إيراد الشواهد الشعرية. 

_ ضبط أسماء العلماء والمؤلفات

 إن ضبظ الأعلام احترام للعلم والعلماء، فكل من سمع لسانا يلهج باسم ملحون مجّت آذانه ذلك، وضغّر صاحب الفعل. ويعظم ذلك إذا صدر اللحن من أهل العلم. وهذا هو السبب الرئيس في كتابة هذه الأسطر. وإنما نبّهت إلى الاعتناء بضبط الأسماء، لما رأيت من اشمئزاز المرء عند سماع لحن اسمه. فبعضم يتسمى باسم قد يظهر لغيره أنه قدحي خلا أن صاحب الاسم يراه جميلا ومعبرا عن كينونته.

 فمن اسمه كُليب إذا ناديته بكلْبٍ ــ رغم تكبير الصيغة الدالة على التعظيم كما يقول النحاة ــ أفرغ عليك جام غضبه، لأنك جنيت على ذاته بتغيير عنوانه وعلامته، فالاسم هو السمة المميزة لصاحبه.

 وهنا أشير إلى علمين مشهورين سمعت بعض المشايخ في المحظرة ينطق اسميهما على غير المشهور. وذان هما: ابن جنّي، وابن المرحَّل. 

    1ــ ابن جنّي (ت 392ه) أبو الفتح عثمان بن جني أحد أعلام اللغة المشهورين.

 سمعت أحد المشايخ في إحدى الدورس النحوية يشرح على قناة المحظرة بعض الأنظام النحوية. وفي أحد الأبيات ذكر الناظم "ابن جني" فقال الشيخ معلقا : وهو ابن جنيٍّ حذفت ياء النسب للوزن"

استغربت ذا القول ونكرته في نفسي، لأن ما أعرفه أنه ابن جنّي بياء ساكنة، غير أن الخوف من لحن الأسماء أخذ بي إلى البحث فرجعت إلى مصادر التراجم فكانت النتيجة ما يلي: 

1- قسم لم يدقق في لفظ "جني" مكتفيا بذكر مؤلفات أبي الفتح، وما قدمه للعربية. ينظر( نزهة الألباء في طبقات الأدباء، كمال الدين الأنباري، ص:244. وإنباه الرواة على أنباء النحاة، ج2، 335. وسير أعلام النبلاء، ج17، ص:19. وغيرهم كثير) 

 2- قسم وقف على لفظة جِنّي، مبينا حركاتها، مخافة أن تصحف ويطالها التحريف، وهم ـ لعمري ــ صائبون، فقد وقع ما خافوا، وشاع في الآفاق بين العالم والمتعلم. ومن هؤلاء الذين ضبطوا كلمة جني أذكر :

ابن خلكان (681ه) قال :"وجني: بكسر الجيم وتشديد النون وبعدها ياء" (وفيات الأعيان، ج4، 248)

واضح من سياق الكلام أن الياء غير مشددة، فلو كانت للنسبة لقال : وتشديد النون والياء. ومثله ما ذكره العسقلاني (ت 852ه) لدى ضبطه لجَني، وجِنّي قائلا: "وبكسر الجيم وتثقيل النون: أبو الفتح عثمان بن جِنّي شيخ النحو" (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، 1\475) 

وقد لحظ الأستاذ علي النجار ــ محقق كتاب الخصائص ــ هذا التصحيف فبذل قصارى جهده تحقيقا لضبط كلمة جنّي" حيث قال :"وجنّي بكسر الجِيم، وكسر النّون مشدَّدة، وسكون الياء؛ فلا تشدَّد الياءُ كياء النّسب؛ إذ ليست بها. وفي « حاشية الشُّمُنِّيّ على المغني » - بعد أن أوْرَدَ ترجمةَ ابن جِنِّي. وفي الشَّرح في غيرِ هذا الموضِعِ: هو بإسكانِ الياءِ، وليس منسوبا؛ وإنَّما هو معرَّب « كِنّي »، كذا في « شرح المفصَّلِ » للإسفنداريّ. (مقدمة تحقيق الخصائص (ص:8) 

وينظر ( بغية الوعاة،2\132. وابن جني النحوي، د. فاضل صالح السامرائي، ص:22. وحاشية الدسوقي على المغني: 1\365).

   ولعل متعلق صاحبنا وغيره ممن توهموا نسبة جنّي إلى الجنّ ما ورد عند السمعاني (ت572ه)، حيث ترجم لعبد السلام البصري الجنيّ فقال:" الجني بكسر الجيم وتشديد النون، هذه النسبة إلى الجن، المشهور بهذا الانتساب عبد السلام بن عمر الجني البصري الفقيه" ثم أردف ذلك بترجمة عن ابن جني فقال :" وبغير الألف واللام أبو الفتح عثمان بن جني النحويّ المدقق المصنف"( الأنساب، السمعاني، ج3، ص: 360،361.)

 وهذا وهم منه لأن ابن جني كان يفسر اسم أبيه "جني" بالفاضل، والسخي بالرومية. ( مقدمة تحقيق: الخصائص: 8)

وإذا رجعنا إلى علمائنا وجدنا الأنظام الشهيرة المتداولة بين أهل الطرر في ذي البلاد تواردت على ذكر جنّي بياء ساكنة.

يقول آدّ :

واضطربت أقدام من نحوا رسخ ... في قول غيلان حراجيج...إلخْ.

إلى أن يقول:

مناخة عليه حالا تعربُ... ولابن جنّي زيد إلا ينسبُ.

ومنه قول بعضهم:

كما الشلوبيني قرم الفنّ..... قال به كذاك نجل جنّي.

فكل هذه الشواهد تدل على أن جنّي بياء ساكنة. 

2ـــ ابن المرحل: مالك بن عبد الرحمن المالقي (699ه) صاحب الأشعار السائرة والتآليف الخالدة.

 كان أحد المشايخ يسهب في شرح الأبنية، مبينا ما تقاربت فيه الأفعال، وما اختلفت فيه المعاني، مستشهدا بأحد أبيات موطأة الفصيح، وهو استشهاد في غاية الروعة. خلا أن تلك الانسيابية في الشرح كدّر صفوها عند ما نطق بابن المرحل بكسر الحاء. 

 توقف الذهن قليلا وأعاد التفكير، محاولا استرجاع ما عتا عليه الزمن بعد فراق المحظرة، ثم جزم بعد كرّ وفرّ أن الشيخ بابّاه الحسني عليه شآبيب الرحمة كان ينطق بابن المرحَّل مفتوح الحاء.

عدت إلى المكتبة لأتبين النطق الصحيح كي أسلم من معرة لحن أسماء ظرفاء الأدب، طوفت في المكتبة مصافحا من اسمه المرجّل والمرحّل وألقيت بصري على من يقربهما في الاشتقاق. وفي نهاية المطاف وجدت ضالتي عند ابن حجر العسقلاني نور الله روضته.

حيث قال في تبصير المنتبه "قلت: المرحّل، بالفتح: مالك بن المرحّل، واسم أبيه عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن، أحد فضلاء المغاربة، له نظمٌ حسن، وبالكسر: صدر الدين بن المرحّل، أحد الأعلام، وآخرون" ("تبصير المنتبه في تحرير المشتبه، ابن حجر العسقلاني، ج4، 1275) . 

وأهل هذه البلاد كان لهم اهتمام كبير بضبط أسماء الأعلام، لأن لحنها لا يقل خطرا عن اللحن الإعرابي، فتغييرها إساءة للعلم، حيث تلتبس المسميات، وينسب القول إلى غير قائله. 

فمن النماذج الشنقيطية المفصحة عن ضبط الأسماء ما ذكره النابغة الغلاوي (ت1245ه) في نظمه بوطليحية. فقال :

والخِرْشي بالكسر بكل قولهْ .... والنشرتي رابع للدولهْ.

فهناك الخِرشي، والخَرشي، ولكي يفصل بين العلمين لزم ضبط حركة الخاء.

ونحو هذا ما قام به بعضهم حيث تناول اسم العالم الذي وضع لبنات علم التصريف، مشيرا إلى اسمه واسم أبيه، وضبط نسبته. قائلا:

أوّل من قد وضع التصريفا... وبين التصحيف والتحريفا 

معاذ بن مسلم الهرّاء .... 

بفتح هائه وشد الراء .

_ الاطلاع الشامل على المكتبة العلمية التي اختار التخصص فيها، فمن رشح للفقه عليه أن يلم بأمهات المذهب التي قد لا يكون زمن المحظرة اطّلع عليها لشح المصادر وضيق الوقت، علاوة إلى النظر فيه المذاهب الفقهية الأخرى.

_ على الشيوخ أن يجتهدوا في التحضير الجيد، امتياحا من المدونة الجديدة، فالاكتفاء بمحفوظات قديمة وإلقاؤها على السامع كما هي في الكتب القديمة دون تصرف، ولا نقد قد يعيق تبليغ المادة العلمية، لأن المتعلم يشعر بفراغ بينه والأمثلة ، لأن الشيخ خاطبه بلغة سابقة على زمنه، فمن الأحسن النظر في المؤلفات الحديثة واستلهام أمثلتها، لتطمئن نفس المتعلم، ولأن ذلك أنبل في تحقيق أهداف القناة حيث توصل المعرفة للعالم، معلنة أن موريتانيا مازلت قعلة منيعة للعلوم الإسلامية.

_ على مقدّم البرامج أن يكون عالي الكعب في النصوص ليطرح أسئلة جوهرية على الشيخ من خلالها يثير الشيخ قضايا أساسية يحتملها النص. أما إذا اكتفى بما يقول الشيخ، فإننا نكون أمام مسرحية ناقصة الأدوار، لها طرف متحرك، وطرفها الثاني جامد. ومعلوم أن طلاب النصوص الكبيرة مثل: الألفية وخليل... تكون لهم قدم راسخة في المتون الصغيرة، لذا يصبح أحدهم مؤهلا لمناقشة الشيخ وطرح إشكالات جوهرية تنم عن فهمه للمتون. 

_ الابتعاد عن اللهجة المحلية، فكثير من طلبة العلم في العالم يشتاقون إلى المحظرة الشنقيطية لما يسمعون عنها، وما حبى الله علماءها من العلم والزهد، فعلينا أن نعطيهم صورة حسنة تجسد في أذهانهم ما كانوا يسمعون، ولا يكون ذلك إلا باعتماد اللغة الفصيحة في شرح الدروس.

_ الاختصار في الشرح وعدم التماهي في الاستطراد، لأن الحلقات يتابعها المبتدئون الراغبون في تحصيل العلم، لهذا ينبغي أن لا يتجاوز في الشرح فتحة النص ــ كما يقول أهل المحظرة ــ لأن ذلك أدعى إلى استيعاب الدرس، وذلك مقصد أساس من شرح المتون.

إن استطراد بعض الشيوح في الشرح ظاهرة قديمة، والطلاب إزاءها صنفان:

 فمن محب لها يرى فيها رسوخ قدم الشيخ في الفن وحفظه الموسوعي. ومن نابذ لها واصفا لها بالحشو، وعدم الجدوائية. وقد نكر النابغة الغلاوي هذا المهيع، ذاكرا سلبياته على المتعلم، قائلا: 

إن الزيادة لدى المبادئ ....... تشتت الذهن وأحرى البادئ

وقاصد الفخر أو التكرار ....... بالمتعلمين ذو إضرار.

- الاهتمام بوفيات الأعلام، وذكر ذلك أثناء الشرح، لأنه تثقيف للمتعلم، ليطلع على معرفة السابق من اللاحق، و يميز المقتبِس من المخترِع. كما أنه يستفيد من ذلك معرفةالتطور والجمود في مباحث العلم ومصطلحاته.

هذه بعض الملاحظات أرجو أن يتنبه لها مخافة أن يتجاو إلى ما هو أعظم منها خطرا. 

وفي الأخير أشكر لصاحب فكرة قناة المحظرة جهده ونبله، وأرجو من الله أن يستمر عطاؤها العلمي معلمة شامخة يتعلم منها الجاهل، ويتذكر منها الناسي الذي طوحت به يد الدهر فألقته بعيدا عن نفحات المحظرة الربانية.

21. سبتمبر 2019 - 17:36

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا