" التزوير في الموجود من الأدوية في السوق الوطني نسبي، فالنسبة الكبيرة من هذه الأدوية هي أدوية جيدة ونسبة ضئيلة منها هي محل الشك ".
هذا التصريح الذي ورد على لسان وزير الصحة بالأمس، ردا على سؤال حول انتشار الإدوية المزورة في السوق الوطني، كان ضروريا ولا ينبغي أن يتوقف عند ذلك التصريح، في ظل هذا السيل من المغالطات والشائعات حول تزوير الأدوية الذي أخذ في أوساط الناس طابع التهمة ب " السَّلْ " في معتقدنا الشعبي والذي يقولون إن " آسغاه ما يْوليِ "، والذي ساهمت فيه إلى حد كبير وسائل الإعلام الخصوصية، والله أعلم بما إذا كان وراء هذه الشائعات ما يغذيها ويدفعها من طبيعة الصراعات ولي الأذرع القديم الجديد ما بين الموردين الخصوصيين والدكاترة الصيادلة الذين يرون أنهم هم الأحق بتوريد وتوزيع الأدوية لأنهم هم أهل الإختصاص، وأن الخصوصيين مجرد تجار غير مؤتمنين على قطاع الأدوية، ويصطدمون بالدولة التي تقول لهم إن السوق ليبرالي، وأنها لا تمنع صيدلانيا ولا تكتل صيادلة من أن يستورد الأدوية ويوزعها في السوق، ولكنها أيضا لا تستطيع منع خصوصي يرغب في دخول السوق بالشروط ودفاتر الإلتزامات المعروفة.
قلنا إن هذه الشائعات ساهمت فيها بشكل كبير وسائل الإعلام الخصوصية، وخاصة القنوات والإذاعات التي دأبت على إنتاج برامج حول الموضوع تفتقد غالبا للضوابط اللازمة لمعالجة هذا النوع من المجالات الفنية، فتراها تنتقل بكاميراتها إلى الشارع وتسلم الميكروفون لأول مار بها ليقول لها إن الأدوية مزورة! وحتى قناة " الموريتانية " وقعت هي الآخرى في هذا الخطإ مؤخرا رغبة منها، على ما اعتقد، في مجاراة الرأي العام والظهور بمظهر المنفتح على كل الآراء، والإنفتاح على كل الآراء مقبول ومطلوب في الكثير من المجالات كالسياسة والثقافة والرياضة.. ولكنه غير مقبول في المجالات الفنية إلا إذا كان انفتاحا على الآراء المختلفة لأهل الاختصاص الفني نفسه.
فلا يجوز في مجال فني حساس كمجال الأدوية مثلا أن نعطي الفرصة لكل من هب ودب من عامة الناس الذين أحيانا يكونوا أميين لنأخذ رأيهم في سلامة الأدوية، لأنه حتى الطبيب و الدكتور الصيدلاني نفسيهما لا يستطيع أي منهما الحكم على سلامة أو تزوير دواء من خلال اسمه أوشكله أو لونه أو عبوته أو مصدره.. بل لا بد وكما هو معروف من تحليل هذا الدواء في مختبر وبالطرق العلمية المعروفة لكي نستطيع الحكم عليه، فما بالك بالمارة في الشارع الذين في أغلب الحالات سمعوا وقالوا.. أو استعمل أحدهم دواء بطريقة غير صحيحة أو على إثر تشخيص خاطئ، أو له أغراضه التي تخصه، فيحكم بكل بساطة على أن كل الأدوية مزورة؟!
الناس يشترون يوميا أنواع المضادات الحيوية من الصيدليات ويجدونها فعالة، ويشترون أدوية الإسهالات، ومخفضات الحرارة ونزلات البرد بأنواعها، ويشترون أدوية الحساسية، والمهدئات، والأمراض الجلدية، وأدوية الملاريا، والربو، والقرحة المعدية، والإنتانات والإلتهابات وغيرها ويجدونها فعالة، وأصحاب الأمراض المزمنة من قلب وضغط دم وسكري وصرع وأمراض عصبية ونفسية يشترون أدوية هذه الأمراض من الصيدليات ويعيشون بها عشرات السنين.. ودواء لم ينفعك، قبل أن تحكم على تزويره، تأكد أولا من أن تشخيص حالتك كان صحيحا، وأنك استعملته بطريقة صحيحة، وحتى إذا تأكدت من كل ذلك فذلك ليس كافيا أيضا للحكم علية بالتزوير قبل فحصه وتحليله مخبريا، فلو كنت قادرا بنفسك على تحديد صلاحية دواء، لكنت بالأحرى قادرا على تشخيص حالتك ووصف الدواء لنفسك لكنك لا تستطيع، فالطبيب هو من سيشخص حالتك ويصف لك الدواء، وبنفس المعنى الصيدلاني والمختبر أيضا هما من سيحددان صلاحية الدواء لا أنت..
وهذا طبعا لا يمنع أو ينفي وجود علب دواء أدخلها مهرب إلى السوق بطريقة أو بأخرى، مثلما تدخل المخدرات أو غيرها من الممنوعات، والتي صدعت ولا زالت تصدع رؤوس السلطات في العالم بكل تقنياته وأجهزته دون أن تفلح في السيطرة عليها نهائيا، ولكن وجود هذه الكميات من الأدوية يعد اسثناء وليست قاعدة، كما أن ليس كل دواء مُهرب بالضرورة دواء مزور، فقط هو دواء داخل للسوق بطرق غير الطرق والمنافذ المحددة له قانونيا، فتصادره السلطات تطبيقا للقانون وسدا لباب أو ذريعة إدخال أدوية أخرى مغشوشة، وبالتالي فالوضع ليس كارثيا كما يروج ولا هو بالقريب من ذلك.
والغريب أن هذا الضجيج لم نسمع عنه، ولم يكن بهذا الصخب عندما كانت الأدوية معروضة إلى جانب التبغ والحبال تحت الأشجار مقابل سوق العاصمة قبل سنوات، وعندما كان لا مخبر تحليل ولا إدارة لمراقبة جودة الأدوية، وعندما كانت المنافذ والحدود كلها مفتوحة لجلب وإدخال الأدوية، و عندما كانت الصيدليات والمستودعات بلا رقابة ولا تفتيش ولا تكييف ولا معايير، وكل صيدلية عيادة قائمة بذاتها تُقدم داخلها كل العلاجات وتوصف فيها كل الوصفات، ليظهر هذا الضجيج اليوم بعد تغيير كل هذه الأوضاع التي لم يذهب تغييرها سدى وبالتأكيد حسَّن كثيرا من الوضعية، ولو لم تكن تلك الأوضاع تغيرت وتحسنت، بالموازاة مع إصلاحات وإجراءات أخرى خادمة للقطاع الصحي ومعززة لبنيته وبناه، لما أمكن الحديث اليوم عن هذه الإجراءات المتعلقة بجودة الأدوية والتكفل بالحالات المستعجلة وتوسيع التغطية الصحية.
الصحة أيضا ليست طبيبا ودواء فقط لأن ذلك هو نهاية المطاف.. بل هي أيضا غذاء وبيئة ووسط ومحيط ومناخ ومسلكيات وعادات وعقليات ونفسيات.. وهي كذلك وقاية ووعي وتثقيف ومواكبة، وصحة قاعدية تستبق وتحد من تطور وانتشار الأمراض، وفي بعض البلدان المتطورة صحيا كإسبانيا مثلا، ولست من المولعين بمقارنة بلدنا أو مجتمعنا بالبلدان و المجتمعات التي راكمت قرونا من العمل والتجارب قبلنا، وإنما أقدم هذا المثال فقط لتقريب الفكرة، فلأن الدولة الإسبانية وقطاعها الخاص يؤمنان على صحة المواطنين، فإنهما وللحد من الأمراض كخدمة اجتماعية اساسية، ولكن تخفيفا على جهات التأمين أيضا، يخصصان ميزانيات لاستباق الأمراض عن طريق تلقيح الأطفال وكبار السن ضد الأمراض الموسمية، كي لا يلجأوا غدا لتحمل تكاليف علاجهم من تلك الأمراض.
وأيضا ولوعيهم بدور الرياضة في الوقاية والصحة بشكل عام، يقومون بإنشاء وتجهيز أماكن لممارسة أنواع الرياضة بشكل مناسب ومجاني لكي لا يكون الجانب المادي هو ما يمنع الناس من ممارسة الرياضة في الأماكن التي تحتاج ممارسة الرياضة فيها إلى تذاكر ورسوم، وهم ينفقون على عمليات التلقيح وتوفير الفضاءات الرياضية وغيرها من طرق الوقاية كالتوعية الصحية ومراقبة الأغذية وتحسين المحيط بعد أن درسوا وحسبوا كل شئ، وتوصلوا إلى أن الإنفاق على هذه الجوانب له تكاليف ولكنها تظل أخف من تكاليف علاج المرضى في حالة ما إذا لم تكن هناك وقاية..
وفي بعض البلدان أيضا هناك إجبارية الفحص لسرطانات الرحم والثدي لدي النساء في كل المراكز الصحية، وذلك لأهمية الاكتشاف المبكر لهذا النوع من السرطانات الذي كلما كان تشخيصه مبكرا كانت نسبة الشفاء منه أكبر مما لو تم اكتشافه في مراحل متقدمة، وهو ما ينطبق أيضا على كل أنواع السرطانات، بل والكثير من الأمراض الأخرى كالفشل الكلوي الناتج عن أرتفاع ضغط الدم وداء السكري غير المشخصيْن في المراحل الأولى من إصابة المريض بهما، وكالعمى الناتج عن مرض ضغط العيون، ومن المهم التفكير في مثل هذه الجوانب الخادمة للصحة من زاوية أخرى، فلن تقوم بعثة صحية اليوم بحملة صحية في المدن والأرياف مثلا إلا واكتشفت الكثير من الأمراض في بدايتها والتي لم يكن المصابون بها على علم بإصابتهم بها، والتي في حالة تشخيصها مبكرا تكون مضاعفاتها على المصابين بها أقل، وتكلفة التكفل بعلاجها أخف، ندرك حجم تكاليف ذلك وندرك حجم الإمكانات، ولكننا أشرنا إليه فقط من أجل التفكير في دراسة ما يتطلبه ذلك من إمكانيات ومقارنته بتكاليف التكفل بالمرضى بعد أن يقعدهم المرض.
فلا بد لأي عملية عصرنة للقطاع الصحي من أخذ كل الجوانب المتعلقة والمرتبطة به قدر المستطاع، وليس التركيز على سلامة الأدوية فقط رغم أهمية ذلك، فلا بد من التركيز على الصحة القاعدية وعلى الصرامة في عوامل الوقاية مما باستطاعتنا الوقاية منه قدر المستطاع أيضا، ولابد من حملات التوعية والتثقيف الصحيين المكثفين والمتواصلين، ولا يجب أن نحقر أو نستهزئ بما سيحققه ذلك من نتائج، فكلنا نعرف الدور الكبير الذي لعبته مجرد الومضات والاسكتشات في الإذاعة والتلفزيون خلال تسعينات القرن الماضي حول السمنة ومخاطرها الصحية، وتلك الاسكتشات المتعلقة بصحة الفم الأسنان، فكلها لعبت دورا كبيرا وغيرت من عقليات ولقيت تجاوبا وحققت نتائج.. وقنواتنا وإذاعاتنا ما شاء الله لديها من الفراغ بحيث لا تفتح أي منها إلا وجدته يبث سهرات موسيقية أو مناظر طبيعية، وسيكون من الأفضل والأكثر خدمة للمواطن تخصيص جزء من ذلك الفراغ لبرامج واسكتشات تثقيفية توعوية في المجال الصحي والاجتماعي والسلوك المدني عموما.
ورغم أن الذهنية الموريتانية، ولأسباب ثقافية وتاريخية مفهومة، قد انطبعت فيها سمعة الأدوية الفرنسية، بحيث يكون أول سؤال من المريض وهو يشتري دواء هو هل هذا الدواء فرنسي أم لا؟ ولا شك أن الأدوية الفرنسية مشتهرة بالجودة وبالسمعة الحسنة، إلا أن هناك أيضا الإدوية الألمانية والسويسرية والإسبانية والبرتقالية الجيدة، بل وهناك الأدوية الهندية والتونسية والمغربية والمصرية والجزائرية والسورية والتركية الجيدة كذلك.. إذ ما هو الدواء؟ الدواء ليس كبريتا أحمر أو تربة نادرة لا يمكن الحصول عليها إلا من القمر أو زحل أو المريخ، فهو مجرد مواد كيميائية ومعدنية وطبيعية متوفرة في الطبيعة بوفرة يتم خلطها بمقادير محددة وفي ظروف معينة، والأساسي فقط هو أن تكون تلك المقادير وتلك الظروف مراعاة في صناعة الأدوية، وأن تكون الجهة المصنعة لها حائزة على رخصة تصنيع وشهادة مطابقة للنظم والمعايير المتعارف عليها والمحددة في مواثيق منظمة الصحة العالمية، بغض النظر عن بلد التصنيع أو الإسم التجاري للدواء الذي قد يأخذ أسماء مختلفة ولكن مواده الفعالة واحدة، وحتى مع الوثوق من سلامة المصدر الخارجي للدواء، فأن ذلك لا يغني دائما عن تحليلة داخليا أو لدى مخابر خارجية للإطمئنان أكثر.
ولأن وزير الصحة قال بالأمس في حديثه حول الموضوع إن الدولة تنوي فتح باب إستيراد الإدوية ليشارك فيه كل الراغبين من مختلف مخابر وشركات صناعة الأدوية عالميا، فعلينا أن نتوقع ظهور الكثير من أنواع الأدوية ذات المصادر المختلفة عالميا، وأن ذلك لا ينبغي أن يشكل مصدر قلق ما دامت تلك المخابر موثوقة وتحوز الرخص لصناعة الأدوية، خصوصا أن ذلك قد يساعد في تخفيض أسعار الأدوية التي تختلف أسعارها من مصادر إنتاجها رغم أنها متساوية المفعول وذلك لأسباب تجارية وتسويقية تختلف من بلد إلى آخر، وهنا أيضا، ولضمان تخفيض آخر في أسعار الأدوية، فإننا نعرف أن نسبة ليست باليسيرة من سعر الدواء، خاصة الأدوية الأوروبية، يأتي من علبة الدواء والأشكال والألوان الترويجية عليها، فإنه بالإمكان اختيار واستيراد الأدوية التي لا دور لأشكالها وألوانها وعبواتها في سعرها وهي موجودة ومتوفرة في الأسواق، ما دمنا لا نريد هذه الأدوية ل " التزين " ولا لتسلية الأطفال وإنما نريدها للعلاج..
وفيما يتعلق بأسعار الأدوية هناك أيضا الإحتكار والمضاربة بهذه الأسعار، بشكل ابتدعه الموريتانيون المشتهرون بالإلتفاف والتحايل على القوانين وتكييفها مع ما يخدمهم، فالكثيرون من أصحاب شركات استيراد الأدوية أصبحوا اليوم يمتلكون صيدليات خاصة بهم موزعة في كل أحياء المدينة وفي الولايات الداخلية يوجهون إليها كل مخزوناتهم من الأدوية لكي لا تكون تلك الأدوية متوفرة إلا في صيدلياتهم، وهذا السلوك لابد أن تنجم عنه ندرة في الأدوية لدى الصيدليات الأخرى، مما يفتح باب المضاربة بأسعار الأدوية خصوصا منها تلك التي لا تسمح الوضعية الصحية للمريض بالانتظار إلى أن تتوفر في صيدلية أخرى فيضطر لشرائها بأي ثمن!
ويلاحظ عديد المرضى وعديد الصيدليات أن بعض الأطباء يصفون أنواعا من الأدوية لا توجد إلا في صيدليات بعينها وبطريقة " كليانية " بعد التنسيق مع أصحاب تلك الصيدليات مقابل نسبة للطبيب من ثمن الدواء بقدر ما تراكم لديهم من وصفاته، وهناك أطباء يصفون لمرضاهم أدوية غالية الثمن في الوقت الذي توجد بدائل لها بنفس المفعول وبسعر أقل، هم على علم بتوفر تلك الأدوية في الصيدليات فيتعمدون وصف غيرها، أم ليسوا على علم بوجودها؟ الله أعلم. كما أن هناك أطباء يصفون لمرضاهم أدوية ليست أساسية لحالاتهم الصحية فتزيد عليهم فاتورة الوصفة، وآخرون يصفون أدوية انقرضت منذ سنوات أو أصبحت باسماء تجارية أخرى ليُرهقوا المريض طوافا بالصيدليات بحثا عنها ولن يجدها، مما يوحي بغياب التنسيق بين الأطباء وقطاع الصيدلة. فهذه أمور كلها من الضروري أخذها في الاعتبار في الاستراتيجية الصحية، ولنكن دائما على بال من براعة لوبيات كل قطاع من قطاعاتنا في طأطأة الرؤوس لكل قانون أو إجراء جديد، طأطأة رأس من في رأسه خطة بديلة جاهزة للإلتفاف على ذلك القانون أو الإجراء وتكييفه على مقاس ما كان قائما من مصالح وعائدات لتلك اللوبيات!