نعم ..كان اتفاق داكار المشؤوم خطيئة اقترفها الطرفان (النظام العسكري وقوى المعارضة) في حق شعبنا وفي حق خياره المقدس الأعلى الذي هو دستور 2006 بأحكامه الملزمة. فاتفاق داكار لا يمكن أن يسكت عنه إلا مغفل فهو السبب في الأزمة التي نعيشها اليوم وهو الذي سمح
بمواصلة حكم البلاد بمظلة ديموقراطية مصطنعة تتدلى منها نياشين العسكر وتفوح من أطنابها روائح الديكتاتورية،وهي مظلة تشبه في كثير من تفاصيلها وانعكاساتها المظلة التي حكم بها نظام ما بعد مؤتمر لابول. فأما طرف الانقلاب في هذا الاتفاق فيمكن أن نتفهم موقفه إذ ذاك ،لكونه وجد في الاتفاق المهلهل ،مخرجا ينقذه من حالة الاختناق فأبرم حيلته بليل مؤيدا بمناصرة مدفوعة الثمن ،من القوى التي لا تريد وما تزال،ولكل منها أسبابه،بروز نظام ديموقراطي تعددي حقيقي في موريتانيا.
وأما طرف المعارضة فلا يمكن أن نتفهم ، وإن يكن الأمر قد تجووز الآن،قبوله رغم حسن نواياه ،الانخداع لاتفاق لا يضمن آليات تطبيقه التي هي في يد خصمه السياسي جميعها،ولا يمكننا أن نستسيغ تعليلاته المعتمدة ،حسب ولد مولود، على تخليص البلد من الأزمة وعلى التأكد من هزيمة الجنرال عزيز في الانتخابات وعلى تأييد مجموعة الاتصال الدولية التي توارى وكلاؤها بعد استلامهم البخشيش.
لقد كانت هذه الافتراضات ساذجة وهو ما لا يمكن أن يكون قد غاب عن موقعي الاتفاق من جواميس السياسة المحنكين: فالبلد لم يخرج من الأزمة بل تعقدت أكثر والجنرال لم يهزم فقد سهل عليه في مجتمع يعشش الطمع والنفاق في شغافه، اختراق صف المعارضة (جذب وزير الداخلية،تهافت المرشحين المهزومين على قبول النتائج وعلى الاعتراف). وبذلك الاختراق وبفتات المال السياسي وبالتخويف وبصمت المؤسسة العسكرية استطاع الجنرال وهو الذي واصل تحكمه في الأمور، رغم خدعة الاستقالة ، أن يتحكم في العملية الانتخابية بغطاء من بندقيته وبآلته الحاسبة التي أعطى بها لكل مرشح نسبته حسب ما يروق وليمرر فوزه في الشوط الأول بمهارة فائقة تاركا المعارضة تلهث على الأثر وهي تلعق أشواك هزيمة ممزوجة بخيبة مريرة. الحقيقة أن ذلك الانقلاب وذلك الاتفاق خيبا أمل هذا الشعب ولا يمكن طيهما ولا تسقط الحقوق في انتقادهما بالتقادم وإن كان الرئيس الشرعي المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله ،خاطب طلقاء الانقلاب بقوله "لا تثريب عليكم"،ولو أن الجميع اتجه نحو فتح صفحة جديدة خيبها في نهاية المطاف،استمرار حالة الانقلاب ورفض اتفاق داكار ومواصلة السعي لفرض التحكمية الانقلابية بما تحمله من ديكتاتورية وفساد وزبونية. لا نقول للنظام شيئا لأنه لا يستمع للناصحين ،أما المعارضة فإننا نبشرها بأن موسم التكفير عن خطيئة داكار قد انفتح الآن مع بدء التفكير الجدي في تنظيم انتخابات لاوسائل جاهزة لتنظيمها بل يفرضها الأوروبيون وتشجع عليها جوقة المحاورين ومزامير المطبلين. فقبول أو رفض الدخول في هذه الانتخابات هو ورقة الضغط الوحيدة والقوية التي تملكها منسقية المعارضة بعد كلما حدث وهي التي يمكن أن تدخل بها النظام في مأزق :فإما أن يتسابق وحده دون المعارضة الحقيقية ،وهو في القفر منفرد، وإما أن يذعن لحوار حقيقي يتفاهم فيه الجميع بعيدا عن الدبابات وعن الضغوط ،على أجندة واضحة تخرج البلد من قبضة النظام المتعسكر وتدخله عهد الدولة المدنية بنظامها الديموقراطي التعددي.
إن على منسقية المعارضة وأنا احترم أحزابها كلها مع أن تعويلي فيها إنما هو على حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"،أن تنفض عنها المتخاذلين وأن تحزم أمرها مستعدة لبذل التضحيات ولحشد الجماهير. فمهما اختلطت الأمور فهناك أمر مؤكد هو أن أية انتخابات تقدم حكومة الرئيس ولد عبد العزيز على تنظيمها دون المنسقية ،لن تكون لها أية مصداقية سياسية لا في الداخل ولا في الخارج. وكأني بالمنسقية والحنون مبتلى بسوء الظن،وهي تنحدر من قمة "إرحل"، نحو سفح المشاركة في هذه الانتخابات على أساس حوار متسرع ،متذرعة بعدم جدوائية المقعد الفارغ غير وبخطورة خلو البرلمان من الصوت المعارض إلى غير ذلك من الأعذار الكثيرة..وكأني بها تتسابق للمشاركة ،مشرعة للنظام جميع ما اقترفه من أخطاء مدعوما بجوقة المحاورين، وماسحة بذلك جميع ما أسست له من خطاب سياسي مقنع.
إن التسلح بالشرعية والاستعانة بأحزاب المعاهدة والاستقواء بالصمت التقليدي الذي درج عليه مجتمعنا المنهوك، عوامل سيستخدمها النظام دون شك لفرض إرادته، وعلى المنسقية أن تعد لذلك عدته وأن تستشعر خطورة المرحلة وأن تتخذ خطوات مدروسة حتى لا تقع في فخ آخر وحتى لا تتيح للنظام إعادة إنتاج نفسه وإطالة مدى هيمنته،ولها في الاستحقاقات التي نظمت في عهد الرئيس معاوية عبر وأي عبر.
وبغض النظر عن المواقف التي ستتكشف قريبا فإن التحضير للموسم الانتخابي المقبل مناسبة لن تتكرر أبدا للتكفير عن الخطايا المقترفة عن سوء أو حسن نية والمثبتة في سجل سجا ذاكرتنا الجمعية ، ويمكن للنظام كما للمعارضة اهتبالها للتوبة ولفتح عهد جديد ينهي الأزمة على أسس قارة تعيد القطار النافر إلى سكته.