لعل من أهم الأسئلة التي يطرحها الموريتانيون في أيامهم هذه، هي تلك الأسئلة المتعلقة بوضعية الرئيس محمد ولد عبد العزيز من بعد خروجه من القصر الرئاسي، فهل ستبقى للرئيس السابق بعض الأدوار المباشرة أو غير المباشرة في إدارة شؤون البلاد؟ أم أنه سيقبل أو سيجبر على الابتعاد النهائي عن شؤون الحكم، وأن يكون حاله في ذلك كحال بقية الرؤساء السابقين : سيدي ولد الشيخ عبد الله ومعاوية ولد الطايع ومحمد خونا ولد هيداله؟
سأحاول في هذه الورقة الكاشفة أن أجيب على هذه الأسئلة مع لفت الانتباه إلى أن هذه الورقة هي مجرد ورقة تحليلية، وتختلف عن سابقتيها، فهي لن تقدم لكم معلومات جديدة، وذلك لأنها ـ وببساطة شديدة ـ لا تمتلك تلك المعلومات، ولكنها في المقابل ستناقش وتحلل ما تتداولونه من فرضيات، وذلك من أجل الخروج باستنتاجات قد تكون صحيحة وقد لا تكون كذلك، ولكنها ستبقى في كل الأحوال، استنتاجات متماسكة منطقيا.
إن البحث عن أي استنتاجات متماسكة منطقيا حول تلك الفرضيات يستوجب من قبل أي شيئ آخر طرح السؤال الأهم: أي أوراق ضاغطة سيمتلكها ولد عبد العزيز من بعد خروجه من السلطة؟
يغيب عن الكثيرين ممن يتوقعون حضورا قويا للرئيس المنصرف خلال المرحلة القادمة، أن الرئيس ولد عبد العزيز سيخرج من السلطة يوم 2 أغسطس 2019 ويداه خاليتان تماما من أي ورقة ضاغطة يمكن أن يؤثر بها مستقبلا، وسنبين ذلك من خلال النقاط التالية:
1 ـ على الصعيد السياسي: مهما اختلفنا حول تقويم إنجازات الرئيس محمد ولد عبد العزيز خلال عشريته، فإن الشيئ المؤكد هو أن الرئيس ولد عبد العزيز لم يؤسس خلال هذه العشرية نظاما سياسيا قائما على نواة صلبة، وبالتالي فهو لن يخلف وراءه "تركة سياسية" يمكنه أن يوظفها مستقبلا كورقة ضاغطة على خلفه.
فمن كان يُفترض بهم أن يشكلوا نواة صلبة لنظام ولد عبد العزيز، ومن كان يفترض بهم أن يكونوا هم الورقة الضاغطة سياسيا أو "اللوبي السياسي" لولد عبد العزيز من بعد خروجه من السلطة، هم الآن في حال يرثى له، فالكتيبة البرلمانية تفككت وتفرق أعضاؤها وتشتتوا ولم يعد لديهم أي حضور ولا أي تأثير يذكر.
فمن كان يصدق بأن محسن ولد الحاج سيكون نسيا منسيا في آخر عهد ولد عبد العزيز، ومن كان يصدق بأن ولد محم قائد الكتيبة البرلمانية والشخصية السياسية الأكثر تأثيرا في نظام ولد عبد العزيز سينتهي به المطاف مستقيلا أو مقالا؟ ومن كان يصدق بأن منت عبد المالك الشخصية الأقوى انتخابيا في نظام ولد عبد العزيز سينتهي بها المطاف محاصرة أبروتوكوليا و مهددة ببعثات التفتيش؟ ومن كان يصدق بأن وزير العدل ووزير النطق السابقين (دعاة التمديد والمأمورية الثالثة) سينتهي بهما الحال، ما بين وزير مقال، وسفير ممنوع من تأدية مهامه؟ ومن كان يصدق بأن رئيس البرلمان الحالي وهو الذي كان يُعتبر من أقرب المقربين من ولد عبد العزيز ومن أخلص خلصائه، من كان يصدق بأن علاقاته بولد عبد العزيز ستنتهي بمثل هذا الجفاء الحاصل بينهما حاليا؟
إن من كان يفترض بهم أن يكونوا هم أقرب المقربين سياسيا من ولد عبد العزيز، هم الآن الأكثر بعدا منه أو عنه، الشيئ الذي يعني بأن ولد عبد العزيز لن تكون له جماعة ضغط سياسي يمكن أن يؤثر بها من بعد خروجه من الرئاسة، حتى وإن هو أراد ذلك، ورجاءً فلا تحدثوني عن بقايا الحزب الحاكم ولا عن الأغلبية البرلمانية، فتلك الأغلبية ستكون وجهتها معروفة من بعد حفل التنصيب.
2 ـ على صعيد المؤسسة العسكرية والعلاقات مع الخارج: كان يمكن لولد عبد العزيز من بعد خروجه من السلطة أن تبقى له بعض الأوراق القوية على مستوى المؤسسة العسكرية وعلى مستوى العلاقات ببعض الدول الخارجية، وكان يحتمل أن يستخدم تلك الأوراق للضغط على خلفه، ولكن مع ترشح غزواني ومع فوزه فلم يعد لتلك الأوراق أي قيمة، فغزواني هو ابن المؤسسة العسكرية وهو من تولى قيادتها بكفاءة خلال العشرية الأخيرة، وغزواني بالإضافة إلى ذلك يمتلك علاقات جيدة مع بعض الدول الغربية والخليجية المؤثرة، وكل ذلك يعني بأنه لن تكون هناك ثغرة لا على مستوى المؤسسة العسكرية، ولا على مستوى العلاقات الخارجية، يمكن لولد عبد العزيز أن يستغلها مستقبلا لممارسة أي نوع من أنواع الضغط العسكري أو الضغط الخارجي على الرئيس المنتخب.
3 ـ على مستوى الوسط الاجتماعي الضيق: تميزت فترة حكم ولد عبد العزيز بحالة فريدة من نوعها لم نلاحظها مع الرؤساء السابقين، فالرئيس ولد عبد العزيز هو أول رئيس موريتاني تتضرر قبيلته خلال فترة حكمه. صحيح أن هناك أشخاصا من قبيلة ولد عبد العزيز استفادوا كثيرا خلال العشرية الأخيرة، ولكن الصحيح أيضا هو أن هناك أشخاصا آخرين من نفس القبيلة تضرروا كثيرا خلال العشرية الأخيرة. اللافت في الأمر أن من استفاد من قبيلة الرئيس خلال العشرية هم أشخاص غير مؤهلين للعب أدوار ذات "نفع عام" داخل وسطهم الاجتماعي الضيق أو داخل مجتمعهم بشكل أعم، وأولئك الذين تضرروا في العشرية هم الذين كانوا يلعبون أدوارا ذات "نفع عام" داخل وسطهم الاجتماعي الضيق وداخل مجتمعهم بشكل أعم. من المؤكد بأنه سيبقى هناك من يقول ويكرر دائما بأن قبيلة الرئيس قد استفادت من العشرية الأخيرة، ولكن الحقيقة تقول، وإذا ما نظرنا إلى هذا الأمر بنظرة شمولية، بأن قبيلة الرئيس قد تضررت كثيرا خلال هذه العشرية، وأن أهم رجالها كانوا خلال السنوات الماضية على الخطوط الأمامية في مواجهة ولد عبد العزيز.
يظهر من النقاط السابقة بأن الرئيس ولد عبد العزيز سيخرج من السلطة ويداه خاليتان بالفعل من أي أوراق ضغط، وحتى داخل وسطه الاجتماعي الضيق، فإن ولد عبد العزيز لن يكون له كبير تأثير من بعد خروجه من السلطة.
بمنطق تحليلي بحت فإنه يمكننا أن نقول ـ وبكل اطمئنان ـ بأننا سنكون في المرحلة القادمة أمام رئيس منصرف لا يملك أوراق ضغط تذكر، ورئيس منتخب يمتلك كل عناصر القوة وبيده كل أوراق اللعب، فهذا الرئيس بالإضافة إلى أنه رئيس منتخب، ويمتلك بالتالي ورقة الشرعية، فإنه يتمتع أيضا بدعم المؤسسة العسكرية، ويلقى قبولا من طرف أهم الدول الخارجية ذات التأثير، هذا فضلا على ما يحظى به من عمق شعبي.
هذا هو الاستنتاج المتماسك منطقيا والذي يمكن أن نخرج به من نقاش وتحليل الفرضية السابقة، ولكن يبقى سؤال آخر قد يقودنا إلى فرضية أخرى، يقول السؤال: ماذا لو تنازل الرئيس المنتخب طوعا أو كرها عن بعض صلاحياته للرئيس المنصرف؟
نعم هذه فرضية أخرى يتداولها البعض منكم، ولذا فهي تستحق النقاش، فالرئيس المنتخب الذي يمتلك كل عناصر القوة قد يمنح ـ لسبب أو لآخر ـ بعض الصلاحيات والنفوذ للرئيس المنصرف، وربما يتمكن الرئيس المنصرف من إدارة ذلك النفوذ الممنوح له باحترافية كبيرة قد تمكنه من استعادة بعض أوراق اللعبة التي كان قد فقدها، وهي الأوراق التي سيكون بإمكانه أن يستخدمها مستقبلا للتأثير المباشر أو غير المباشر في إدارة شؤون البلاد في المرحلة القادمة.
في اعتقادي الشخصي أن احتمال تحقق هذه الفرضية سيبقى من الاحتمالات الضعيفة جدا، وذلك لسببين اثنين:
أولهما : أن الرئيس المنتخب والذي كان على اطلاع كبير على تفاصيل ما جرى خلال الستة عشر شهرا التي قضاها الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله في الرئاسة، لابد وأنه يدرك ـ أكثر من غيره ـ خطورة فكرة تقاسم السلطة أو منح نفوذ قلَّ أو كثر للرئيس المنصرف. إن الرئيس المنتخب لابد وأنه يدرك أكثر من غيره خطورة التنازل عن بعض صلاحياته، ويدرك أن أهم درس يمكن أن يخرج به من تجربة سيدي ولد الشيخ عبد الله هو أنه لابد من ممارسة كل صلاحيات الرئيس ومن أول يوم، وإلا فإن الأمور ستبقى مفتوحة على أسوأ الاحتمالات.
ثانيهما: يُعرف عن الرئيس المنتخب بأنه كان متفرغا في الفترة الماضية لإدارة المؤسسة العسكرية، ولم يكن يتدخل ـ ظاهريا على الأقل ـ في العمل الحكومي، بل أكثر من ذلك فقد تمت إقالة وزراء وموظفين كبار محسوبين عليه. فإذا كان الرئيس المنتخب قد تجنب خلال العشرية الماضية التدخل في مهام وصلاحيات صديقه (الرئيس المنصرف)، فلا شك أن ذلك يقتضي أن يصر الرئيس المنتخب على تأدية مهامه وممارسة صلاحياته كاملة غير منقوصة ودون أي تدخل من صديقه (الرئيس المنصرف). إنها معادلة بسيطة جدا يجب أن تحكم العلاقة بين الصديقين أو الشريكين : لقد تركتك تؤدي مهامك كرئيس دون أي تدخل مني، وهو ما يستوجب منك أن تتركني أؤدي مهامي كرئيس ودون أي تدخل منك.
وبالرغم من وجاهة هذه الحجج فإنه سيبقى هناك من يتبنى هذه الفرضية، بل وسيبقى هناك من يذهب أبعد ليقول بأن الرئيس المنصرف قد يُمنح بشكل أو بآخر صفة أو مهام الرجل الثاني في الفترة القادمة. في اعتقادي الشخصي أن ذلك لن يحدث أبدا، وللتذكير فإن صفة "الرجل الثاني" في النظام كان قد تم القضاء عليها من طرف الرئيس المنصرف نفسه.
لقد عمل الرئيس المنتهية ولاياته خلال فترة حكمه، وخاصة في مأموريته الثانية، على تشجيع الخلافات والصراعات بين أقطاب نظامه، فعشنا صراعات بلا أول ولا آخر بين ولد محمد لغظف وولد حدمين وولد محم في فترة لاحقة، وغيرهم من أركان النظام، ولم تمنح صفة "الرجل الثاني"، لا لولد محمد لغظف في فترة توليه للوزارة الأولى، ولا لولد حدمين بعد تعيينه وزيرا أول، ولا لولد محم من بعد توليه لرئاسة الحزب الحاكم.
لقد دخل كل أقطاب النظام خلال المأمورية الثانية في صراعات وخلافات بلا أول ولا آخر، وكانت تلك الصراعات والخلافات تؤكد بأنه لا أحد من أولئك المتصارعين كان يحمل صفة "الرجل الثاني"، فلو أن أيا منهم كان يحمل تلك الصفة لتمكن من حسم الصراع لصالحه. لنخرج من هذه الفرضية باستنتاج يقول بأن من قضى على صفة "الرجل الثاني" في فترة حكمه، لن يكون من حقه أن يحلم بصفة "الرجل الثاني" في فترة حكم رئيس آخر.
هل من فرضية أخرى؟
نعم هناك فرضية أخرى، وستبقى بالنسبة لي هي الفرضية الأنسب والأصلح في مثل هذا الوقت لبلادنا، وتتلخص هذه الفرضية في أن يخرج الرئيس المنتهية ولايته من المشهد السياسي بشكل كامل، وأن يقبل بوضعية رئيس سابق يعيش في وطنه بأمان، كما هو الحال بالنسبة لسيدي ولد الشيخ عبد الله ومحمد خونا ولد هيداله.. هذه الفرضية التي أراها هي الأنسب تستوجب أن يقبل الرئيس المنتهية ولايته أن يخرج وبشكل كامل من المشهد السياسي، فما لم يحققه ولد عبد العزيز لموريتانيا خلال عقد كامل من ممارسة سلطة شبه مطلقة، لن يستطيع تحقيقه في السنوات القادمة، ومن خلال محاولة التأثير على الأحداث من وراء حجاب. وإذا كان من دور ما سيلعبه الرئيس المنتهية ولايته في المرحلة القادمة، فليكن ذلك الدور من خلال المشاركة في الأنشطة الدولية بوصفه رئيسا عربيا وإفريقيا قبل بالخروج من السلطة بعد انتهاء مأمورياته الدستورية. يمكن في هذا الإطار أن يَترشح الرئيس المنتهية ولايته أو يُرشح لجائزة "مو إبراهيم" للعام 2019، وهذه الجائزة ـ وكما هو معروف ـ تعد من أهم الجوائز الإفريقية، وخاصة من حيث قيمتها المادية.
إن الفرضية الأنسب تتطلب أيضا أن يفهم بعض المهتمين بالشأن العام ـ وخاصة من فسطاط المعارضة ـ بأن فتح ملفات الفساد في مثل هذا الوقت، والمطالبة بمحاسبة الرئيس المنصرف، بأن كل ذلك ليس في مصلحة موريتانيا، حتى وإن كان قد يشفي غليل البعض.
إن فتح ملفات فساد شائكة من قبل اكتمال السنة الأولى من مأمورية الرئيس المنتخب سيؤدي إلى إرباك المشهد، ولن يساعد في تثبيت أركان حكم الرئيس المنتخب، ثم إن الفساد كان قد عم في هذه البلاد، وقل من نجا منه في العقود الأخيرة، ولذا فإن فتح ملفاته قد لا يسلم منها حتى أولئك الذين يطالبون اليوم بفتح تلك الملفات.
لا يعني هذا الكلام ـ بأي حال من الأحوال ـ أن الحرب على الفساد لا يجب أن تكون هي أولوية الأولويات، نعم يجب أن تكون هذه الحرب هي أولوية الأولويات في المرحلة القادمة، ولكن من أجل ضمان كسب هذه الحرب فإنه يجب الابتعاد عن فتح الملفات الشائكة في السنة الأولى، والاكتفاء في هذه السنة بمحاربة الفساد عن طريق الصرامة في التعيينات حتى لا يستفيد منها إلا الأكفاء وأصحاب السير النظيفة، مع عدم التساهل في عقوبة أي موظف يمارس فسادا كبيرا أو صغيرا من بعد حفل التنصيب وأداء القسم.
ختاما
تقول الفرضية الأنسب بأنه على الرئيس المنتهية ولايته أن يخرج بشكل كامل من المشهد السياسي فذلك هو الأسلم له ولموريتانيا، وإن هو أصر على ممارسة "حقه" السياسي، فسيكون من حق خصومه السياسيين أن يصروا هم أيضا على ممارسة حقوقهم السياسية، ومن تلك الحقوق المطالبة بفتح تحقيق شامل حول تسيير شؤون البلاد خلال العشرية الماضية.
ــــــ
* تم نشر هذا المقال الاستشرافي قبل عدة أشهر، وتحديدا في يوم 22 يوليو 2019، وكان ضمن سلسة أوراق كاشفة تم نشرها في ذلك الوقت. أعدتُ نشر هذا المقال دون أي تعديل، وذلك بمناسبة ما جرى ـ وما يجري ـ من أحداث وهزات سياسية بعد عودة الرئيس السابق إلى أرض الوطن.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل