نبع السلام هو الاسم الناعم الذي أطلقته القيادة التركية على العملية العسكرية التي أرادتها صلبة ومظفرة ضد "قوات سوريا الديمقراطية ", أما من سينفذ العملية فهي قوات الجيش التركي الذي وصفه الرئيس أردوغان "بالمحمدي" ،رفقة قوات الجيش الوطني السوري المعارض، وما يعد به الزعيم التركي اللاجئين السوريين الذين ملوا وعثاء المنافي ،هو تشييد عشرة مناطق كبرى ومائة وأربعين قرية سكنية لإيوائهم في موطنهم الأم ،حيث نبع السلام النفسي وسكينته الدائمة، أما ما ينتظره مواطنوه من الأتراك فهو تحقيق حلمهم المشروع في القطع وإلى الأبد مع أربعين عاما من إرهاب أل "pkk"،الذي أزهق ما لايقل عن أربعين الف نفس من أرواح الأبرياء، خلال تلك العقود الأربعة .
فحيح النفاق الدولي :
ما إن أعلنت القيادة التركية عن إطلاق عمليتها العسكرية تلك في الشمال السوري حتى انهالت عليها الاتهامات والانتقادات بل والتهديدات من أكثر من طرف دولي هنا او هناك ،علاوة على الانتقادات والتحفظات الصادرة عن بعض دول الجوار الإقليمي ،ووسط زخم ذلك النفاق والتملق المصطبغ بسياسة الكيل بمكيالين في أكثر احيانه، مضى الأتراك في شق طريقهم غير آبهين لتلك الأصوات والتي ما كانت لترتفع نبرتها بنفس الحدة والتوافق في فاصلة التوقيت لولا أن المهاجمين هم الأتراك وقيادتهم الحالية والطرف المستهدف بالهجوم هم الأكراد.
لقد كان الرئيس التركي على حق تماما ،حين دعا أحد تلك الأطراف المنتقدة للعملية وهو النظام السعودي إلى ضرورة مطالعة وجهه في المرآة ،قبل تقديم النصائح إلى الآخرين حول ما يتوجب فعله إزاء الجيران ،فمنذ متى أصبحت السعودية تعطي لغيرها دروسا في وجوب احترام حقوق الإنسان ،وقدسية حقوق الجوار، وحق الشعوب في العيش الآمن ضمن حدودها المعترف بها دوليا ،وما الشقيق اليمني ببعيد ،الآن فقط أصبحت سوريا بلدا "ذا سيادة "،واصبح الدخول عنوة إلى أراضيها "عدوانا " ،وتمويل المرتزقة من شذاذ الآفاق لزعزعة استقرار نظامها السياسي بمثابة "تعد سافر على وحدة واستقلال وسيادة أراضيها" (على حد تعبيرلغة البيان السعودي بخصوص العملية)-؟
أين كانت هذه النخوة العربية وصحوة الضمير المفاجئة ،حين كان مئات آلاف اللاجئين من نساء واطفال سوريا يهيمون على وجوههم بحثا عن ملجأ آمن يحتمون به من حمم طائرات الأسد وحلفائه من الروس ،بينما كان السعوديون يحكمون جيدا إغلاق جميع منافذهم البرية والبحرية والجوية في وجه من قد تسول له نفسه من السوريين التفكير في الاستنجاد بحمى خادم الحرمين الشريفين ؟
وفي المقابل كان الأتراك حكومة وشعبا يفتحون قلوبهم قبل منافذهم الحدودية لاستقبال أولئك وايوائهم والتكفل بمختلف مستلزماتهم ،بما في ذلك مخيمات الإيواء إلى جانب الغذاء والصحة والتعليم ،دون أدنى تبرم او ضجر رسمي من اعداد النازحين التي تجاوزت عتبة: الثلاثة ملايين وستمائة الف لاجئ ،يتمتع أغلبهم بما يعرف بوضع "الحماية المؤقتة"، وما يمنحه من امتيازات لأصحابه ،وقد دفع حزب" العدالة والتنمية " الحاكم فاتورة ذلك الإيواء من رصيده الشعبي ،حين تمكن خصومه السياسيون من اللعب بورقة المهاجرين السوريين، وتوظيفها بشكل سلبي ضده ،ما ساعدهم سياسيا على الاستحواذ على بلديتي "اسطنبول وأنقرة"، حيث استضافت الأولى أكبر عدد من النازحين ،فكانت الخسارة فيها للحزب اعظم.
تركيا: والمخاوف المشروعة:
جعلت الحكومة التركية من تخضيد شوكة ما تعرف ب"قوات سوريا الديمقراطية" وفصيلها الرئيس "وحدات حماية الشعب الكردي " والمشكلة للجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ،أحد الأهداف الرئيسية لعملية :"نبع السلام"، إضافة إلى إنشاء منطقة آمنة بالشمال السوري ،تقطع خطوط إمداد كل من الأكراد و داعش على الحدود الجنوبية لتركيا ،وتوفر حاضنة دافئة لعودة وتوطين اللاجئين السوريين في أراضيهم ،بعمق يصل ثلاثين كيلومترا ،وطول يمتد على مسافة أربعمائة واثنان وعشرين كيلومترا ،هي الامتداد الطبيعي للحدود التركية السورية، دون مساس بالتركيبة الاثنية القائمة ،عكس ما تروج له القوى المعادية للتدخل التركي .
وعلاوة على المبررات القانونية لهذا التدخل والتي تجد سندها وفق المندوب التركي الدائم لدى الأمم المتحدة في المادة :51 من الفصل السابع من ميثاق المنظمة ،وهي تكفل للدول الأعضاء حق الدفاع عن النفس في حال تعرضها لاعتداء مسلح ،دون الحاجة للرجوع إلى مجلس الأمن، كما هي حالة تركيا –كما سيتبين لاحقا -كما يستند الأتراك في تحركهم كذلك على بنود" اتفاقية أضنه " الموقعة :1998 مع الأسد الأب ،حيث ينص أحد بنودها على عدم السماح باستخدام الأراضي السورية منطلقا لشن هجمات على الأراضي التركية ،فيما يمنح بند آخر الطرف التركي ممارسة حقه المشروع في الدفاع عن النفس...
عدا تلك المسوغات القانونية ،فإن مبررات تركيا واضحة جدا فيما يتعلق بالحق المكفول في حماية "أمنها الاستراتيجي" ،علاوة على الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الكيان السوري المهدد بطموحات الأكراد ومساعيهم لإقامة حكم ذاتي او حتى الانفصال في كيان كردي مستقل بمظلة امريكية-سعودية (حيث تقوم الآن بمباركة الطرفين إدارة كردية محلية للحكم الذاتي لشمال وشرق سوريا)،وهو ما تحاول تركيا جاهدة الحيلولة دون استمراره فيما تقابل مساعيها تلك بالكثير من الريبة والتشكيك في نياتها ومراميها الحقيقية من وراء عملية "نبع السلام" الحالية ،ومن قبلها غصن الزيتون .
لم ينس الشعب التركي بعد ما عاناه طوال الأربعين عاما الأخيرة ،التي حصد فيها إرهاب "حزب العمال الكردستاني "(المعروف اختصارا ب:pkk ) ما يناهز الأربعين ألفا من أرواح الأبرياء مدنيين وجنودا ،والتي كان عام الانقلاب الغادر :2016 اكثرها عنفا ودموية ،حين تبادل فيها التنظيمان الإرهابيان :"داعش "و"حزب العمال الكردستاني" المواقع والأدوار ضربا وتفخيخا للمرافق الحكومية ،ومحطات النقل ،وقاعات الأفراح، والمطارات، ونقاط العبور الحدودية...
ليترتفع في ذلك العام وحده عدد الضحايا إلى:260 قتيلا ،والجرحى إلى:923 مصابا ،فمن إذن يعاني من ارهاب من ؟
وفي كل مرة كان الأمن التركي يثبت فيها تورط أل"pkk" في تلك العمليات ،كانت أصابع اتهامه تشير كذلك إلى ضلوع نسخته السورية ،الاتحاد الديمقراطي الكردي ،رفقة ذراعه العسكرية (ypg),وتستند مصادر الأمن التركية في هذا الصدد إلى أدلة استخباراتية قوية ومقنعة تعزز من فرضيتها المتعلقة بالإرتباط العضوي بين التنظيمين الكرديين ،منها مثلا أن القائد الحالي "لقوات سوريا الديمقراطية" (المعروفة اختصارا ب"قسد ")،هو الجنرال :عبدي شاهين جيلو، الملقب بمظلوم كوباني والذي انظم إلى حزب العمال الكردستاني (التركي) قبل ما يناهز الثلاثين عاما ،وعمل في المقر المركزي لقائده عبد الله اوجلان ،وارتقى إلى عضوية اللجنة التنفيذية للحزب ،وتقليد منصب المسؤول عن القوات الخاصة له ،إلى غاية اندلاع الثورة السورية، حيث دخل سوريا وسرعان ما امسك بملف المفاوضات مع الأمريكان منذ العام 2014 والتي أسفرت وبتشجيع منهم عن تأسيس ما تعرف ب"قوات سوريا الديمقراطية " فاتح اكتوبر 2015،لتحظى منذئذ بدعم قوات "سنتكوم " الأمريكية ،وقد فضح المتحدث السابق باسم قوات سوريا الديمقراطية العقيد :"طلال سلو"، المنشق عن "قسد" العلاقات المشبوهة لشاهين جيلو ،مع الأمريكان ومراميه السيئة لتجزئة الكيان السوري ،إذ اوضح أنه يحتفظ لنفسه بملف تنسيق الدعم العسكري الأمريكي" لقسد"، دون تمكن بقية اعضاء المجلس العسكري الصوري لقوات سوريا الديمقراطية من الاطلاع على حقيقة ما يجري ،إلى جانب وضعه شروطا قاسية واستفزازية مسبقة للقبول بأية عملية تفاوض يمكن أن تنشأ مع النظام السوري ،كاشتراطه اعتراف الأخير بالإدارة الكردية القائمة بشمال وشرق سوريا ،والإعتراف بخصوصية "قسد"، ومسؤوليتها الكاملة عن الملف العسكري والأمني في كل مناطف الإدارة الذاتية الكردية ...
بعد كل هذا نجد من لايزال يصر على أن العملية العسكرية التركية الحالية إن هي إلا نوع من الغزو والتنمر على الجار الضعيف، و ينكر على تركيا حقها المشروع في حماية أمنها القومي في وجه ميليشيا إرهابية عابرة للحدود وتنفذ أجندات أجنبية مشبوهة ،ليس أقلها تجزئة الكيان السوري إلى "كانتونات عرقية" وفق مخططات نتنياهو المسربة ،وكأن تلك المليشيات هي من يحمي خاصرة سوريا الرخوة ،ويحافظ على وحدة وسلامة أراضيها عبر التخابر مع الأمريكان واحتضان رجال ابن سلمان وتسويق مشروع سيدهم ،السيئ الصيت لدى قيادات ومشاييخ المكون العربي السني المتحالف اضطرارا لا اختيارا تحت تهديد البندقية مع تلك القوى اليسارية المشهورة بشوفونيتها واستلهامها لأفكار القائد الكردي الانفصالي المدموغ رسميا بالإرهاب عبد الله اوجلان، إلى جانب ثاراتها التاريخية المعروفة مع مكونات الجوار من عرب ،وشركس ،وتركمان، وسريان.