عندما تأكل النخبة ثديها
بعيدا عن التشاؤم، فإنه لا يسرني بتاتا تخثر نخبنا العاجزة وتوكؤها على عصى الماضوية المتجاوزة، ولا أيضا غفلة شعبنا الذي تسكره الأساطير وتهده أمراض التخلف ويكسر شوكته غياب العدالة.
وإني لأعجب لبلد يدعي أهله التدين الخالص وهم يخالفون - في حل من العواقب - معظم تعاليمه المتعلقة بالمعاملات البينية في كل جوانبها ولا يردعون أو يرتدعون، متحصنين بالكبر واستقلالية الرأي وأحادية الموقف وحرية الفعل،
وأعجب لبلد لا يرحم فيه أحد أحدا وإن اختلفا في أبسط الأمور أولم يكن الرابط بينهما مكتمل الجوانب الاجتماعية على تفاوتها المصطنع، بل وينافسه في كل شيء وكأن الحياة تتوقف على الانتصار عليه وإقصائه أو إذلاله أو القضاء عليه، الأمر ينسحب على كل مستويات التعامل وشمولية درجات السلم الاجتماعي التراتبي والطبقي في عصيان تام للسلطة وهيبتها ومفهومها،
وأعجب لبلد لا يقف الفقهاء فيه إلى جانب الحق ولا يشجبون الظلم والباطل ولا يشاقون أهلهما، بل ينصروهم بكل سبب واهي يجمع كل مخل بروح الدين ورسالته من قبلية وعشائرية وطبقية وكبر وادعاء واستعلاء وخداع ونفاق وأي فعل يتراءى ليحقق ويبرر الاصطفاف،
وأعجب لبلد ينبذ أهله العمل تأففا وكسلا ولا يوفون من يتعرقون لخدمتهم حقوقَهم بل وينظرون إليهم بكبر وينعتوهم بالدونية ويهينوهم يستبيحوا أعراضهم،
وأعجب لبلد يهوى أهله ويمتهنون الكلام منثورا ومنظوما فلا يحملونه إلا ما يبعدهم عن تعاليم الدين وقيم العدالة ورفعة الاستقامة، ويغرقهم في المجون اللفظي والفجور الاستعلائي والخلافات الغوغائية التي تنتهي بالتراشق اللفظي في نهم وإسراف شديدين تحملهما حملا وسائط التواصل الاجتماعي،
وأعجب لبلد يبنى بسواعد الأجانب وينهبه ويبدد خيراته ويهدمون أسسه بعض أهله، لا يهابون نهبا أو إفسادا ولا يتورعون عن ظلم يشرعونه أو إقصاء يستبيحونه أو تهميش يتعمدونه.
فشتان، في هذا البلد الصامت على خيبة مواطنيه، ما بين صخب نخبه الاستعلائية في تناقضها الشديد وبين أكلها من جوع ثديها في خواء صمتها الارتكاسي الصارخ .