لم تكن أربع ساعات كافية للفريق الحكومي لترتيب رواية تمتلك الحد الأدنى من الإقناع لتقديمها للرأي العام حول حقيقة ما تعرض له الرئيس الموريتاني الجنرال محمد ولد عبدالعزيز مساء السبت في مكان ما من نواكشوط أو ضواحيها أو ربما في حدائق القصر الرمادي ..
فقد كانت الرواية مفككة ومثيرة للشغف والشفقة في آن.
الرئيس تعرض لطلق ناري من جهات صديقة عن طريق الخطأ، إصابته في اليد وخفيفة وحالته مستقرة تلك هي الخلاصة الأساسية للرسالة التي بثها وزير الاتصال الموريتاني على أمواج وسائل الإعلام الحكومية بعد ساعات طويلة من الانتظار لمعرفة حقيقة ما تعرض له الجنرال الذى وصل مع حلول الظلام للمستشفى العسكري مع مرافق وحيد والدماء تنزف منه وفق ما أكدت مصادر متطابقة.
أي نيران صديقة هذه التي أصابت الرئيس وهو يسلك طريقا اعتاد سلوكه بشكل أسبوعي وفق ما هو معروف لدى عامة الناس أحرى دوريات الجيش وبالذات منها تلك الموجودة في قاعدة الطويلة التابعة للحرس الرئاسي؛ الجهاز الذى صنعه الجنرال على مدى عقدين من الزمن ،وكيف يمكن الجمع بين بساطة الإصابة وعلاجها في المستشفى العسكري.
لقد كانت تلك الهفوات الشكلية كفيلة بحرمان الرواية الرسمية من الحد الأدنى من المصداقية الضرورية لتأخذ دورها ضمن سيل الروايات والشائعات والتحليلات والتسريبات والتمنيات التي ملأ ت الفضاء الموريتاني منذ أن نشر الخبر في حدود الساعة التاسعة من مساء السبت.
لاتستقيم رواية " النيران الصديقة عن طريق الخطأ " لاعتبارات كثيرة من بينها:
- أن مصادر متطابقة رأت السيارة التى أقلت الرئيس إلى المستشفى ولم تكن بها أية آثار لرصاص والطبيعي لو كانت الرواية الرسمية صحيحة أن تكون " النيران الصديقة " هشمت السيارة قبل أن تستقر في جسم الرئيس.
- بحسب المصادر الطبية الموثوقة فقد استقرت رصاصتان في جسم الرئيس الأولى في الصدر والثانية في الخاصرة وجلي أن المكانين لايمكن أن تصل إليهما رصاصة قادمة من خارج السيارة الرئاسية.
- من أبجديات الانضباط العسكري والثقافة المدنية ، التوقف للحواجز العسكرية والأمنية لذا فمن غير الممكن تصديق أن الجنرال الذى نشأ في كنف العسكر يمكن أن يتجاوز بهذه البساطة حاجزا عسكريا دون توقف .
- ليست المرة الأولى التي يسلك فيها الجنرال الطريق الذى تقول رواية " النيران الصديقة عن طريق الخطأ " إنه أصيب فيه فهو كثير المرور منه إلى الضيعة المثيرة التي يخرج إليها بشكل دائم نهاية كل أسبوع، فسياراته التي يستقل وسبله التي يسلك معروفة لدى الدوريات والحاميات وأصحاب الحواجز بل حتى لدى أصحاب المحلات الصغيرة وبائعى الألبان على طريق أكجوجت.
هكذا إذا يتضح أن الرواية الرسمية لاتملك أي مستوى من القابلية للتصديق، وهو ما يفسر كونها فتحت الباب أمام الشائعات والتأويلات بدل أن تكون أساسا لتقديم أجوبة عن السؤال الذي يبحث له جميع الموريتانيين عن جواب فلايجدونه ما الذى جرى بالضبط مساء السبت وأين وما هي الجهات التي تقف وراءه وكيف ستكون تداعياته على المشهد الموريتاني ؟؟؟
وقبل تقديم إجابات على الأسئلة السابقة يبرز سؤال فرعي وهو لما ذا لم تذهب الرواية الرسمية إلى تحميل جهات خارجية في القاعدة أو المنسقية مثلا مسؤولية الحادث فتكسب مقابل ذلك تعاطفا خارجيا وداخليا أكبر..؟
الواقع أن اعتراف النظام الموريتاني بأن القاعدة او جهات داخلية كانت وراء الحادث يحمل رسائل قاتلة ليس للرئيس المصاب الجنرال محمد ولد عبدالعزيز وحده بل لمجمل المنظومة الأمنية والعسكرية المحيطة به فقد سوق الرجل نفسه خارجيا على أنه " بطل الصحراء " القادر وحده على مواجهة الإرهاب وأن حروبه الوقائية أبعدت الإرهابيين خارج الحدود فحين يأتي ويعلن دون سابق إنذار أن الإرهابيين وصلوا حتى للموكب الرئاسي معنى ذلك أنه يطلق " النيران الصديقة " على نفسه ونظامه بطريقة مباشرة قد لاتجدي معها الاسعافات المحلية ولاحتى تلك القادمة من باريس وماحولها.
من أطلق النار على الرئيس إذا ذاك هو السؤال الذي اجتهدت رواية " النيران الصديقة عن طريق الخطأ " لتغييبه لكنها لم تفلح، وفي انتظار أن تتضح الصورة أكثر خلال الأيام القادمة يمكن أن نقول تأسيسا على المتوفر من معطيات ومؤشرات أن واحدا من ثلاثة "سيناريوهات" يبدو الأقرب لفهم حقيقة ماجرى.
- السيناريو الأول أن يكون الأمر جزء من مخطط انقلابي يطمح أصحابه للولوج إلى السلطة من ذات البوابة التي ولج منها أسلافهم منذ العاشر من يوليو 1978، ومما يعزز من احتمالية هذه الفرضية أن تسريبات تتحدث منذ فترة عن تذمر متنام داخل أوساط المؤسسة العسكرية وخاصة بين أوساط الأجيال الشبابية التى تعتبر أن هناك طبقة عسكرية من كبار الجنرالات والعقداء تهيمن على كل شيئ وتقطع الطريق أمام أية فرص للترقية والتطور والتطوير.
السيناريو الثاني هو سيناريو الثأر والإنتقام فمن المعروف أن النظام الحالي نجح بشكل لافت في إيجاد عداوات مريرة مع عدد من الجهات الاجتماعية والمالية تبدأ من دائرة من يعتبرون أنفسهم أصحاب الفضل والمنة عليه من دخوله للمؤسسة العسكرية لغاية تنصيبه " رئيسا منتخبا" بعد انقلاب2008 ولاتنتهى بدوائر أخرى عديدة وجدت نفسها في عين العاصفة خلال السنوات الماضية مستهدفة في مالها وعرضها وحاضرها ومستقبلها.
وثالث السيناريوهات هو سيناريو القاعدة التى تجهر منذ سنوات بأن عدوها الأول في المنطقة هو الرئيس الموريتاني الجنرال محمد ولد عبدالعزيز المصنف قاعديا على أنه المنفذ الأول للأجندات الفرنسية في المنطقة، ولعل الجميع يتذكر أن القاعدة استقبلت عزيز بعملية السفارة الفرنسية، وأن عملية الرياض كانت تستهدف وفق بيانات القاعدة رأس الرئيس ولد عبدالعزيز وأن الجيش الموريتاني توغل في مالي مرات عدة مطاردا لعناصر القاعدة وساعيا لتحرير الرهائن الفرنسيين .
أيا يكن مطلق رصاصات الثالث عشر من أكتوبر، ومهما تكن الآثار المترتبة عليها – نتمنى أن تكون خيرا للبلد ورئيسه وأمنه - يبقى من الأكيد أنها ستترك أثرا عميقا في المشهد السياسي الموريتاني بل لعلنا لانبالغ إن قلنا إن زمنا جديدا قد بدأ بالفعل ليس لأن الموقع الرئاسي في حالة شغور ولو مؤقت بل لأن العملية حملت معها مؤشرات أو إنذارات عميقة لاينبغي أن يشغلنا عنها تهافت الرواية الرسمية و لا كثافة الروايات الشعبية، ومن هذه المؤشرات المنذرة.
- أن موريتانيا التي عرفت في تاريخها الكثير من العمليات الانقلابية المنجزة والفاشلة والمجهضة لم تعرف من قبل استهدافا بالرصاص – ولو كان صديقا – لرئيس الدولة، والمؤشر هنا واضح أن انقلاباتنا السابقة كانت تستهدف الأنظمة، أما انقلاباتنا الجديدة فتستهدف – فيما يبدو – رأس النظام نفسه، ولقائل أن يقول إن للأمر علاقة بحالة الشخصنة الطاغية التي طبعت النظام الحالي.
- أن الإيغال في المقاربة الأمنية وتحويل الجيش ومقدراته إلى وسائل لتنفيذ أجندات أجنبية لايمثل فقط خطراعلى البلد، وتفريطا في المسؤوليات الدستورية الخاصة بالمحافظة على سيادته، لكنه يمثل أيضا تهديدا مباشرا للسلامة الجسدية للمنخرطين فيه، يمكن هنا أن نلاحظ أن لانخراطنا في الحرب بالوكالة علاقة ما بحادثة الرئيس ؛ بحسب الرواية الرسمية الجيش المستنفر أطلق النار في سيارة رفضت التوقف، وبحسب التحليلات الأخرى فالعلاقة قد تكون أكثر مباشرة وعمقا.
- أن موريتانيا المنهكة بأزمات اجتماعية وإنسانية واقتصادية وسياسية عميقة والمطلة على منطقة تغلي بالعنف والإرهاب والجريمة المنظمة، تحتاج من نخبتها – أيا يكن موقعها في الحكم أو المعارضة - صحوة ضمير تنقذ الوطن من الدرك السحيق الذى أوصلته له عقود الحكم العسكري العجاف ، وتعبر به إلى شاطئ العدل و الحرية والتنمية فهو لم يعد يحتمل المزيد من النيران حتى ولو كانت صديقة وعن طريق الخطأ.