كشفت التجربة التونسية عن خلل عميق، ميز تقييم نخبتها السياسية للمزاج الشعبي، وعن عتمة أصابت رؤيتها للواقع التونسي، أبعدتها عن نبض الشارع وعن خياراته الجوهرية، وذلك بفعل التكلس الذي عاشته السلطة والنخب المؤيدة والمعارضة على حد سواء، وانشغالهما بالصراع البيني على الكعكة، حيث استفاق الجميع على صدمة الصندوق الانتخابي، الذي عرى الجميع، ونسف النماذج الكرتونية، التي سعت إلى تكريس زعامتها لشعب اعتقدت أنه قاصر وأن بوسعها التفكير وممارسة الفعل السياسي نيابة عنه.
هذا عن تونس، لكن ما ذا عنا نحن في موريتانيا، التي تفاخر بتبادلها السلمي على السلطة، ويتباهى جزء من نخبتها بأنها تعيش اليوم تحولا ديمقراطيا، كفيلا بانتشالها ووضعها على السكة الصحيحة، دون توضيح أو تقديم دليل مقنع ، في حين يرى البعض الآخر أنها بلد يعيش على حافة الهاوية وقابل لكل الاحتمالات، اعتمادا على إفرارازات ممارسات الأنظمة المتعاقبة؟
فبأي آلية يمكننا أن ننتشل بلدنا من وحل الفساد والمحسوبية واللادولة؟ وما هي أنجع الطرق لتحقيق تنمية بشرية حقيقية؟ وأي نموذج سيكفل لنا إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تنقذ بلدنا وتؤسس لمستقبل واعد؟
هل لا زال نموذجنا التقليدي هو خيارنا الوحيد المتاح- رغم أنه أضحى مثل الخرقة البالية، شوه صورة بلدنا، وكرس تخلفه على جميع الأصعدة وزرع بذور التفكك الاجتماعي وأثار البغضاء بين مختلف مكوناته، وشكل سدا منيعا أمام انتقالنا من سلطة عرجاء إلى دولة، تضمن المواطنة المتساوية؟
نموذج جربنا خلاله جميع نماذج بنيات ما قبل الدولة، حيث اقتصرت حلوله على المهدئات والآنية والارتجالية والزبونية.. تحول في ظله المرفق العمومي إلى ملك خصوصي للقائمين عليه.. نموذج غيب المحاسبة وكرس الضباببية وأجهز على الروح الوطنية واستبدل المستقبلي بالآني، وجعل الولاء بديلا عن الكفاءة، .. لذا انتهى إلى طريق مسدود، وأوصل البلاد إلى حافة الهاوية، التي يجزم بعض الخبراء بأننا بلد يقف اليوم عندها.
واقع هش لا يمكن أن يصمد أمام الموجة الارتدادية المتجددة للربيع العربي والتي برزت مقدماتها بوضوح في السودان والجزائر والعراق ولبنان، وعززها الدرس التونسي، الذي شكل صفعة للثورة المضادة ولكل النماذج المعادية لحرية الشعوب وللكرامة الإنسانية.
فعند ما ندرك أن 90% من المصوتين في الشوط الثاني للرئيس التونسي المنتخب: السيد قيس سعيد، هم من الفئة العمرية 18-25، يمكننا أن نتوقع حجم المفاجأة التي قد نستفيق عليها قريبا في موريتانيا، التي يشكل شبابها ثلاثة أرباع السكان.. والذين لا يحصل منهم على الباكلوريا، سوى 13% سنويا في أحسن الحالات، وهذه النسبة لا يحصل منها على فرصة عمل، سوى القلة القليلة.
التحول الكيماوي في النسيج الإجتماعي والدرس التونسي
الواقع الموريتاني، يعكس تحولا عميقا، ذا طابع كيماوي، ناتج عن تمازج أفقي وعمودي بين كافة الأعراق والفئات والقبائل والجهات، الشيء الذي أفرز جيلا جديدا لا ينطلق بالضرورة من مرجعية قبلية أو عرقية أو فئوية أو جهوية، عجينة جديدة وخليط أنتج جيلا مختلفا، طحنه التهميش وألغي وجوده عمليا، بفعل حالة اللادولة، وممارسات سلطة عرجاء، دأبت على أن تلقي ببعض الفتات لعامة الناس، لتبرر وجودها، وشكلت أداة للاستئثار بمزاياها من طرف قلة قليلة، وفقا لآلية معلومة، لكنها غير واضحة المعالم بدقة للجميع.. آلية تحكي قصتها واجهات مدننا الكالحة، ومحيا الغالبية البائسة من شعبنا، وحالة الخراب والخواء الشاملتين- رغم الثروات المعدنية المعتبرة لبلدنا الشاسع، وقليل الكثافة السكانية في نفس الوقت، الشيء الذي يفرض تحديات اجتماعية وأمنية بالغة الخطورة، خاصة وأن الجوار سعى ويسعى بجد إلى حل انفجاره السكاني وحاجاته الجغرافية على حسابنا، بغية خلق واقع يعزز أطماعه المتأصلة.
أمام عجزنا عن بناء دولة، أو إقامة سلطة منصفة وفعالة.. فأي مصير ينتظرنا ؟
إن "عبقريتنا السياسية" لم تكتشف من نماذج الحكم، سوى المحاصصة العرقية والفئوية والقبلية والجهوية والعائلية، باعتبارها أفضل مهدئ، تمثل حلا مقبولا ل"معضلة" التعايش"، يتشبث بها الجميع في الخطاب ويتنصل منها الجميع على مستوى الممارسة.. عيون "ساستنا" مغمضة عن عيوبها الخلقية الماثلة في لبنان والعراق، الذين يعيشان انتفاضة شعبية هذه الأيام، منددة بهذه المحاصصة ومطالبة باستبدالها بالمواطنة المتساوية كمعيار أوحد.. وهو ما يبرهن عمليا على إفلاسها كخيار وخطورتها على التنمية والتعايش والحقوق المتساوية، وعلى كيان الدولة وفاعليتها.. لكنه التيه والخواء المعشعشين في تجربتنا، التي تتجاهل وتتنكر لخيار المواطنة المتساوية، كأساس ومرجعية وحيدة في العلاقة بين المواطن والسلطة.
فمن أجل أن لا نستمر في تقليد النعامة عند مواجهتها للخطر كخيار لنا وحيد، ينبغي أن نتعرف بعمق على واقع، تتفاعل فصوله داخل فضاء ألكتروني، يعيشه شبابنا.. هو المتحكم في صياغة رؤاه والمحدد لاتجاهاته، بمعزل عنا- رغم عيشه بيننا في منزل واحد- فهذه الفئة العمرية، تتفاعل في نفس الوقت، فيما بينها داخل عالم نلاحظ تجلياته ونجهل مفاعيله وتأثيراته العميقة على ناشئتنا، الشيء الذي يؤكد احتمالية أن نصحوا يوما من الأيام على تحول فجائي، نقف عاجزين عن تعديله أو التحكم فيه، بواسطة آلياتنا التقليدية، التي أفلست وانتهت صلاحيتها منذ فترة غير قصيرة.
فمن أجل أن نوقف رحلة التيه السيزيفية التي عشناها، والخيارات الارتجالية التي انتهجناها.. لا منقذ لنا من مأزق اللحظة، سوى الاستفادة من التجارب العالمية الناجحة والقطيعة الكلية مع جميع ممارسات الماضي، لنتمكن من خلق تنمية أساسها وغايتها الإنسان، في ظل المواطنة كأساس للتعايش ووسيلة للإنصهار، ضمن الدولة العادلة، المنصفة.
فنحن أمام تحول عميق في نسيجنا الإجتماعي، وتغير في عتبة تحمل شبابنا- الذي يشكل ثلاثة به، يجب أن نستفيد من الدرس التونسي وأن ننتبه للموجة الثانية من ارتدادات الربيع العربي، التي تلوح أفق نذرها هذه الأيام في بلدان عربية عديدة.. فالشباب أضحى مطلعا على جميع التجارب البشرية ومتواصلا عالميا وإقليميا ووطنيا عبر آليات الشبكة العنكبوتية، ملما بواقعه وبقدراته وما ينوء به بلده من فساد وقصور ذاتي وفشل في جميع المستويات وعلى كافة الأصعدة.
محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي21/10/2019