مفهوم التطوع بين اللغة والدين والمجتمع / د.محمد نافع ولد المختار ولد آكه

التطوع مكرمة؛ إذ هو في عرف أهل السياسة والاجتماع تبرع وتنازل عن جزء من الذات لصالح الغير، وفي ثقافة الإسلام صدقة وإحسان –عمل صالح يثيب الله عليه فاعله بالحياة الطيبة في الدنيا وبأجر الآخرة.

رغم أصالة هذا الحكم على "التطوع" لا بد من البدء أولا بتعريفه بواسطة تسليط الضوء عليه من أهم زواياه حتى تكمل صورته، وقديما قيل إن الحكم على الأشياء ينبغي أن يكون فرعا عن تصورها. ولما كانت أهم الزوايا المناسبة لاستيعاب المطلوب هنا هي ما يجري على الأسن من تداول، وما ثبت في محكم الكتاب وبيانه المطهر، وما رسخ في أذهان الناس على مر العصور في حالتي أفراحهم وأتراحهم... رأيت أن هذه المناحي الثلاثة هي مناطات الوصول إلى المطلوب، فعقدت له هذا العنوان: «مفهوم التطوع بين اللغة والدين والمجتمع».

أولا – التطوع في بعده اللغوي:

التطوع مصدر من الفعل الخماسي (تَطَوَّعَ) على وزن (تفعَّل) المفيد معنى التكلف والمشقة، وهو آت من الفعل الأجوف واوي العين طاع (أصله: طَوَعَ) بمعنى: انقاد، ووافق، ونوى فعل الخير بأن حاوله وهذا يختص بالمزيد فيه الخماسي. جاء في (أساس البلاغة) للزمخشري: «طوع: أقرَّ طائعا، وفعل ذلك طَوْعا وطواعية»... إلى أن يقول: «وهو مُتَطَوِّع بذلك: متبرع ... وتطاوع لهذا الأمر وتَطَوَّعَ له: تكلف استطاعته حتى يستطيعه». وفي (لسان العرب) لابن منظور: «الطَّوْع: نقيض الكَرْه»... إلى أن يقول: «وتطَوَّع للشيء وتطوَّعه، كلاهما: حاوله»، وفي (المعجم الوسيط): «تطوَّع: لان». أما ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) فيقول: «الطاء والواو والعين أصل صحيح واحد يدل على الإصحاب والانقياد»، ثم يقول: وأما قول العرب «في التبرع بالشيء: قد تطوَّع به [فمعناه] انقاد مع خير أحب أن يفعله، ولا يقال هذا إلا في باب الخير والبر».

أما الشريف الجرجاني فيقول في (معجم التعريفات): «التطوع: اسم لما شرع زيادة على الفرض والواجبات»، وهذا تعريف اصطلاحي فقهي قريب جدا من التعريف اللغوي عند الخليل بن أحمد الفراهيدي حيث يقول في (كتاب العين): «والتطوع: ما تبرعت به مما لا يلزمك فريضته».

من خلال هذه الجولة السريعة ضمن جمهرة من المعاجم المحكَّمة يمكن استخراج معاني التطوع اللغوية: التبرَّع، وتكلُّف الاستطاعة حتى يستطيع، والمحاولة، واللِّين، والانقياد مع خير أحب أن يفعله، والتبرَّع بما لا يلزم فريضةً.

فتِلْكم ستة معان تَفِي بالغرض لِما شمِلت من: بذل للغير طواعيةً، حتى ولو أدى ذلك إلى تحمُّل المشقة، مع نية حسنة ولِينِ جانب، وسعْي لفعل الخير، وكل ذلك دون لزوم أصليٍّ ولا إلزام طارئ.

ثانيا – التطوع في الإسلام:

لم يرد لفظ (التطوع) اسما هكذا في القرآن الكريم، إنما ورد بصيغة الفعل الماضي مرتين وفي آيتين من سورة البقرة – فُسْطَاط القرآن: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة/158]، ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهوَ خَيْرٌ لَّه﴾ [البقرة/184].

في هاتين الآيتين الكريمتين كان لفظ التطوع صريحا بصيغة الفعل، وارتبط دائما بالخير كما نبه عليه ابن فارس في مقاييسه آنفا. أما تلميحا، فحدث ولا حرج من أوجه عديدة:

  • القرآن، وبيانه من السنة الصحيحة، كله خير وداع إلى الخيرات بأجمعها، وهو منبع الفضيلة وأصل الدين، ومع ذلك فالأخذ به عمل طَوْعِي؛ لأن الله تعالى يقول في محْكَمه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة/256].
  • تَوارُد نصوص الوحي على الحث لفعل الخير: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة/148]، ﴿مَنْ يَّشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾ [النساء/85] ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج/77]...
  • ورود نماذج كثيرة تحدث عن تطوع الصالحين: أما موسى عليه السلام ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ [القصص/24]، وأما سيدنا الخضر برفقة تلميذه موسى عليهما السلام ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَّنقَضَّ فَأَقَامَه﴾ [الكهف/77] – فالخضر أقام الجدار الذي كان سيسقط رغم أن أهل القرية (الأيلة) التي فيها الجدار أبوا أن يضَيِّفوه هو وصاحبه...

فمفهوم التطوع في الإسلام يؤخذ من الصورة الحسنة التي رسم له، سواء من خلال الحث عليه مباشرة أو بواسطة الثناء على المتطوعين باعتبارهم فاعلي خير يستحقون المثوبة من جنس أفعالهم الطيبة.

ثالثا – التطوع في مفهوم المجتمع:

        للاقتراب من (التطوع في مفهوم المجتمع) ينبغي البدء بصياغة تعريف اصطلاحي يكون في نفس الوقت استثمارا للمفاهيم المؤصلة آنفا من جهة، واقتطافا مجتمعيا لثمرات ذات المفاهيم التي تتراءى يانعة وحان قطافها من جهة ثانية. فمن أبرز التعريفات التي مرت حتى الآن تعريفان، أحدهما للجرجاني: «التطوع: اسم لما شرع زيادة على الفرض والواجبات»، والآخر للخليل بن أحمد: «والتطوع: ما تبرعتَ به مما لا يلزمك فريضته». وبالإضافة إلى هذين التعريفين، استخلصتُ صياغة لمجمل المعاني المعجمية التي تم تناولها، فالتطوع من خلالها هو: بذل للغير طواعيةً، حتى ولو أدى ذلك إلى تحمُّل المشقة، مع نية حسنة ولِينِ جانب، وسعْي لفعل الخير، وكل ذلك دون لزوم أصليٍّ ولا إلزام طارئ.

        بتجميع ودمج هذه المفاهيم أستسمح القارئ الكريم في الجرأة على وضع التعريف التالي:

        التَّطَوُّعُ: مَا بُذِلَ مٍنْ جَهْدٍ مادِّيٍّ أو مَعْنَوِيٍّ، لَيْسَ مُلْزِماً، وَهوَ ذُو نَفْعٍ يَعُمُّ.

        فهذا التعريف أرجو أن يكون قد شمل المعاني الواردة، وتحاشى الغموض الملحوظ في التعريف بـ(التبرع) وكذلك التخصيص بما (شُرِعَ) مع إمكان اعتبار هذا الأخير خصوصا يراد به العموم –أو يمكن أن يراد به على الأدق- على طريقة (علم أصول الفقه).

        بالفراغ من وضع تعريف اصطلاحي ذي صلة بالنفع العام الذي هو مقصد اجتماعي بامتياز، أرجو أن أكون قطعت نصف المسافة نحو مفهوم المجتمع للتطوع، ثم أكِلُ النصف المتبقيَ للنظرة العامة التي ينظر الناس بها إلى الشخص المتطوع الذي يضعونه في خانة ذوي التضامن، والتكافل، والتعاون، والتبرع، والجود، والكرم، والسخاء... وكلها ألفاظ ذات صلة بلفظ (التطوع). فالمتطوع هو شخص صالح؛ تصالح:

  • مع ذاته، بأن اكتشف قدراته الخاصة واستثمرها فيما ينفع العامة؛
  • مع وسطه الاجتماعي المحيط به، بحيث استطاع أن يطلع على نقائص يحتاجها الناس وتجاوز ذاته لخدمتهم أجمعين؛
  • مع الطبيعة والبيئة، بتقديم خدمات مجانية تصلح للحاضر والمستقبل معا...

وفوق كل هذا، يرجو المتطوع رضا الله تعالى ويستجلب معونته؛ «والله في عون العبد مان كان العبد في عون أخيه».

يتبع

2. ديسمبر 2019 - 20:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا