عيد استقلالنا الأول / مصباحة بنت ولّاد

 أفشي سرا إذا قلت إنني احتفلت لأول مرة في عمري بعيد الاستقلال من أعماق قلبي.. لقد كنت في المعمعان حاضرة في مدينة أكجوجت وهي مدينة زرتها، ومررت بها كثيرا قبل هذا اليوم، ولكني رأيتها أول مرة بعين مختلفة، كما أحسست أني أرى موريتانيا بعيون مختلفة، وأن عينا في قلبي انفتحت لرؤية بلد آمنت به منذ الصغر وعشقت كل ذرات رمله، وكل أحجاره، وكل سباخه.

لقد كنت من أوائل الداعمين للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ورأيت فيه حلما بوطن حرمنا منه، وحرمنا من الإحساس بوجوده، ومع أن الحلم كان كبيرا، وكانت الثقة على قدره، فلا أبالغ إذا قلت إنني لم أتوقع في أي وقت من أوقات الحملة الانتخابية، ولا بعدها، ولا قبلها، أن يكون تحقق الحلم بهذه السرعة وبهذه الطريقة.

كنت أستمع إلى خطابات الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يوم كان مرشحا، وسمعت منه أكثر من مرة رؤيته لموريتانيا، وكانت العبارة الأكثر ترددا هي أن موريتانيا تسع كل الموريتانيين، والحق أني اكتشفت الآن أني لم أكن أدرك قصد الرجل بما يكفي، ولم تكن هذه العبارة تأخذ مساحتها الحقيقية في كياني، ولكني حين رأيتها مجسدة بأم عيني استعدتُ وقعها كأني أسمعها تتردد كل مرة في كل مكان من حولي.

كانت الكلمة مجسدة أمامي على منصة الاستقلال، وأحسست أن الأرض من تحت قدمي تقول إنها تسع الجميع. لقد شاهدت على المنصة وزراء الحكومة الحالية، وهم يبتسمون في وجه وزراء سابقين غادروا صف الموالاة إلى المعارضة، وشاهدت في عيون الجميع فرحة غامرة، كأنهم أحباب يلتقون لأول مرة بعد فراق دام دهرا. شاهدت بنفسي الحفاوة التي استقبِل بها الزعيم أحمد ولد داداه، والرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، ورأيت مستوى الحميمية بين الرجلين، وهما خصمان سياسيان، وكأن المكان قد ألغى كل شيء سابق في العلاقة بين تلك الأطراف التي عاشت الخصام والقطيعة، وبدأ في كتابة تاريخ جديد لعلاقة الأحباب بالأحباب.كانت موريتانيا المستقلة المتصالحة يتقدمها قائدها الهادئ إلى سكينة وئام لم تجرحها الأجواء السياسية المتشنجة التي خلفناها وراءنا في العاصمة نواكشوط. لقد كان يوم الاستقلال عيدا لنسيان أحقادنا، وتفاهاتنا، وآلامنا الصغيرة، ونزاعاتنا الحقيرة، وشعرنا أن شيئا أكبر من كل تلك التفاهات يجمعنا، وأن وطنا يولد الآن بين أيدينا، ويجب أن نشعر بفخر الانتماء إليه والعيش في كنفه.صدقوني لو واصلت إلى نهاية ما أستطيع من الحديث والكتابة فلن يكون ذلك إلا عناء ضائعا في سبيل إحصاء ما لا أقدر على إحصائه من مشاعر اجتاحت كياني وأنا أقطع تلك المسافة ذهابا وإيابا بين العاصمة ومكان الاحتفاليةفي الأيام التي سبقت الاحتفالية الكبرى يوم الثامن والعشرين كنت منفعلة إلى أبعد الحدود بالصداع السياسي الذي أثارته زوبعته عودة الرئيس السابق، واجتماعه بلجنة تسيير الحزب الحاكم، ومع ثقتي في قدرة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وفريقه على تبديد تلك العاصفة بهدوء تام كما وقع بالفعل، فقد كنت مهمومة بمحاولات التشويش على مسار بدأت معالمه تتضح شيئا فشيئا مع انتهاء المائة يوم الأولى من حكم الرئيس غزواني. وكان هذا الهم يصاحبني طيلة الرحلة إلى أكجوجت، ولكني نسيته تماما بمجرد حلول ليل الثامن والعشرين، وتوارد الأخبار عن بدء وصول المدعوين الكبار إلى المدينة لتخليد اللوحة التاريخية لموريتانيا. وكانت طريق العودة تحليقا في ذلك العالم السحري الذي فتحت عليه عيوني صبيحة يوم الاحتفال الأغر.لقد عدت وأنا أكثر إيمانا بهذا المشروع، وأكثر إصرارا على مواصلة الإيمان به، وأكثر ثقة في أن غده سيكون فجرا مشرقا ينعم فيه كل الموريتانيين بوطن لا ظلم فيه، ولا غبن ولا تهميش. فليعش ذلك الأمل وليبزغ ذلك الفجر الصادق، فقد آمنا أنه آت لا محالة، وأنه أقرب مما  توقعنا، وأكثر جمالا مما تخيلنا، وأكثر مناعة وأقوى على موجهة الصعاب، وإخماد الحرائق، وتهدئة العواصف مما حلمنا.

 

1. ديسمبر 2019 - 1:15

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا