إلى صديقي الشاعر الكبير سدوم ولد أيده، تلبية لدعوته التي غبت عنها بسبب وجودي خارج الوطن.
"لمرابط ماه صاحب إيگيو" (ب)
* وقدم الشاعر الكبير محمد (الداه) ولد اشويخ على فضيلة القاضي الجليل محمذٍ ولد محمد فال (اميي) في مجلسه فرحب به وأكرمه إكراما يليق بمثله من مثله. وبعد السلام والسؤال عن الحال والزيارة أنشد "الشاعر" في القاضي البيتين التاليين:
إن الكريم لغوث في الورى ومحطّْ ** رحل الغريب جواد لا يشان بخطْ
ومـــــن تكن هذه الأوصاف شيمته ** يكــــفي السلام عليه والوداع فقطْ.
فقال اميي: "محمد يبدو أنك مستعجل، افتحوا ذلك الصندوق وأعطوني منه ثيابا لمحمد ولد أويخ"! فقال محمد: "إنما جئتكم زائرا فقط"! قال اميي ممازحا: "الشّعار لا يحسنون الظن إلا بمن يجود عليهم بالعطايا. وأردت أن تحسن بي الظن حتى تنفعك دعواتي. لكن لا تبرح قبل أن تسمعني شيئا من المدح". (والمدح كناية مهذبة عند بعض الزوايا عن الغناء)!
فأخرج محمد بن اشويخ تيدنيته من كمه وكانت "طائبة" وشرع "يمدح"! وعندها انسحب أحدهم من المجلس، فلما قضي "المدح" قال محمد للقاضي: "اميي، هو الهول هذا فيه شي" ومعناه: هل الغناء حرام؟ فقال اميي: "حد بعد ما يبغي يعطي شي لاهله فيه شي عنده" ومعناه: من لا يريد أن يجود بشيء من ماله لأهل الغناء، فالغناء حرام عنده"!
* وجاء امحمد ولد انگذي (لَعْوَرْ عَلَمًا) وابنه محمد عبد الرحمن (حَمَّه) إلى محمد محمود ولد عبد الرحمن، وهو سيد أهل مولود من أهل باركلله وعالم وفتى.. وهذه الرحلة يرويها غناءً محمد عبد الرحمن (حمه) رحمه الله، وملخصها أنهما عندما حلا بالحي وكان هو مراهقا، كادت نجائبها تقطع أنساع خيمة الشيخ محمد محمود فخرجت خادمه مذعورة فرأت هيئة الرجل وابنه غريبة ورأت التيدناتن تتدليان من رحليهما، فعرفت أنهما "شعّار" فراحت تغني بصوت جهوري عذب: "يا ويلكم جاوكم إيگاون"! فخرج سيدها يجر لثامه ويردد بصوت أجمل وأعذب: "يلالك يا محمد محمود، يلالك يا محمد محمود"! وأمر فورا بأن تنصب لهما خيمة مجهزة بكل أنواع الأبهة والبذخ، وأن تقدم إليهما جميع أصناف القرى، وتم ذلك على أحسن وجه، ثم أمر لهما بـ"صيدح" وجمل، أحدهما من عنده والآخر من عند زوجته الشيخة، وكان لا يفتأ يردد بصوته الجميل: "يلالك يا محمد محمود"! وكان إلى تلك اللحظة لا يعرف من هما ضيفاه، وهما لا يعرفان من هو مضيفهما! فلما رأيا بشاشته وجوده وأبهته وجمال صورته وهندامه وصوته! سأل الابن أباه" "من يكون هذا الرجل الذي لم أر له مثيلا في حياتي"؟ فقال له أبوه إنه "إما أن يكون مريدا في بداية الفيض، وإما أن يكون أكرم من يمشي على قدمين"! وبدأ السمر والطرب، يقول محمد عبد الرحمن: "فأنشدت أنا بيتا فقال لي المضيف: هذا يا ولي الّ قلت شين وامعاگب أخارج أزاي أُنِيْ، فأنشد أبي امحمد بيتا فصاح الرجل بأعلى صوته متهللا: هل أنت لعور؟ هذا ما ايگد إگولو بشر ماه الأعور وحده! وأخذ يغني مع أبي في منافسة شرسة"..
* وفي قصتي الشيخ سيدي عبد الله ولد الشيخ المهدي مع مولاي إسماعيل ولد اباشه والشيخ السالك ولد الحاج مع أحمد ولد بوبه جدو المشهورتين ما يكفي من الدلالة على الصحبة والألفة والانسجام بين لمرابط وايگيو، واهتمام ودراية بعض شيوخ الزوايا بفنون الغناء وإتقانهم لها لحد التنظير والنقد والإضافة (ازراگ مثلا، وهو من ابتكار مجاذيب اليداجيين)! وقد روى لي من أثق به أن الشيخ العلامة اباه ولد عبد الله قيل له إن بعض الفقهاء أعرض عن الصلاة على الفنان الكبير سيداتي ولد آبه رحمه الله، فقال: "اعذروهم، فلعلهم لم يسمعوا منه: دنا البين من مي فردت جمالها"!
وهذا غيض من فيض سيَرِ الزوايا "حماة الدين" والثقافة في هذه الربوع الطيبة الطاهرة السمحة المعطاء! أما العرب حماة الديار وأهل النخوة والمروءة والجود فحدث عنهم ولا حرج!
لن أحدثكم عن اعلي بوسروال "أمنج الظحى" ولا عن هنون ولد بوسيف، ولا عن بوسيف (الفائز)، ولا عن خطري الصغير ولا عن سيد أحمد ولد المختار، أو سيد أحمد لمحمد ولد اللب، ولا عن أحمد ديه أو سيد أحمد ولد بكار، ولا عن أولاد أم العز، ولا عن أحمد ولد امحمد، ولا عن ولد عمير، أو عاليت الذي يقول: هاك أنت الّ ذاك ظلك! (خذ أنت يا من أرى ظلك).. إلخ، ولكني سأحدثكم عن موسى! وهو أمير فحفاحي يافع كان يقضم فصوص سنبلة مشوية من الذرة، يتكئ على ركيزة خيمة. وبينما هو كذلك حل بالحي شاعر زنجي قادم من إحدى الممالك المجاورة، يعزف ألحانا رائعة وشجية لا يفتر عن عزفها وعن ترديد حكايته بلغة مبهمة كثيرا ما تجاهلها الناس مركزين اهتمامهم على ألحانه البديعة، وإذا أعطي عطية ردها لصاحبها وانصرف! عرف موسى بذكائه الخارق أن وراء هذا الشاعر قصة لا بد من سبر كنهها فدعاه للسير معه إلى حي آخر عله يجد فيه ترجمانا. ووجد ترجمانا لخص له قصة الفنان في أنه يعشق ابنة عمه ويريد الزواج منها ولكن أباها رصد لها مهرا غاليا! صاح موسى على الفور بالشاعر: " أبشر فما عند أهلي من ذهب وأنعام يكفي لمهر ابنة عمك، ولن يردوا تصرفي أبدا! فرد الفنان وهو يبكي وينتحب: ليت عمي يريد مالا! إذن لهان الأمر ولما وصلت في بحثي إلى حيكم! صرخ موسى وقد ضاق ذرعا بهذه المعضلة: "ما ذا يرد عمك إذن؟" قال الفنان: عمي يحب وحيدته حبا جما ويقول إن أجله قد دنا ولن يكل ابنته إلا إلى فنان مقتدر يستطيع إحصانها وإسعادها مدى الحياة، ويشترط دليلا على ذلك أن يأتيه المترشح بشحمة كلية أمير! وهذا ما عجز عنه جميع الخطاب حتى الآن! وهنا قفز موسى من الفرح وهو يقضم فصوص سنبلة الذرة (مكه) بنهم وقال للفنان: "هيا إلى الحجام وخذ شحمة كليتي وكليتي معا إلى عمك وتزوج حبيبتك" وكان الأمر! فعزف الفنان المبدع ألحان "مكه موسى" تخليدا لهذه الملحمة التي لولاها لحرم أزوان البيظان من "جَانبَتْ مَكّه موسى" بـ"اعسيريها" و"فائزها" و"سروزها" و"حرها".. الخ. ولما كانت في "أزوان" البيظان جوهرة شجية ولذيذة مثل هذه الجوهرة النفيسة!
وفي ختام حديثنا (والحديث شجون) لا بد في هذا المجال من التعريج والتعليق على حكايتين بليغتين؛ إحداهما أرويها عن الشاعر الكبير بابه بن هدار، والأخرى عن الزعيمة امباركة بنت الشح عليهما رحمات الله:
* فذات يوم وعلى هامش إحدى المحاكمات الكبرى التي كانت تترى دواليك في البلاد يوم كان الظلم مخيما، وفي القضاء ملجأ، وتوجد محاماة رفعت رأس البلاد، وعجلت بخلاصها من العسف والبغي؛ جلست مع صديقي المرحوم بابه ولد هدار عصرا في ظل حائط قصر العدالة ننتظر استئناف جلسة من الجلسات؛ فسألته من ضمن أسئلة أخرى عن نسب أسرة أهل هدار العريقة الفاضلة، فقال لي فورا: "الكرام من الناس يقولون إننا شرفاء ويهدون إلينا أموالهم.. ولا يعنينا ما يقوله عنا اللئام"! تأملوا جيدا: لم يعد السؤال يدور حول نسب أهل هدار، بل حول نسب وحسب وأدب السائل، أي سائل، وإلى أي الفريقين يريد أن ينتمي! و"إن من البيان لسحرا"!
* وفي يوم آخر - ومن شهود هذه الواقعة سعادة الوالي إسلمو ولد امينوه- وكنا يومئذ في مدينة العيون، وكانت ثلة من شباب القضاة تنتقل أصيلا من منزل أحدهم إلى منزل آخر سيرا على الأقدام، فمروا في طريقهم أمام متجر به نسوة، فعلقن ببراءة تعليقا مألوفا! وبعد نصف ساعة حضرت الشرطة بأمر قضائي إلى المتجر واعتقلت من كن فيه! حدث هرج ومرج في المدينة.. وبدأت التدخلات بغية إطلاق سراح النسوة! ولكن الزعيمة امباركه بنت الشح - رحمها الله- كان لها أسلوبها الخاص، فذهبت، رغم صعوبة الحركة عليها، نظرا لتقدمها في السن، إلى المنزل الذي به القضاة، فوقفت بالباب وألقت عليهم السلام، وقالت متسائلة: يا أولادي البيظان ما اتلاو خالگين! وقفلت راجعة!
والبيظان الذين تسأل عنهم المرحومة امباركه بنت الشح هنا ليسوا جنسا أو عرقا؛ بل هم حضارة وفتوة ونخوة ومروءة وتسامح ورحمة وأريحية وانفتاح! إنهم روح يجسده، إلى جانب الحسن ولد صالح ومحمد عبد الله ولد الحسن والشيخ محمد الأمين بن سيد امحمد، الحسن ولد امبكو وعبد العزيز صال ويوسف كويتا، عليهم جميعا رحمة الله.. وهو الذي يعبر عنه محمدٌ ولد ابن المقداد في قوله:
يگطع بيك انت يا الشيطان ** مذالك عايد لي وحله
شِـــــدَّور افشــيبان سودان ** ما يتـملك زغبه كحله!
وهو الذي حدا بعبد الله بن عباس إلى أن ينصرف إلى عمر ابن أبي ربيعة ويقسم عليه أن لا يبرح حتى ينشده، ويستمع منه خاشعا قصيدته "أمن آل نعم.." الأمر الذي أغضب نافع بن الأزوق، فقيه الخوارج الذي يفتقد ذلك الروح، فقال معاتبا ابن عباس: "عجبا لك يا ابن عباس نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك غلام من مترفي قريش فينشدك.." إلى آخر الحكاية المعروفة! وهذا الروح هو الذي جعل مجتمعنا التقي الشهم يقول إن "أول ما يجب على المكلف قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل".
وهو الذي ألهم الشعور به الإداري الفرنسي النبيل غابريل فيرال في الأربعينات أن يلغي لعب كرة المضرب مع زوجة شبه عارية في ميدان مفتوح أمام أعيان البيظان الذين يحكمهم! وهو - أيضا وأيضا- ما جعل زين ابن العبقري وأقرانه لا يجيبون مبتغي الخير لديهم والسائلين إلا بـ"حتى زاد" رغم عيلتهم! تلك "حتى زاد" التي أصبحت مضرب الأمثال! (حتى زاد گال زين).. إلى آخر حكايات مجتمعنا الجميلة الخالدة.
وهو أخيرا "الروح" الذي لا أثر له في جل ما نستورده اليوم من أخلاق وعادات وثقافات وفتاوٍ وأدوية مزورة معلبة تقتل ولا تحيي، وتفرق ولا تجمع، وتخالف ما تعارف عليه مجتمعنا من مكارم أخلاق، وما أمر الله ورسوله به {إن الله كان عليا كبيرا}.
انتهى