تحديات ما بعد الاستقلال / باب ولد أحمد ولد الشيخ سيديا

لا يبدو استقلال الجمهورية الاسلامية الموريتانية حدثا عابرا تتلقفه الأفواه دونما النظر إلى السياقات التى أنتجته وأفرزته وأثرت في بناء الدولة، فكان الحدث  استثنائيا بكل المقاييس الحالمة فى عالم مثالي تتمايز فيه وجهتا نظر و تتقاربا حين الحاجة، وإن كانتا تتفقان فى رمزية الحدث ودلالاته المعرفية فى مجال جغرافي ظل عصيا وصعب التحول من حال بادية وعصبية فـــــــــى الأشكال والنماذج المقدمة فى زمانه التاريخي الطويل إلى خطاب آخر يتمثل فى انسيابية نظام الحكم والانتقال من قيم القبيلة والنماذج الشكلية المتعود عليها إلى أنماط معاصرة تغيب فيها الفردية والتعاطي مع الماضي التاريخي على شكل قواعد ثابتة وراسخة تنزل المنازل وتعطى الأفضلية بفضائلها وأعطياتها عن حق أو غيره.

كانت البلاد كغيرها تعيش وفق قواعد اجتماعية أهلية بالأساس تستوحي من أثر موجود فى الميراث العربي الإسلامي على العموم، قوامه وسنده البحث  فى المتخيل الأسطوري حول النشأة والبدايات الإلهامية المتعددة الأوجه والمعادة السياق فى كل اللحظات حين الحاجة أو إبراز عارض أو حدث من شأنه أن ينسف بالمرتكزات والمبادئ فى غياب السلطان الجامع، بالتالى فالشخص الأسطوري الرمزي بدلالاته الاجتماعية والمنفعية سيكون حاضرا فى الأخيلة والوجدان محددا ما يجوز وما لا يجوز له الحكم القيمي وله التصور المرجعي. وإن كان الحال يختلف فى النماذج  والبلدان نظرا لتعدد اللحظات واختلاف السياقات فى المجتمعات المغاربية و التحولات العميقة التى شهدتها طيلة مراحلها التاريخية خصوصا فى المراحل المعاصرة إبان الاستعمار وقيام الحركات القومية النهضوية الداعية إلى التحرر والنضال و المنافحة عن كل كبرياء ماضوي واستعادة الأمجاد والتخلص من الثوب المقيت للاغتراب بدلالاتيه المقصودتين هنا، ليكون الخلاص من أغلال المعاش حيث تتلاحم كل القوى والأطراف فى مشهد درامي جدا الهدف منه نشوء الدولة المعاصرة والوطنية على اختلاف المشارب والتوجهات والمنطلقات.

فكان استقلالنا كغيرنا من أبناء الجوار مدفوعا وحتميا بمقتضيات الزمن مع النظر إلى الاختلافات والأنماط بالضرورة وأخذ كل حال على حدة رغم السياق البنيوي الجامع للأطراف، لكن المشهد الموريتاني كان مختلفا جدا لدلالتين أو معطين نحسبهما على مقدار كبير من الأهمية:

ـ التحول من الأنماط التقليدية على المستوى الشكلي وتبدل الخطاب فى الأحكام بمنطق المدارات واستغراق الذمة والخطاب القبلي الداعي إلي رص الصفوف والبحث عن كل ما من شأنه أن يشكل مرجعية قوامها وسندها إيجاد المتخيل السلطوي الغائب الحاضر .

وقد كان هذا التحول مدفوعا باللحظة المعاصرة من جهة والسياق الدولي وتبدل الأحوال التى عايشها القوم من جفاف ومن استحداث مدن تتعانق فيها المصالح والدعة والترف فى الأرزاق والمنازل، والحق أنه فى مبتدئه لم يكن تصورا مؤسسا على فكر سياسي أو تحول عميق شهده المجتمع على الرغم من التصدعات المشهودة والمعروفة فى تلك الفترة، برغم ما كانت هجرة منطقية لمجموعة من التراكمات بينة وواضحة فى تاريخية المجتمعات فى بحثها عن كل ما من شأنه أن يساهم فى رخائها واستقرارها.

ـ التأسيس للدولة المعاصرة بعد فترة طويلة من النضال على المستوى النخبوي ومناقشة الأفكار واختلاف وجهات النظر على أساس من الميراث الاستعماري أو الأبعاد المختلفة التى كانت محل نقاش مستفيض من قادة الرأي وأهل الحكمة، ورغم أن هذا النقاش تمحور فى مواضيع من قبيل الهوية وطبيعة النشأة انسجمت هذه الآراء وتآلفت رغم الاختلاف البنيوى لتتشكل الدولة المعاصرة، ولتعيش الساكنة لحظة فارغة من تاريخهم يتراءى فيها الانسجام والوحدة المفقودة.

وعلى الرغم من  التضحيات الجسام ودور النخب المعارضة أو المثقفة في  الشكل الحديث للدولة فإنها كانت آراء سياسية نخبوية تسير فى اتجاه واحد، ولم تكن بذلك الأثر الشعبي الصاخب، بدليل عدم استيعاب اللحظة الاستقلالية ومواكبتها طيلة مراحلها، بالإضافة إلى غياب الاجتهادات الشرعية  المواكبة لتلك الأحداث الجسام والتطورات المتسارعة المتكيفة مع اللحظة المعاشة لعامل بسيط يفهم حين قراءة المتخيل السياسي والأنماط المعتمدة فى تأسيسه.

ففى هذه اللحظات النادرة فى مخيال الشعوب والمتميزة فى تاريخها يُبحث فى مفاهيم من قبيل الانعتاق والتخلص بكل معانيه الدلالية والمقصدية من حال هش وبنية ضعيفة تعيش فى ظل  قتامة المستقبل و ضبابية الواقع المعاش، لتتحول تلك اللحظات بفعل فاعل ورؤية منظر ملهم إلى واقع تتعانق فيه الذات بأحلامها والضمائر المرهفة بأحاسيسها النادرة وعقلياتها الجديدة فى تحولها وفهمها لمقاس الأحداث فى بناء دولتها وخلق التصورات التجديدية الكفيلة لرصد تلك التمظهرات.

وعموما فقد واكب هذا الاستقلال بعض المظاهر التي أعاقته و مازالت تقف حجرة عثرة وراء التصور الحداثي للدولة  وما يراد من الحاكم والمحكوم، لعلها تبرز فى اشكاليات مصيرية من الضروري إيرادها فى هذه العجالة التحليلية من أجل وضع خلاصات عامة  لمستقبل واعد، إذ تكمن في:

ـ الابتعاد عن الأشكال المعتمدة والنظر إلى التصورات القبلية كآراء فى الحكم لها قدسيتها والتحول تدريجيا من النمط القبلي المؤسس ثقافيا واجتماعيا إلى معايير تنتهج الوطنية والمصداقية الأخلاقية فى بناء دولة معاصرة ينسجم فيها الجميع بمبدأ الإخاء، وعدم الإحساس بالغبن بأنواعه ومضامينه.

ـ حسم الاشكاليات المصيرية بأنواعها وتشعباتها وتعقيداتها البارزة للعيان منذ دولة الاستقلال وحتى فى أيام الناس هذه؛ من قبيل هوية البلاد والخطاب السياسي الموحد الجامع لبني هذا المجال الجغرافي بحسم الانتماءات والفوارق والاحساس باللادولة والغبن والتهميش وقول كل متقول مهما كان فى مصائر الناس وتاريخيتهم ونسف مرتكزاتهم إلى حس وطني شامل ومرتكز بين وواضح.

ـ الابتعاد عن المحاصصات القبلية و التأريخ للمجتمعات لا بمنطق الفرد وإنما بالمبادئ الجامعة التى لا تنفي  الآخر ولا تتأسس على المفارقات والمقاربات الصورية لمجال أو جهة معينة بمرتكز ينبني على توحيد الجهود وكتابة تصور عام يخضع للمعايير المعروفة بين أهل الاختصاص، ولعل دعواتنا المتكررة فى إنشاء مركز وطني للأبحاث والدراسات يتأسس على رقابة ما ينشر وما يؤلف بدافع الذات والقبيلة وإعادة كتابة كل شئ وفق الأهواء والملل، إلى منطق آخر ترعاه الهيئات الرسمية بدافع الغيرة والحس الوطني المرهف وإعطاء كل ذي حق حقه على مبدأ من الكتابة الحقة المبتعدة عن كل تصور ذاتي تكثر دواعيه فى زماننا وتبرز مضامينه وأسبابه المتكررة فى المجتمعات القبلية وتكرار مسوغات وأفكار معروفة لا بصياغتها التجديدية وإنما الرجعية الصادمة والمعوقة لأي اتجاه تجديدي.

ورغم كل هذه الأسباب وغيرها مما بقي قصد الاختصار وعدم الإطالة، تبدو الجمهورية في الوقت الحالى في مسار توافقي يجب تنميته والعمل على صيانته في إطار من  الشرعية الانتخابية وممارسة الفعل السياسي الناضج المتجاوز للخلاف والفرقة والنابذ لكل ما من شأنه  أن يؤثر على مسار  التنمية في البلد وتطوره .

لذلك فإن المواطن المخلص لوطنه   فى هذه اللحظات يبتعد عن التحليل الأكاديمي البحت لتبرز ذاتيته الحالمة والمتفائلة، والاحتفال باليوم الخالد كغيره من أبناء جلدته متذكرا المآسي والمحطات المفصلية فى تاريخ المنطقة، والأمجاد الخالدة لأبناء  الأمة الموريتانية متمنيا الغد الأفضل والمستقبل  الواعد لها. وللاه الأمر من قبل وبعد.

 

 

 

 

 

 

27. نوفمبر 2019 - 0:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا