دأبت الحكومة الموريتانية في السنوات الأخيرة على تنظيم مهرجان سنوي دوري في إحدى مدننا الأثرية الأربع : شنقيط ، تشيت ، وادان ، ولاتة ، يتزامن تنظيمه مع ذكرى المولد النبوي الشريف من كل عام ، تريد الدولة من خلاله رد الحياة إلى هذه المدن التاريخية المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونيسكو ، والتي كانت ولاتزال تشكل النواة الصلبة الأولى لكيان الدولة وهوية الشعب الموريتاني في كافة المجالات وعلى مختلف الأصعدة ، وترصد الدولة لهذه التظاهرة الهامة ميزانية تقدر حسب الصندوق المخصص لها ب : 2.6مليون يورو.....ينفقها القطاع الوصي على تجهيز منصة المهرجان والتوصيلات الكهربائية والصوتية وتوفير خدمات الاتصال والوسائل ، إلى غير ذلك من المعدات اللوجستية اللازمة ، إضافة إلى برنامج الوفود والضيوف والطواقم الذي يعتبرالحلقة الأهم والأضخم من حيث التكاليف والمصاريف ، وفي هذه الحالة وانطلاقا – من النسخ الماضية-غالبا ما يتحول المهرجان إلى مجرد احتفالية ينتهي أثرها مع مغادرة آخر ضيف من ضيوفه ، رغم اختلالات قد تنشأ على المستوى التنظيمي نتيجة عدم مراعاة تقنية التساوي والموضوعية في حسن الاختيار لمن يتولون الإشراف والسهر على فعاليات المهرجان المختلفة ، وهي أمور قد تشكل مجتمعة – إن استغلت بشكل ايجابي – نوعا من الانبعاث وإضفاء النشاط والرفع من منسوب الحركية وضخ دماء جديدة في شرايين مدن عريقة أصبحت أدوارها الفكرية والعلمية والتجارية والحضارية وتحفها المعمارية مهددة بالانقراض والزوال بعد أن قاومت الظروف الصعبة وعانت من العزلة القاتلة .
في نسخة هذا العام والتي نظمت في عهد رئيس جديد وحكومة جديدة ، عائدة دورتها على بدء لتحتضنها مدينة " شنقيط " : جواز سفر الموريتانيين الدبلوماسي وصفة الدولة التي لاتزال تشرق عراقتها لدى العارفين والقارئين لسفر تاريخ المدينة الذي سطره العلماء والشناقطة في ملاحم تاريخية كتبت بماء الخلود ، في هذه النسخة حرصت حكومة البلد الجديدة على استمرار " نهج " هذا المهرجان – من غير دراسة الموجود أصلا – ومراجعته ، والاعتماد على النتائج التي حققتها نسخه السابقة ؛ محاولة في الوقت ذاته تقديم بعض الرسائل المتعددة و الملونة في إيحاءاتها السلبية والإيجابية بلون الإشراك للجميع – وإن كان الحظ الأوفر للضيوف الوافدين والسياسيين الملبين دعوة الحكومة الجفلى في حدث كان أقرب في السابق إلى السياسي من هو إلى الثقافي ولازال ، فبدل دعوة شخصيات ثقافية وفنية وطنية ، تم ايفاد فرق غربية لاتعكس مشاركاتها أي نوع من ثقافة المجتمع الموريتاني بل كانت نشازا وجريمة في حق الثقافة ، كما ركزت الحكومة على اغتنام فرصة الحدث لتدشين أول تهدئة سياسية تشهدها البلاد بعد الاحتقان السياسي وضيق الأفق بين قطبي المعارضة والنظام في الفترة الماضية ، حيث دعت رؤساء الأحزاب السياسية والشخصيات المعارضة لتتعانق الموالاة والمعارضة تحت سقف واحد ، المنكب بالمنكب والساق بالساق ، وهو ماجعل من نسخة مدينة " شنقيط " نسخة مختلفة في جانبها السياسي ومتراجعة أوباهتة في جوانبها الثقافية والخدمية والتنموية ، وإن كان الهدف الرئيسي من تنظيم المهرجان انتشال تراث هذه المدن العالمي من الإهمال والتهميس الذي عانى منه كثيرا على مدى عقود من الزمن ، كما أنه ينبغي أن يكون رافدا تنمويا ومناسبة تكتسي منها المدن المستضيفة حلل التقدم والازدهار ، بإقامة مشاريع حيوية ومنشآت خدمية تعود بالنفع والاستفادة على المواطنين ، حتى لايبقى تنظيم هذا المهرجان مجرد مناسبة لهدر الطاقات وتبذير المال العام في أمور لاتمت إلى خدمة المواطن ولا إلى دور الدولة المنوط بها بأي صلة .
لذا يجب على الدولة قبل التمادي في تنظيم هذا النشاط الرجوع إلى الأهداف التي رسمت من أجلها استيراتيجية خدمة هذه المدن ورد الاعتبار لها على مستوى التنمية وخدمة السكان ، حتى لاتبقى مطالب مواطنيها ومعاناتهم طافحة على سطح كل نسخة من نسخ المهرجان ، وهي المطالب والمشاكل نفسها التي طرحوها في النسخ السابقة منه ، ولن يكون ذلك إلا بالعمل على النقاط التالية :
-العناية الفائقة بتراثها المادي وغير المادي الذي يعبرعن تاريخ لايزال محفورا في ذاكرة التدوين وبين دفات الدواوين .
-الاعتناء بموروث الحركة العلمية والثقافية التي شهدتها المدن منذ تشييدها , وذلك بنفض الغبار عنه وترقيته وطباعة كنوزه وأرشفتها ومن ثم نشرها أوجعلها في ظروف تسمح للباحثين والدارسين بالاطلاع عليها لخدمتها وإبراز مكانتها للآخرين ؛ حتى لاتبقى فريسة صائغة لشبح التفريط والضياع .
-رعاية واحاتها التي تشكل مصدر دخل هام يمكن أن يساهم في توفير ظروف العيش الكريم ويعزز من فرص التشغيل والانتاج لدى ساكنة المدن المستهدفة .
-فك العزلة عنها وربطها بالمدن الأخرى ، وتشييد مؤسسات عمومية خدمية تلبي حاجيات المواطن في الخدمات الأساسية والضرورية .
-إقامة محاظر علمية ومراكز ثقافية تساهم في تدعيم الدور العلمي والاشعاع الحضاري الذي تترجمه المكتبات الغنية بكنوز التراث ونفيس المخطوطات ، وكذاك المتاحف الأثرية والصناعات التقليدية والمعمارية سبيلا إلى مركزية العطاء لهذه المدن التاريخية ولحضارتها العالمة .
-انشاء هيئة ثقافية ذات طابع استقلالي تعنى بالاشراف على هذه المهرجات ورعايتها ، وتسثمر جهود الحكومة في ما ينفع الناس ويمكث في الأرض .