إرادة الشعب ودور النخبة في صناعة التغيير / محمد الهادي ولد الزين ولد الامام

يقول الحق عزّ وجلّ : {{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً..}}الإسراء 70. والصحيح أن التفضيل بالعقل الذي هو عمدة التكليف ،  وبه يُعرف الله ويُفهم كلامه ، ويُوصل إلى نعيمه وتَصْدِيقِ رُسُلِه(تفسير القرطبي الجزء10 ص 264). إلا أنه حين  يقصر العقل عن  النهوض بالمراد، وينحرف عن السبيل السوي لتحقيق غايات الأمم والشعوب في الرفعة والكرامة والفضل  وتمكين حق المتعة بالطيبات من الرزق الموفور في الطبيعة تسخيرا من الله لعباده، حينها تتنزل سنة الاستخلاف :{{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ  إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }}الأنعام 133. والاستخلاف تغيير بإرادة أو بغير إرادة ، وهو ظاهرة دائمة الحدوث تفيد الانتقال من حال إلى حال آخر مختلف ، سواء عن طريق التغيير الجذري أو التخطيط المسبق أو التدرج.

ونعني بالتغيير تلك العملية الإنسانية المركبة والمتكاملة التي تبدأ بمستوى الفرد وتنتهي عند ارتقاء الأمة بإدراك غاياتها في الحرية والعدل والرفاه.

وتبدأ عملية التغيير ب:

أولا:  بناء العقل كأساس للتفكير والتخطيط ومتابعة نتائج حلقات التحول على مستوييه الفردي والمجتمعي، - إنتاج منظومة قيم ومبادئ أخلاقية لتشكل أساس المدخل الإنساني الموجه لسلوك الفرد والمجتمع في إقامة الإصلاح والنهوض بمقتضيات العدل والنماء والعمران.

ثانيا:  تتحدد أهم أهداف عملية التغيير على أساس:

  1. التوفيق بين الدوافع الذاتية والحاجات الخاصة بالفرد من جهة وبين المصالح الضرورية والمختلفة للمجتمع.
  2. ردم الهوة تحقيقا للمساواة ، وضبط مقاييس التفاوت (الذي هو سنة من سنن الله الثابتة في خلقه) بين الأفراد على مستوى الإمكانات والقدرات والتفاضل  بينهم في المعايش وعلى اختلافهم  للتحكم في مستوى اتساع  الفوارق الناتج أصلا عن  التسلط والغبن ، أو عدم أداء الحقوق ومراعاة الواجبات.
  3. تُؤسس العولمة لحكم شمولي يسود عبر التفوق التكنولوجي، وتسارع النمو والانفجار الكمي والنوعي المعلوماتي، وعليه فإن من أهم أهداف التغيير اعتماد السلطة الخبيرة والمتفاعلة لضمان:
    • ترشيد الموارد، وشفافية التسيير، وحسن التنسيق بين فرص العرض وحاجات الطلب.
    • التطوير المستمر لهيكلة ونظم التربية والتعليم والتدريب لإنتاج أجيال من الخبرات والمهارات والمعارف مؤهلة لتستجيب للتطلعات وتواكب التطورات.
    • ملائمة سوق القوى العاملة تلبية لحاجة الكم ومراعاة لضرورة الانتشار النوعي للكفاءات من أجل تطوير مخرجات حقول الإنتاج  ودعم كفاءة الأداء في ميادين الاستثمار.

   4- إعادة تأسيس و بناء الأطر المدنية و التقليدية ، ومراجعة صياغة المفاهيم والنظم المرجعية  السياسية       والاجتماعية بشكل يضمن ولاء الناظم الجامع من الضياع بين ولاءات غير جامعة  ككيانات شخصية وانتماءات ضيقة ...الخ. ويحفز عوامل المشاركة ويعزز احترام المشترك.

ثالثا : يتطلب  ضمان تحقيق غايات وأهداف التغيير ثلاثة مطالب أساسية : وفي طليعة مطالب التغيير يأتي دور النخبة ؛ تلك مجموعة الأفراد - الأقلية غالباً – القادرين على التأثير في الآخرين بفعل مجموعة من العوامل والاعتبارات الذاتية كالذكاء والاجتهاد والطموح، والإمكانات الاقتصادية والعلمية والمهنية والوظيفية، فبفضل هذه المميزات تكتسب النخبة القدرة على لعب دور أساسي في التوجيه وصنع القرار وتغيير المجتمع.

 ثمّ المطلب الثاني : التنظيم  أي الأخذ بالأسباب الموضوعية  لتنفيذ أجندة التغيير والتي من بينها:

  • ترتيب الخطوات: و هو وضع تسلسل معين يحتوي على خطوات مرتبة. فعملية التغيير ليست عملية عشوائية تحدث بالمصادفة فهي في الواقع تحتاج إلى تخطيط وترتيب من أجل بلوغ المطلوب بالشكل الصحيح، و بحيث لا نعود لما سبق مرة أخرى.وهناك خمس خطوات أساسية  لانطلاقة مشروع تغيير ناجح هي:  التهيئة – تحديد الأهداف – وضع آلية التغيير – صياغة الخطاب – تشكيل فريق القيادة.
  • النموذج: من المفيد جدًا البحث عن نماذج من شخصيات عظيمة  رائدة غيرت العالم من حولها، لاتخاذ خطوات من سيرتها كنموذج للتغيير إذا كانت هناك أوجه تشابه  في الواقع أوفي الأهداف. فتحقيق الهدف يكون ممكنا أو سهلا عندما يكون أقرب للواقع الملموس وقابل للقياس فيعطي بذلك الأمل ويعزز فرصه في التحقيق والإنجاز .
  • الضغط المحفز : وهو أسلوب في الإقناع  يعتمد على تحديد المنطقة الفعالة  حول  من يراد تغييرهم من غير المستجيبين  بحيث يجبرون اختياريا على مسايرة التغيير عن طريق تغيير البيئة المحيطة بهم. كما يمكن أن يُستخدم لخلق تنافس إيجابي يرفع من مستوى أداء فرق العمل و حتى بين  أفراد الفريق الواحد.
  • الاستبدال: تعتبر قوة التمسك بالعادات هي أكبر ظاهرة تعيق التغيير في مجتمعاتنا، وهي التعود على شئ معين سواء صحيحا أو خاطئا،  المهم أنه  يشكل جزء من القناعة  لدى العقل اللاواعي مما يترتب عليه رفض تغييره في العقل الواعي، ولكي يتم التغلب على مثل هذه الحالة  يجب أن تُغير أو تُحذف مقومات العادة السيئة ويضاف في نفس الوقت ما يخدم أو لا يتنافي مع التغيير المطلوب.
  • الرابط الإيجابي: يجب إيجاد رابط بين هدف التغيير المراد تحقيقه وما يلامس هموم الناس  أو ينتزع ثقتهم  أو يعكس جدية المشروع بحافز أو رادع عملي .
  • المثال: في سبيل التغيير يكون دور المثال أو القدوة حاسما فالتزام الأفراد الذين يضمهم الفريق في السلوك والتصرفات في الأوقات العادية وفي أداء مهامهم كمثال للتغيير واجب وضرورة تقتضيها مشروعية وجدية مشروع التغيير.

أما المطلب الثالث فهو إرادة التغيير: وتعتبر إرادة التغيير هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف ويزيل ما قد يحول دون تحقيقه ، لأن الإرادة فعل وكل فعل حركة وكل حركة تغيير، وعبارة  ‘‘إرادة التغيير’’ تحمل شحنة يولدها تفاعل الثقة في النفس والكفاءة في الأداء،  والاستمرار والإصرار على المواصلة . ويؤكد هذا معنى المقولة:‘‘إذا كان يكفي أن نقول عن الإنسان أنه إنسان حي،  لنفهم من ذالك أنه ذو وحدة عضوية هادفة وأنه في سيره  نحو أهدافه كائن عاقل مريد وأنه في إرادته فاعل وأنه في فعله متحرك ومحرك ، متغير ومغير’’.

رابعاً:  الخطاب السياسي هو الرسالة المعلنة الصريحة للقيادي الفاعل سواء كان فردا أو نخبة أو سلطة  وهو ليس مجرد كلمات أو تراكيب لغوية، إنما هو أجندة سياسية ورؤية  إستراتيجية ومشروع أخلاقي يعكس التكوين القيمي والخلفية الثقافية لصانعيه ، ويؤدي أدواراً  سياسية واتصالية أساسية في صناعة الوعي وبيان الإستراتيجية وآليات تطبيقها وهو أداة الإفصاح عن غايات المجتمع ، وهو من حيث المصدر: رسمي ، أو مدني ، أو واقعي، ومن حيث الغرض : توجيهي ،أو إصلاحي ،أو تغييري.

فما هي خصائص خطاب التغيير السياسي؟

يتميز خطاب التغيير السياسي بجملة خصائص من أهمها:

  • ارتباط المضمون بقضايا المجتمع من خلال تصورات مقنعة لمعالجة القضايا الكبرى ووصفات ناجعة لحل تعقيدات الواقع المعاش، وإبراز حقوق المواطنين وواجباتهم.
  • اعتماد أساليب الاستدلال والبرهنة قصد تحقيق غاية الإقناع ودعم الثقة.
  • جاذبية  الأسلوب ودلالة المنطق في لغة التعبير عن الارتباط بخدمة مصالح الأمة وغاياتها للتأثير في المتلقي فكريا وعاطفيا.
  • اعتماد الأسلوب الإخباري وصيغ الأمر قصد التأهيل النفسي والتأطير المعرفي لتعزيز البناء  المادي والمعنوي في المجتمع.
  • الصدق في الالتزامات الصريحة والوفاء بالتعهدات المعلنة لضمان شفافية التعاطي وتأكيد مصداقية التغيير.

خامساً القيادة وإدارة عملية التغيير:  حاجة المجتمعات  لقيادتها  في التسيير والتغيير كحاجة  الإنسان في حياته للعقل والتفكير،  ومكانة القائد في نظام الكيان المجتمعي كمكانة الدماغ في جسم الفرد البشري. والمجتمع البشري عبر مسيرته خلال آلاف السنين المليئة بالتحولات والتغيرات، عرف سلسلة من أنظمة الحكم وإدارة الشأن. تنقسم  من حيث المرجعية إلى قسمين : قسم يستند في مرجعيته إلى توجيه وحي الخالق وأحكام أصول شرائعه وهو نوعان : نظام حكم وإدارة تغيير بقيادة الأنبياء والرسل يعتمد في تشريعه وممارساته على التوجيه المباشر للوحي الإلهي: {{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ }}البقرة 213. ونوع  شوري عرفه صدر الإسلام يعتمد في تشريعه على أصول شريعة الإسلام (المحجة البيضاء) وفي ممارساته على اجتهاد  علماء ورشداء الأمة و القياس على المزكي من التجارب طبقا لمحددات قيمية وأخلاقية إنسانية رفيعة  {{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور}}الحج41. 

والقسم الثاني يستند في مرجعيته على أهواء فردية وتشريعات وضعية، وهو أيضاً نوعان : نظام حكم بقيادة فرد مستبد يعتمد في تشريعه على هوى الحاكم ورغباته . {{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}}غافر 29. ونظام حكم ديمقراطي يعتمد في تشريعاته على دساتير وضعية تختلف باختلاف الرؤى والمصالح الخاصة للتكتلات والتجمعات ، وفي ممارساتها على مبادئ وأخلاقيات غير مقيدة بناظم عقدي أو مشترك إنساني مرجعيتها: الشهوة الجنسية وغريزة العدوانية (على رأي افر ويد).{{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}}مريم 59.

فما هي المؤهلات والكفاءات المطلوبة لقادة وطواقم فرق إدارة التغيير؟

وللجواب على هذا السؤال يُستحسن الاستئناس بآراء تتناول تقييم بعض قادة أنظمة الحكم  في تجربة نظام الشورى في الإسلام لإبراز نماذج من ميزات وصفات الكفاءة والأهلية المطلوبة للقيادة في ذلك النموذج الإسلامي، ثم استخلاص أهم مطالب وشروط نجاح نقل تجربة النظام الديمقراطي الغربي ومدى قابلية استجابته لتلبية مطالب التغيير في العالم العربي.   

قيل لأبي السبطين علي كرم الله وجهه ، ألا تستخلف علينا ؟ قال: ((ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف! ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم)) http://www.fnoor.com.

 ولكي نكتشف صفات الأهلية والكفاءة عند من وصفهم علي رضي الله عنه بأنهم خير من اجتمعت عليه الناس بعد نبيهم وهو يقصد – طبعا – أبو بكر الصديق  أول من حكم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب  الذي حكم بعد أبي بكر- سنرى إذاً رأي المؤرخين والمفكرين الأوربيين في هاذين القائدين حيث  يقول المؤرخ والكاتب الأمريكي واشنطن إيرفينج في كتابه "محمد وخلفاؤه" عن أبي بكر:

(لقد كان رجلاً حُكمه عظيم، يقظاً حذراً، إدارياً بارعاً، أهدافه ومقاصده صادقة وغير أنانية، وموجهة نحو مصلحة القضية وليس نحو مصلحته الشخصية، وخلال فترة حكمه لم يخن شيئاً من أمور الدنيا الخسيسة، وكان لا يبالي بالثراء والبذخ والرفاهية، ولم يَقبل أي أجر مقابل خدماته، إلا مبلغاً زهيداً كافياً ليعيش حياة عربية من أبسط أنواع الحياة، ... وكان دائماً على استعداد بأن يساعد المفجوعين والمكروبين من ماله الخاص.)

وقد ورد في الموسوعة البريطانية "بريتانيكا" ترجمة موسَّعة لأبي بكر، في خلاصتها:

(أبو بكر، يسمى أيضاً: "الصديق"، هو الصاحب الأقرب للنبي محمد ومستشاره، وهو الذي خلف النبي في وظائفه السياسية والإدارية، ...استطاع المسلمون في المدينة حل أزمة الخلافة باختيار أبي بكر خليفةً للنبي محمد. وخلال حكمه (632م-634م)، تمكن من قمع الانتفاضات القبلية السياسية والدينية المعروفة باسم "الردة"، وبالتالي إخضاع الجزيرة العربية تحت الحكم الإسلامي. وبعد ذلك، شرع بالفتوحات الإسلامية في العراق وسوريا).

وعن عمر بن الخطاب يقول المؤرخ الأمريكي واشنطن ايرفينجفي كتابه "محمد وخلفاؤه":

(إن تاريخ عمر بالكامل يظهر لنا أنه (عمر) كان ذو عقليّة فذّة، ونزاهة ثابتة صلبة، وعدالة صارمة، ... وواضعا ومؤسسا للأنظمة واللوائح التي تنظم إدارة القانون عبر حدود وأنحاء الفتوحات الإسلامية الممتدة بسرعة، وقد كانت (سياسة) اليد الصارمة التي تعامل بها مع قادة جيوشه الأكثر شعبية في خضم جيوشهم وفي أبعد مشاهد إنتصاراتهم، أعطت (هذه السياسة) دليلا بارزا على قدرته الاستثنائية على الحكم).

ويقول المستشرق الإسكتلندي وليم موير في كتابه "صعود وانحدار الخلافة":

(..إن القبائل والجماعات المختلفة في أنحاء الإمبراطورية، والتي تمثل المصالح الأكثر تنوعا، قد وضعت في نزاهته الثقة المطلقة، وقد أبقت قبضته القوية على انضباط القانون والإمبراطورية... كان يجوب شوارع وأسواق المدينة وسوطه بيده، جاهزا لمعاقبة المفترين فورا، وهكذا ظهر المثل "أن درّة عمر (سوطه) مهاب أكثر من سيف غيره". ولكن مع كل هذا، فقد كان رقيق القلب، وسجّلت له أفعال من الشفقة والرحمة لا تعدّ مثل مواساة وتخفيف حاجات الأرامل واليتامى.." ).

وفي كتاب "تاريخ أفول وسقوط الدولة الرومانية"، يخلص المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون- في تقييمه لحكم عمر بن الخطاب- إلى ما نصه :

(... خلال خلافته (عمر) ومن سبقه (أبو بكر) فقد كان فاتحو الشرق هم عبيد الله المخلصون، كانت الثروات المجتمعة مكرّسة للنفقات، للحرب والسلام، في مزيج حكيم من الغنيمة والعدالة. حافظ هذا على اتحاد وانضباط أهل الصحراء عن طريق سعادة نادرة كوّنت توازنا بين تنفيذ الحكم المطلق والحكم الجمهوري من خلال ثوابت متساوية للكل.

يقول حسام شاكر وهو باحث متخصص في الشؤون الأوروبية: ((إدراك التجارب على بصيرة لا يتحقق بالاقتصار على نتاجها والسعي لاقتطاف ثمارها الناضجة، بل يتطلب المسعى تشخيصَ شروطها ومقدماتها، والوعيِ بظفرياتها وملابساتها، واستشراف تفاعلاتها ومآلاتها )).

والتجربة هي مجموعة المعارف والخبرات التي يكونها الإنسان في علاقته المباشرة مع الواقع ، فينتج عنها الإتقان ومعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر.

 والتجربة منهج علمي حث القرآن الكريم على الأخذ به كوسيلة لإدراك الحقائق عبر مختلف مناكب الكون :

{{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}} ﴿٤٦ الحج﴾

{{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}} ﴿٩ الروم﴾

{{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}} ﴿٢٠ العنكبوت﴾.

 إلا أنه من الطبيعي أن يختلف ناتج التجربة حسب اختلاف واقع وأوضاع الناس وبيئاتهم ومقاصد إرادة التغيير لديهم...  فما هي أهم مطالب وشروط نجاح نقل تجربة النظام الديمقراطي الغربي ومدى قابلية استجابته لتلبية مطالب التغيير في العالم العربي؟

إن عدم قابلية المجتمعات العربية للديمقراطية، وقدرة أنظمتها التسلطية والشمولية الدائمة على البقاء، وحتمية الارتهان لموازين القوى الدولية في التحوّل الديمقراطي، سمات كلها ظلت وحتى وقت قريب من المسلمات لدى النخب السياسيّة، والفكريّة، والثقافيّة.

لكن أحداثا تلاحقت بعد توحيد برلين... فكان للأتساع الأفقي والعمودي لحجم الأضرار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المترتب عليها عربيا والناجمة عن انفراد الولايات المتحدة الأمريكية في الساحة الدولية كلاعب منفرد ومنحاز ضد القضية العربية ، وإحكام قبضة الأنظمة المحلية على ‘‘الشعوب’’ العربية  المغلوبة على أمرها والخاضعة بفعل الإذلال واستباحة الأعراض ونهب الخيرات وقهر الشباب، كلها عوامل أدت بمجملها إلى انتفاضة 2011  أو ما يعرف بالربيع العربي ، ورغم سلمية مسعى الانتفاضة الشعبية إلا أن ردة الفعل المعاكسة من طرف القوى الحليفة للغرب والقوى المستفيد من تردي الوضع العربي كانت عنيفة وقاسية، رافضة كسر قيود القهر والإذلال تلك. فأعاد ليل الواقع العربي إرخاء سدوله  منذرا بمزيد من أنواع الهموم...ولسان حاله يقول: لا فائدة من الاستجداء –إذاً- تُرجى.

ولأن الشعب كان قد أراد فمن ذا الذي عليه أن يستجيب...؟ أو هكذا فكر البعض ممن يلتمسون الحل...

فهل الحل في استدرار العقل وتشخيص الواقع العربي  لإصدار نسخة محلية الصنع (إنتاج عربي خالص) ؟ إلا أن هذا الحل- رغم قدرة العقل العربي على الإنتاج -  مستبعد لعوامل من أهمها:

      •  تأخر العالم العربي على مستوى سلم التقدم العلمي والتكنولوجي الكوني.
      • هيمنة النظام الشمولي للعولمة وسيطرت واقع القرية الكونية.

أم أنه  حين يتأتى  إدراك التجارب  بالسعي  لتشخيصَ شروطها ومقدماتها، والوعيِ بظفرياتها وملابساتها، واستشراف تفاعلاتها ومآلاتها قد يكون الحل في استنساخ شكل من أشكال أنظمة الحكم الديمقراطي الضامنة للاستقرار في الغرب ولو كانت مصممة أصلا على مقاس العقل وتضاريس الواقع الغربي؟...حيث نرى أن المجتمع العربي في سبيل الأخذ بخيار هذه التجربة  ينقسم إلى ثلاثة مستويات : المستوى الأول أراد الشعب فاستجابت قيادات نخبوية كانت قد نجحت في مسارها الوظيفي وتجربتها المهنية،  وهكذا بدأت ملامح التسوية السياسية والاجتماعية تنح منحى التغيير بتجاوز الأطر التقليدية والخروج على مألوف وصاية القبيلة والجهة ولأسر الحاكمة . ويأتي في هذا المستوى النموذج الموريتاني والتونسي،  فكل من محمد ولد الشيخ الغزواني وقيس سعيّد مع تشابههما في صيغ الترشح حيث ترشح كل منهما من خارج أي حزب سياسي، معتمدا على زخم تراكمي لتجربة مهنية ناجحة ومبادرات وكتل جماهيرية  وشبابية التفت حوله بدافع الأمل والرغبة في التغيير-  كانا أيضاً  يشتركان في خصائص الخطاب السياسي من حيث اللغة والمضمون .

وفي المستوى الثاني: تقع بعض الشعوب التي أرادت التغيير فرفضت أنظمتها القيادية ومازالت تصارع من أجل التغيير رغم ما تعانيه في سبيل ذالك.

وفي المستوى الثالث: شعوب لم ترد التغيير بعد ومازالت بفعل عوامل مختلفة خاضعة لأنظمتها شمولية 

ومهما يكن خيار التغيير فإن كل مجتمع يجب أن يشكل المصمم الرئيسي لشكل تغيير واقعه... {{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم }}الرعد:11.

محمد الهادي ولد الزين ولد الامام

رئيس مصلحة بالمجلس الأعلى للفتوى والمظالم

8. أكتوبر 2019 - 17:40

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا