تأسست الدولة الموريتانية أول ما تأسست على إبعاد مشائخ الطرق عن الشأن العام وذلك اجتهاد اقتضته مصلحة عامة حسب رأي البعض ،مؤداها أن قيام الدولة بسلطانها الجمعي المهيمن يستلزم توهين ما ينافسها من قوى تقليدية نافذة سواء كانت بقايا إمارات أو مشيخات دينية.
وركبت منهجيات وآليات الإدارة الموريتانية على هذا الأساس ،عكسا لما هو واقع في السنغال المجاورة ،حيث يتمتع المشائخ بمكانة عرفية في الإدارة تخولهم حمل جوازات السفر الديبلوماسية والمرور بالصالات الرسمية ومزايا أخرى.
وساعد في تجذر هذا الإقصاء أن الصوفيين أصلا بعيدون عن بلاط السياسة التي كانت ذلك التاريخ ،تفهم على أنها نمط من "معاملة النصارى" لا على أنها "الانتصاب لخدمة الغير والسير في مصالح المسلمين وتديير الشأن العام، والتماس المصالح لهم ودفع المفاسد عنهم، سواء كانت المصالح المذكورة قد نص عليها الشارع أم احتاجت لاجتهاد وإعمال للعقل من أجل استخراج ما يلزم".
كان صوفيتنا وهم في نفس الوقت علماؤنا أيضا إذ أن علماءنا هم ما بين قادري الطريقة أو شاذليها أو تيجانيها ،هاربين بدينهم يمسكون بالغداة والعشي سبحات يذكرون الله بها منعزلين في زوايا يعيشون على حلائبهم ومزارعهم.
وعامل الرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله ،المشائخ بمقتضى الحال مع الاحترام الشديد ومع التجلة لكنهم ظلوا في عزلتهم رغم أنه أدخل بعضا من أطرهم في حكوماته الأخيرة ضمن توازنات اقتضتها تقوية الجبهة الداخلية في ظرف كان عصيبا.
وأذكر أن الإدارة كانت بعد وصول العسكر للسلطة عام 1978م،تعامل المشائخ في منطقتنا ( أرض العقيلات)،بطريقة سيارات الإطفاء فمتى احتيج إليها استدعيت ومتى لم يحتج إليها تنوسيت.
ثم كان أن انكب الجميع مستهل التسعينيات في أتون الحزب الجمهوري الذي شكل على مدى عقدين ،مركز استقطاب سياسي لا يمكن الشذوذ عنه بحال من الأحوال.
وكانت الدولة تعامل القرى الصوفية المحتاجة لخدمات الصحة والتعليم وماء الشرب،بحسب درجة الولاء للنظام فالخدمات تمنح للموالي ويحرم منها المعارض وتقارير الاستخبارات التييقيمة للولاءات والمعارضات تعرض يوميا على الرئيس، والمشاكل تحل حسب اسطرلاب السياسة.
وطبيعي خلال هذه الفترة أن تختلط المفاهيم وتتقاطع المصالح ويتناقص مدى الرؤية لحدوده الدنيا.
وكان في الجماعات الصوفية التي تغيرت قياداتها على مراحل متقاربة ،معارضون منكتمون لا يرضون عن الولاء الأعمى لأنظمة تكبت الحريات ولا تنزل الناس ،هناك،منازلهم.
غير أن ذلك النفس المعارض بقي مكبوتا بعوامل عدة أهمها توازن قائم على الضغوط ذات الأساليب المختلفة وعدم الاستهداف.
ومن مظاهر تلك المعارضة الكامنة أن مشائخ زاروا بصورة علنية وبروح صادقة ،تحت عدسة الاستخبارات ،جماعة الإسلاميين عندما سجنها نظام الرئيس معاوية رغم وجود خلافات غائرة زمانئذ وإن هي قد تجوزت اليوم ،بين أهل الطريقة وأحد علماء الجماعة المذكورة .
هكذا كانت الأمور إلى أن جاء انقلاب 2005م ليشكل بداية جديدة للجميع ،روجعت فيها الحسابات وحددت فيها الغايات وتغيرت التموقعات بعد أن أزيح النظام الذي كان يخوف الجميع والذي كان الناس يوالونه اختيارا أو اضطرارا.
خلال الفترة الانتقالية خف الضغط كثيرا ووجدت المعارضة الكامنة مجالا واسعا للتنفيس عن دخائلها ،فقد توزع سياسيو القرى الصوفية بين الأحزاب وبين المترشحين لانتخابات 2007م مع أن الغالبية منهم كانت لاعتبارات كثيرة ،إلى جانب الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله.
إلا أن انقلاب اغسطس 2008 أعاد الأمور في موريتانيا كلها لما كانت عليه في عهد الرئيس معاوية مع فروق بسيطة.
وكانت الأمور ستعود أيضا على مستوى قرانا لنفس الفترة لولا أن النظام العسكري استهدفها بصلافة وبدون تمحيص للمواقف.
فبعد الانقلاب وضع الجنرال عزيز الجميع في سلة واحدة على أساس أن قرى المنطقة علوية ومعارضة للنظام العسكري وأنها موالية للرئيس المنتخب الذي أطيح به ،فعزل أطرها وبينهم من لم يكن من مساندي الرئيس سيدي كما أن من بينهم من كان مستعدا لتفهم دواعي الانقلاب وبينهم فنيون لا يعرفون سوى تخصصاتهم.
والغريب أن القرى قابلت هذا الاستهداف بأريحية الصوفي المسالم فدفعت بالتي أحسن السيئة فلم تغب القرى عن أي من زيارات ولد عبد العزيز للترارزة ولم تتخلف عن أي من مهرجانات حزب الاتحاد بل إنها كانت تتسابق لحضور اجتماعات بسيطة في المقاطعة.
رغم كل هذه الجهود لم تجد القرى التي دفعت بالتي أحسن السيئة ،من كانت بينه وبينها عداوة ،وليا حميما ،فلم يصحح النظام وجهته ولا مواقفه.
من هنا انتبه المهتمون وعلموا أنهم يطاردون خيط دخان وأن ولد عبد العزيز لا يقرأ الرسائل السياسية لأنه تربى في مدرسة الأوامر بمادتها الوحيدة "الرئيس دائما معه الحق، وإن لم يكن معه الحق فإن الحق معه".
ومقابل هذا الإهمال الذي أبلغ به الرئيس مرات عدة ،سجل عدد كبير من سكان القرى "الذاكرين الله كثيرا والذاكرات" أول موقف تاريخي في انتخابات يوليو 2009م حيث لم يصوت (حسبما أكد لي أحد المقربين من الرئيس نقلا عن الرئيس نفسه)،للمنتخب الجنرال محمد ولد عبد العزيز سوى عدد قليل إذا ما قورن بمن لم يصوت له،وخالف المريدون ضغوطا وتعليمات.
كانت انتخابات 2009م الأساس الذي اعتمده النظام الجديد في تحديد الولاءات ولعله لا زال يعتمده لحد الساعة رغم أنه اقتراع جرى في ظرفية خاصة جدا؛وكان اللازم لنظام يريد أن يستقر ،أن يقرب المبتعدين عنه بدل مواجهتهم بالانتقام وبسياسة العصا الغليظة.
لقد شكلت هذه الانتخابات طلاقا نهائيا مع الرئيس ولد عبد العزيز وتأكد من كانوا يختبرون قدراته القيادية أنه لا يملك "شعرة معاوية".
لكن الجديد في هذا المنعطف هو أن اتجاها كبيرا معارضا لنظام ولد عبد العزيز قد نشأ هنا وهناك نشأة سريعة مدفوعا بالعوامل التي ذكرنا وبتأثيرات انقلاب 2008م،وبعوامل الانتصار للديموقراطية ولأخ في الطريق انتخب فأبلى وظلم فصبر.
وسادت بعد كل هذا قناعة بضروة إعادة النظر في المصالح وفي سياسة "الصك الأبيض".
ومن هنا بدأ التفكير في طريقة لدخول معمعان الشأن العام الذي كان مهملا لعقود طويلة ،فجرت مشاورات دامت أشهرا بين مجموعة من الأطر بعيدا عن الزعامات الدينية والتقليدية التي كانت تفضل التعامل مع السلطة والصبر على إكراهات المتغلب.
وتأكد الأطر أن دخول المعترك أصبح فرض عين بعد أن أحدث النظام الحالي بتصرفاته واستهدافاته خللا في التوازن السياسي الذي كان الأساس في عقد المهادنة بين الطرفين.
واتفق الجميع على أنه من العار أن تبقى هذه الجماعة الصالحة شاة بفيفاء لك ولأخيك وللذئب ،شاة تتبادلها الأنظمة كل حسب طريقته،صماء بكماء عمياء لا تعقل.
واتفق المتشاورون وهم بحمد الله كثيرون ،على أن يتركوا المشائخ في مواقعهم العليا كمرجعيات دينية للجميع وأن يسعى الأطر لدخول مجال الشأن العام ،فليدخلوه إن شاء الله آمنين.
والأهم أن البعض قد تأكد أن التصوف في صورته السنية يزاوج بين مفهوم الرباط الروحي التربوي' ومفهوم 'الرباط السياسي' الذي هو الانخراط في هموم الأمة وحماية الثغور والسير في مصالح الخلق والوطن.
ومع أن كل واحد حر في اتخاذ مواقفه،فقد اتفقت مجموعة هامة تتشكل من نوازع من مشارب شتى(ليس هذا دعاية)،مجموعة ذات شأن في الطريقة ،مجموعة ذات أبعاد مختلفة على أن مكاننا المناسب هو صفوف حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل".
فهذا الحزب هو في الحقيقة حزب الساحة الإسلامية بجناحيها والذي كان لبعض النافذين الموفقين منا دور كبير في الترخيص المشرف له في عهد الرئيس ولد الشيخ عبد الله،ذلك الترخيص الذي كسر موقفا تأسس في عهد ولد الطايع واحتفظ به أعوانه بعد قلب نظامه.
فقد هيأ لنا هذا الحزب المؤسس على المرجعية الإسلامية ،خطابا وسطيا معتدلا وأمامنا فيه رجال صادقون نحسن بجميعهم الظن.
وبانضمامنا الوشيك لهذا الحزب والذي سيتسع نطاقه بإذن الله،نكون قد سددنا نافذة خطيرة على الأمة هي نافذة تأجيج الخلافات بين أهل الشريعة وأهل الحقيقة ؛فمن الأخطاء التاريخية تطور المنهجين بعضهما في انفصال عن البعض الآخر بل أحيانا في نزاع وتشاكس بينهما في فرعيات وجزئيات.
وبانضمامنا نرجو أن نكون قد ساهمنا في ضم جهود الأمة وتوحيد قدراتها.
ونحن ندرك أن هذا الانضمام كغيره من الخطوات الصعبة ،لا بد أن يحدث حالات انزعاج ..لكن ليسامحنا الجميع فأقصى ما في الأمر أننا نطبق قول نبي الله يعقوب "يا بني لا تدخلوا من باب واحد"،فالمصلحة العامة تتطلب أن يتوزع الجميع على جبهات مختلفة والهدف واحد.
وليست هذه الخطوة تحرفا سياسيا ظرفيا ولا مخاتلة للنظام بل هي أبعد من ذلك ،قربة منا إلى الله تعالى وقرار استيراتيجي نرجو أن يتحقق مثيله وأكثر في البلاد العربية والإسلامية التي ترد الأخبار عنها بخلافات بين هذين الطرفين اللذين يشكلان قوة واحدة ذلك أن الخلاف لا يعني بالضرورة الاختلاف.