بداية لا بد من إعطاء لمحة عن مشروع شبكة صرف مياه الأمطار في العاصمة التي بدأت الضخ نهاية سنة 2018، والتي تختلط على الناس هي ونظام الصرف الصحي بمفهومة العام الذي هو صرف كل النفايات السائلة مما تنتجه المجاري المنزلية، ومجاري المصانع والمنشآت، بالإضافة إلى مياه الأمطار. وفي بعض المدن تكون هناك شبكة لصرف مياه المجاري المنزلية والمصانع والمنشآت، وشبكة خاصة بصرف مياه الأمطار، وأحيانا تكون شبكة الصرف جامعة لكل هذه النفايات وضخها خارج المدينة ثم تنقيتها والتخلص منها في البحار أو الأودية أو الأنهار، أو استخدامها في الزراعة أو الصناعة بعد التأكد من سلامتها الصحية، أما إذا كانت هناك مصانع تُخلف أنواعا معينة من الملوثات فلا بد أن تكون لها شبكة صرف خاصة بها لأن مجاري تلك المصانع تحتاج لإجراءات وتقنيات مختلفة عن إجراءات وتقنيات تنقية مياه المجاري العادية.
وكلنا نعرف الظروف التي نشأت فيها مدينة نواكشوط بموقعها المنخفض عن سطح البحر، وخلوها من نظام للصرف الصحي أو صرف مياه الأمطار ما عدا الشبكة الجزئية التى وُضعت بحي ( كابيتال ) بطول 30 كيلومتر والتي هي جزئية من عدة نواحي، جزئية لأنها لم تمتد إلى الأحياء والمقاطعات التي نشأت في العاصمة بعد ذلك في السبخة والميناء ولكصر وتيارت وتفرغ زينه، وجزئية لأنها كانت خاصة بالمجاري المنزلية دون مياه الأمطار، وجزئية كذلك لأنها لم تكن مزودة بنظام لضخ المجاري خارج المدينة وتنقيتها والتخلص منها، وإنما كانت هذه المجاري تُجمع في خزانات تحت الأرض ظلت تتسرب في باطن الأرض إلى أن تشبعت التربة فأصبحت هذه الخزانات تفيض بمحتوياتها وأصبح لابد من تفريغها بواسطة الصهاريج.
تطورت الأحوال بعد ذلك وتمددت المدينة، وتزايد منسوب تهاطل الأمطار الموسمية، ووصلت مياه آفطوط السحلي وتم إطلاقها في شبكة التوزيع المتهالكة، فتشبع باطن الأرض ببحر من المياه المتسربة من الشبكة ومن مياه الأمطار، تمده من بعد ذلك سبعة أبحر من مياه المجاري المنزلية ومحطات غسيل الأفرشة والسيارات، وبالطبع فعندما تتشبع التربة بالمياه فإن قدرتها على امتصاص المياه تنخفض إلى الصفر أحيانا، وبدل أن تتسرب المياه للأسفل تصعد للسطح مشكلة البحيرات والمستنقعات التي لا يكون من سبيل لإزالتها سوى الشفط.
الشبكة التي نتحدث عنها اليوم شبكة جزئية هي الأخرى وإن كانت أكبر، جزئية لأنها مخصصة لصرف مياه الأمطار دون صرف المياه الأخرى، وجزئية لأنها شملت بعض المقطاعات دون غيرها، وجزئية لأن تكلفتها كانت 15 مليار أوقية فقط ولا نعرف ما إذا كانت حتى 100 مليار أوقية أو أكثر ستكون كافية لإقامة شبكة للصرف الصحي في مدينة مترامية الأطراف خالية من أي نظام للصرف، فهي إذن شبكة مرحلية أولية جاءت لإنقاذ الأحياء الأكثر تضررا في مقاطعات السبخة، والميناء، وتفرغ زينه، والأحياء الواطئة في مقاطعات لكصر وتيارت، وقد أضيفت لها الأحياء الواطئة أيضا من مقاطعة دار النعيم، وذلك في انتظار المشروع الأكبر والأشمل الذي سيكون هو مشروع الصرف الصحي بمعناه الحقيقي الذي يصرف ويضخ كل النفايات السائلة في العاصمة بمختلف مصادرها، مياه مجاري منزلية، ومياه أمطار، ومجاري مصانع ومنشآت..
ويمكننا أن تصور مدى تعقيد وحجم تكلفة هذا المشروع الأشمل في مدينة كنواكشوط إذا أخذنا في الاعتبار أن كل شارع من شوارع هذه المدينة المترامية الأطراف، وكل زقاق من أزقتها ستمر منه الأنابيب، وكل خزان منزلي لمياه المجاري سيتم ربطه بتلك الأنابيب، إلى غير ذلك من إقامة خزانات التجميع ومحطات الضخ.. وعلينا أيضا أن نأخذ في الاعتبار التعقيدات الفنية لهذا المشروع بحكم طبيعة البناء في العاصمة الذي يأخذ شكلا أفقيا وليس رأسيا، ذلك أنه لكي تكون هناك عمليات ضخ فعالة لشبكة صرف المجاري المنزلية يتطلب ذلك أن تكون المباني على شكل عمارات سكنية تنتج كميات معتبرة من المجاري تُولد ضغطا ذاتيا يدفع مياه المجاري بقوة في الشبكات، وهذا ما ليس عليه الحال حيث كل أسرة تسكن في بيت مستقل ولا تنتج من المجاري ما يولد ذلك الضغط من أجل الضخ، وهذا النمط من العمران لا يشكل عائقا بالنسبة لشبكات الصرف الصحي فحسب، بل يشكل عوائق أخرى من خلال تمدد المدينة أفقيا لا رأسيا وبالتالي صعوبة وزيادة تكاليف الإمداد بالخدمات من مياه وكهرباء وصحة وتعليم، بالإضافة إلى صعوبة، إن لم نقل استحالة، السيطرة على الأمن في أحيائها وأزقتها..!
علينا كذلك أن ندرك أن تلك المدن التي يقول لك البعض إنه في الوقت الذي تنهمر فيه الأمطار عليها لا ترى مستنقعات عل إثرها، فذلك يتطلب أن تكون كل شوارع المدينة معبدة وساحاتها مبلطة، والمساحات الفاصلة بين الشوارع والمباني مرصوفة.. لأنه في حالة إقامة شبكات لصرف مياه الأمطار ذات فتحات في شوارع غير معبدة ومرصوفة، خاصة في بلد صحراوي كثير العواصف كبدلنا، ستعمل الأتربة على سد تلك الفتحات، وتأخذ مياه الأمطار معها الأتربة والوحل إلى داخل أنابيب الصرف فتفقدها القدرة على سحب المياه وضخها.. ولذلك رأينا أن الفنيين الصينين الذين نفذوا شبكة صرف مياه الأمطار في نواكشوط زودوا الشوارع المعبدة والمرصوفة وسط العاصمة بفتحات لصرف المياه إلى الشبكة، بينما لجأوا في الإحياء ذات الشوارع غير المعبدة في السبخة والميناء ولكصر وتيارت إلى استخدام أنابيب اسمنتية خاصة مزودة بثقوب صغيرة يتم الحفر لها وتغطيتها بالحصى ونوع خاص من القماش لتعمل تلك الأنابيب على امتصاص الماء الجوفي دون تسرب الأتربة والطين..
ورغم أن التقييم الفعلي لفعالية هذه الشبكة هو ذلك التقييم الفني الذي يجريه فنيون بالطرق العلمية المعروفة، إلا أن هذه الشبكة التي قلنا إنها كانت شبكة جزئية استعجالية لإنقاذ الأحياء التي لم تعد تحتمل انتظار المشروع الأشمل كانت لها انعكاسات مرئية تمكن ملاحظتها في هذه الأحياء وذلك على النحو التالي :
1ـ التحسن الواضح في وضعية حي سوكوجيم PS الذي جفت شوارعه وعاد إليه سكانه واستؤنفت فيه عمليات البناء والعمران.
2ـ في بعض هذه الأحياء المتضررة كان كل من يحفر لإقامة أساس بيته تنبع له المياه بدءا من السنتيمترات العشر الأولى، وهو ما تراجع اليوم بشكل ملحوظ.
3ـ خلال عمليات إجراء الدراسة الأولية ( prelevement ) من طرف الفنيين الصينيين في هذه الأحياء لا حظنا نفس الشيء من خلال امتلاء الخنادق الصغيرة التي كانوا يحفرونها بعمق 30 إلى 40 سنتيمتر، واليوم لاحظنا في نفس الأحياء عمليات الحفر لكوابل الانترنت والعمال يقفون في هذه الخنادق حتى منتصف قاماتهم دون أن تتدفق لهم المياه الأرضية كما كان في السابق.
3ـ بعض الأسر في هذه الأحياء كانت تضطر لتفريغ خزانات المجاري المائية لبيوتها مرتين وثلاث مرات شهريا، واليوم لم يعودوا في حاجة لذلك، أو اصبحوا يلجأون إليه مرة واحدة في الشهر حسب الاستهلاك المائي في البيت.
4ـ جفاف وموت بعض أنواع النباتات المائية كنباتات التيفا المعروفة محليا ب ( يور ) والتي لا تعيش إلا في المستنقعات، وكذلك أنواع أخرى من النباتات شبه المائية كبعض أصناف نبات السعد ( souchet odorant ) التي لا تعيش هي الأخرى إلا في الأراضي الغدغة قريبة الماء الجوفي، والتي اكتسحت بعض الأحياء، وقد ماتت هذه النباتات أو تراجع انتشارها في الأحياء التي كانت تكسوها، وإن كان انتشار هذا النوع من النباتات المائية وشبه المائية في هذه الأحياء يعطى دليلا على أن المياه التي صعدت للسطع في بعض أحياء العاصمة هي مياه عذبة وليست مياه البحر المالحة، ذلك أن هذه الأنواع من النباتات لا تعيش إلا في المياه العذبة..
5ـ دائما ومن الناحية الإكولوجية فإن أشجار النيم المعروفة محلية ب ( كينين ) والتي هي أشجار حساسة للأراضي سيئة الصرف، والتي كانت منتشرة في كل مقاطعات العاصمة قد ماتت خلال السنوات الأخيرة في كل من مقاطعات السبخة والميناء وتفرغ زينة، وبدأت تعاني في مقاطعات لكصر وتيارت بسبب قرب الماء الأرضي، إلا أن ما بقي منها حيا في بعض المقاطعات بدأ يستعيد نموه بشكل طبيعي بعد انخفاض منسوب الماء الأرضي والتحسن في تهوية التربة.
6ـ كذلك فإن انعكاسات هذه الشبكة على المقاطعات التي شملتها واضحة حتى على سطح التربة الذي كان رطبا على الدوام وأصبح اليوم جافا تثير حركة المارة والسيارات غباره..
وقد أخبرنى أحد الفنيين المشرفين على عمليات ضخ هذه الشبكة أنهم لا يستطيعون اليوم ضخ مياهها بالقدرة الكاملة لمحطات الضخ، وذلك لطبيعة التركيبة الهشة لتربة العاصمة والتي أظهرت الدراسة أنه في حال الضخ المكثف والسريع للمياه فقد تنجم عن ذلك انهيارات في التربة مما قد يلحق الضرر بالمباني وهو ما أضطرهم للضخ التدريجي والحذر، وأنه لولا ذلك لكانت انعكاسات هذه الشبكة أكثر وضوحا..
وعليه فقد حققت هذه الشبكة الغرض منها والمتمثل في إنقاذ المقطعات والأحياء المتضررة، وحسنت كثيرا من الوضعية فيها في انتظار تنفيذ المشروع الهيكلي الشامل الذي تجري دراسته منذ سنوات وتتم اليوم تعبئة موارد تمويله، والذي كما قلنا سيكون معقدا ومكلفا ولكن لا بقاء ولا استدامة للعاصمة بدونه، فضلا عن ضروراته الأخرى الصحية والبيئية.