عندما ينضج الشعب الموريتاني سياسيا وفكريا! / المرابط ولد محمد لخديم

 لم أهتم يوما بالسياسة في هذا البلد لأنني كنت أعتقد أن هذا الشعب مثل غيره من الشعوب العربية مازال لا يفقه كثيرا في السياسة.. ولكن الأحداث المتسارعة والغير مسبوقة فرضت علي كغيري من المراقبين أن نعيد النظر في المفاهيم التي كانت سائدة على مدى عقود من الزمن..
اذا رجعنا الى الوراء قليلا:
   فعلى الصعيد السياسي كان أبرز ظاهرة في هذا الصدد هو خلو البلاد من سلطة مركزية تطبق الشرع وتدبر أمور الناس، ويتحاكم إليها الخصوم في الوقائع، فلم تعرف البلاد الشنقيطية بعد العهد المرابطي أية سلطة مركزية ولا نظام في الحكم حتى نهاية العقد السادس من القرن العشرين عندما أعلن عن دولة الاستقلال تحت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية في 28 نوفمبر 1960م.
وهذا ما يسمح بالقول أن التاريخ السياسي للبلاد أمتاز بسمة من البداوة يعززها غياب للسلطة المركزية، فكان ذلك دافعا إلى صياغة جملة من الأسماء تلح في معظمها على وصف هذه الأرض بالخروج على السلطة والحكم والابتعاد على الخلافة والنظام، ومن هذه الأسماء "البلاد السائبة" وقد تحدث الشيخ" محمد المامي" عن خلوها من مقومات الملك والسلطان كالدرهم المسكوك والأمير المطاع يقول: 
" هي البلاد التي لا حكم فيها ولا دينار ولا سلطان بادية في فترة من الأحكام بين المملكتين البوصيابية في الجنوب والإسماعلية في الشمال"، ولاشك أن مسألة السيبة أو التسيب كان لها تأثير كبير على أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية، فلعلها هي التي حملت علماء الشرع على أن يكيفوا الكثير من الأحكام البدوية وفق النموذج القائم فاجتهدوا قدر الممكن والمتاح في المصالح والمقاصد بل إن هذا الاستثناء ولد عند أهل الذكر قناعة بعدم جدوى دولة النظام، خشية الفتنة والفساد وقد عبر الشيخ "محمد اليدالي" عن جانب من هذا التوجس مبينا جهل الناس يومئذ بأمور الحكم وفقه السياسة.
  ويعتبر ماقام به رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في احتفالية الاستقلال الوطني التاسع والخمسون بمدينة أكجوجت وقبلها في مهرجان وادان المدن القديمة من تقارب بين أطياف الشعب الواحد في لوحة غير مسبوقة جمعت رؤساء وزراء وقادة للمعارضة التقليدية والغير تقليدية وشخصيات علمية وافدة من الخارج كل هذا سيشكل بلا شك أساسا واعدا للإجماع الوطني ويفك الارتباط تلقائيا بالقبيلة ويحث على التمسك بالنظام والدولة.
  والأسئلة التي تطرح نفسها: هل تأقلمنا مع المدينة والحضارة ؟ أم أننا مازلنا بداة في الحضر؟؟ وهل نحن في فرگان و(محاصر) تجمعات تقليدية؟ أم نحن في مجتمعات صنعها المستعمر قبل أن يرحل وبناها على منهجه وفلسفته؟ أم نحن في فوضى عامة واختلاط بين هذا وذاك؟ 
  قد يكون هذا الجواب الأخير أقرب إلى الصدق وإذا كان الأمر كذالك فان علينا أن نقوم بالإجراءات التالية:
    مراجعة مقاصد وبنى مجتمعاتنا على أساس واضح معتمدين على واقع دولي يحيط بنا ولا يمكن تجاهله وعلى مقاصد وأهداف وأساليب إسلامية يجب احترامها.
_أن نبني ونراجع مؤسساتنا على أساس هذين البعدين البعد المحيط بنا والبعد الإسلامي..
فنحن في الشكل بدو وفي المضمون الإسلامي حضر بداوة مثقفة تشكل استثناء تاريخي ينحبس مابين نهر السنغال ورمال الصحراء  لكن فيه فجوات يجب أن تملأ وأن تعالج حتى تتلائم مع هذه البنية المزدوجة الإسلام والبداوة العالمة التي هي أبعاد بنيتنا الاجتماعية..
وهذا ما يتطلب دراسة وتحليلا من خبراء على معرفة تامة بخفايا المجتمع الموريتاني الفريد من نوعه؟‼
      الناس فى البداوة, ينتجون _ كما يذكر ابن خلدون _ من السلع والأدوات ما يعد ضروريا لبقائهم على قيد الحياة, فعالمهم هو عالم الضرورة المعزول _ تقريبا_عن المرهفات.
   أما في المدن, فالوضع مختلف, فالسلع الضرورية أصناف, والسلع الكمالية أشكال وألوان. وكلما أغرق الناس في الحضارة, اتسع مدى لاختيار لدى الواحد منهم. 
    لكن البداوة في المفهوم الخلدوني تختلف عن بدواتنا لأن بداوته أمية وبداوتنا مثقفة وقد نقلتها المفاهيم الإسلامية في مختلف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية نقلتها الى تصورات من الناحية النظرية عميقة لكنها من حيث الواقع غائبة وهذا ما يمكننا من الاستعانة بأنماط الفتاوى التي صدرت عن علمائنا في البادية نستعين بها في مليء ذالك الفراغ الحضاري
 ونحاول أن تكون تصوراتها جزءا كبيرا من ثقافتنا ونحن ولو كنا نشكر علمائنا الكبار الذين لم يتعرضوا لبعض الأحكام الغائبة في البدو مثل الجمعة والجهاد وبيع الأهوية لكننا في نفس الوقت يجب مليء هذه الفقرات حتى تكون لنا سندا حضاريا وفي هذا المجال نشيد بالعلامة الشيخ محمد المامي الذي حاول أن ينشئ فقها بدويا..
  ومن هنا نطلب من علمائنا المعاصرين أن ينشؤا لنا فقها معاصرا فالدارس يدرك ضرورة التعرف على مختلف العلوم الاجتماعية والرياضية والفلسفية...
  وهذا سيساعدنا في النقلة من البداوة الموجودة عندنا إلى حضارة إسلامية شاملة وهذا مايقتضي من محاظرنا توسيع مجالاتها لاستيعاب المفاهيم الحضارية وبعبارة أصح استرجاع بعض المعلومات التي كانت عندنا في الرياضيات حيث برهن علماؤنا من خلال المعاملات إلى توسيع دائرة الاحتمالات لتشمل جميع المجالات... 
   في حياة البداوة يميل كل شيء إلى البساطة والعشوائية والتفكك, لأن مصالح الناس وأوضاعهم لا تتطلب شيئا غير ذالك , كما أن الأدوات التي تساعدهم على تنظيم ارقى  لحياتهم, ليست متوفرة.
   أما في الحضر فان لحياة تميل دوما نحو التعقيد, فتتبلور مجموعة من النظم العقلية والمادية والعلائقية التي لا تستقيم حياة المدينة بدونها,ولا يسع الناس الخروج عليها.
فعلى سبيل المثال نجد أن تنظيم الوقت والدقة في الأداء والمواعيد أمور لا يحيا الناس في المدينة بدون قدر مقبول منها, في المدينة تتسع علاقات العمل والزمالة والعلاقات الأسرية, على حساب علاقات القرابة والجوار..
   إحساس الناس بالأزمات ,وإحساسهم بالمستقبل يمسى أشد, حيث لاشيء في المدينة يمكن الحصول عليه مجانا, وحيث يسود الخوف مما تأتى به الأيام _ على الرغم من الوفرة _  وذالك بسبب ضعف الدعم لاجتماعي الذي يحصل عليه ابن المدينة في حالة تعرضه للمخاطر.
   وتأسيسا على هذه المقارنة نجد أن التحضر تطور في جميع البني والنظم والأوضاع المختلفة, لكنه تطور يمكن أن يكون مجوفا, ويمكن أن يكون ممتلئا بتطور المضامين والأسس التي يقوم عليها تحول الناس من التنقل والرعي إلى لاستقرار والصناعة. وهنا لابد أن نشير إلى الفرق بين المدينة والحضارة, فا المتمدن هو الذي يسكن المدينة والمتحضر هو الذي يسكن الحواضر, لكن حين وجد كثير من الباحثين والمفكرين أن ارتقاء حياة الإنسان  ذو بعدين أساسين: بعد شكلي وبعد داخلي _ رأوا أن يطلقوا مصطلح (المدنية) على ما يتم من ارتقاء في مضامين الحياة الحضرية, ومصطلح (الحضارة) على الارتقاء الشكلي الذي يتمحور حول وسائل وأدوات الإنتاج وطريقة تنظيم البيئة.
إن الآراء والأفكار والنظم التي ننتجها بغية إصلاح شأننا العام، تحمل على نحو دائم طابع البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأنا فيها.
ويمكن تلخيصها في النقاط النالية:
  كون البلاد كانت بدون سلطة مركزية تطبق الشرع وتدبر أمور الناس منذ العهد المرابطي حتى ميلاد الجمهورية الإسلامية الموريتانية في 28 نوفمبر 1960 أي قرابة 1000 سنة من البداوة.
- طابع البداوة و السيبة المميزين للبلاد.
- انتماء المجتمع للقبيلة لا إلى الدولة.
- ثقافة هموم بدوية لا علاقة لها بالمدينة.
تفاعل هده الانتماءات ومكانة الصراع الأموي والأبوي. 
التطور من البادية إلى المدينة ارتجال فوضوي, 
  يظهر هذا جليا في تصرفاتنا الطائشة وعلاقتنا مع بعضنا ومع الآخرين فانتهكت قدسية الزوجية وأصبحنا ننتهج رؤية مفروضة علينا بدون أن يكون لنا أدني دخل في تغيرها  وهي رؤية العقل الغربي الذي ينطلق إلى قراءة مادية للذات والوجود، قراءة لا تنظر إلى الغايات بل تحول كل كينونة ـ حتى كينونة الإنسان ذاتها ـ إلى أشياء أدوات استعماليه. وهذا ما يفسر: 
  - تشوفنا إلى استهلاك أحدث منتجات العصر، وهذا التشوق من غير حدود، ولا يعرف الإرتواء، فنحن بهذا الوصف أكثر حداثة من المنتجين للسلع والأدوات الكمالية أنفسهم. فتجد في أسواقنا آخر الكماليات من سيارات وموبيلات والخطورة تكمن في أن هذا البدوي الفطري أصبح كل همه هو التنافس للحصول عليها مهما كلف الثمن!! 
_ الحكم لغريزة القوة ،وليس لعقلانية النظام والمنطق والحق والعدل، فالبطولة خارج القانون تتعمق في الحياة يوما بعد يوم.
 _ وسائل الإعلام ـ ولاسيما الفضائيات والانترنت ـ تحرك غريزة الجنس وتحطم كل الآداب المرعية في هذا المقام، مما جعل سلوك بعض الناس ـ من كبار وصغار- يتجاوز بخطوات السلوك الجنسي لبعض البهائم.
  - علو شؤون الجسد، واتساع استخداماته على حساب شؤون الروح والمعنى.
  - تضاؤل الحوار والتفاهم والتنازل، وغلبة الهوى والإعجاب بالرأي.
  - جمع المال لدى كثير من الناس أصبح غاية في حد ذاته، ولا يعرفون ماذا يصنعون بما يكدسون من أموال.
 تأثير هذا كله في مواجهة الحداثة ورواسب البداوة؟؟ 
   والنتيجة الحتمية هو عدم تأثرنا بهذا الواقع الجديد عند دخولنا إلى المدينة, كردة فعل كتلك التي تحدث للبدوي عند اصطدامه بمنهج حياة جديد, يختلف جملة وتفصيلا عن حياته التي كان يعيشها لأن زاده غير كاف لمواجهة حضارة ساحرة الإغراء كثيرة الأحابيل، ولمواجهة هذه المدنية يجب علينا ابتكار نماذج جديدة للتغيير تنسجم مع عقيدتنا، وأهدافنا، وعقلنا الجمعي الإيجابي، وتستوعب طبيعة التحديات المتصاعدة لأن الحياة في المدينة تشهد تزاحما كبيرا، مما يضيق المساحة التي يشغلها كل فرد، وكل أسرة، وهذا يتطلب اكتشاف الغير وتقبله، والاعتراف بوجود الاختلاف بين الناس، واحترام نمط حياة الآخرين، ومن ثم اعتبار القيود الاجتماعية شيئا نسبيا، مع أهمية تعلم التعايش والتكيف والتسامح...  
  إن الزحام الذي يشتد في المدن يوما بعد يوم، يثير الكثير من المشاعر العدوانية، ومشاعر الضيق والتذمر من جراء الشعور باقتحام المجال الخاص الذي يرسمه كل واحد لنفسه في ثقافة لفريگ المتعودة على أطناب الخيمة,التي تحدد الكثير من سلوكياتنا فمثلا للحصر: مسألة الاستئذان والتي هي سلوك مدنيي وشرعيي مازلنا حتى الآن لا نعطيها أي اهتمام حتى وإن إعترضتنا جدران الاسمنت,,وكذالك مظهر الخيمة البدوي الحضري... 
وهكذا فالرؤية المتعددة، توفر نوعا من التوازن العقلي والشعوري، وتحسين سوية المقارنة، مما يعبد الطريق في النهاية نحو التنمية المتكاملة...
  وإذا كان لفريگ هو الحاضن لثقافة المجتمع الموريتاني جغرافيا, فان القبيلة هي روح وأساس هذه الثقافة. لكن على ماذا تتأسس العواطف القبلية عموما؟
    يعرف ابن خلدون العصبية القبلية بأنها (الالتحام بالنسب) محللا مفهوم النسب بأنه مجرد معتقد قد يكون وهميا, إلا أن الظروف الطبيعية لنحلة المعاش البدوي تجعله أمرا قادرا على إثارة الحمية وتوحيد المشاعر أمام الأخطار الخارجية خصوصا.
  غير أن المميز الأساسي للالتحام بالنسب هو قيام هذا المعتقد على معنى " اشتراكي" كما يرى الخبير الاجتماعي محمد محمود ولد سيد يحي يقضى بالتساوي النظري لجميع أبناء القبيلة لأنهم جميعا ينحدرون من أصل واحد.على حد تعبيره...
   ولهذا يقول ابن خلدون إن القبائل في بيئتها البدوية لا تعرف سلطة حاكم حقيقي ينفرد بالمجد عن أفراد قبيلته ويقهرهم بأحكامه وإنما يكون هنالك رؤساء تطبعهم روح أبوية أكثر منها سلطوية. يشرفون على تنظيم القبيلة في حالة الغزو ورد الاعتداء, ولا ينفردون  برأي  دون مشورة بقية مشايخ المجلس القبلي.  
غير أننا لم نتوقع أن تستمر القيم  القبلية فاعلة في سياق سياسي آخر لا يعرف المساواة  ويقوم على ( التباين والتدرج الاجتماعي ) كما أسلفنا. 
 وهو ما نشاهده اليوم واقعا, في ظل الدولة. والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم تتأثر القبيلة بالنهج المغاير السابق؟
  يرى ابن خلدون المعتمد على واقعه الاجتماعي الذي عاش مرحلة مشابهة اندمجت فيها المجتمعات البدوية الهلالية  بالحواضر السياسية المغربية محاولة إقامة دولة على أساس عصبي.
     أن القبيلة بمجرد اندماجها بالسلطة السياسية القائمة على الهرمية تفقدها طابعها الاشتراكي , ويبدأ السلطان بالتميز عن باقي أهل عصبته ,وينفرد بالمجد دونهم , مما يقضى عليه بأن يخسرهم .ومن ثم تتفكك العصبية في الجيل الثاني  لكي تترك مكانها لعصبية صاعدة...
  إلا أن هذه البداوة ريفية ذات ثقافة مقيدة بينما بداوتنا صحراوية ثقافتها غير محدودة..‼ 
   ولعل هذا هو السبب وراء استمرار الوظيفة السياسية للقبيلة في ظل الدولة الحديثة التي تتميز بالتباين والتخصص والطبقية والبيروقراطية.. ؟‼
  فهل يفك رئيس الجمهورية الارتباط مع هذه المؤسسة البالية(القبيلة) التي طالما حرص على قيامها وتفعيلها رجال أثرو في الحكومات السابقة؟ بعدما نجح في تكوين شبه اجماع وطني مختزلا بذالك ألف سنة من البداوة والسيبة!(*)
الهوامش:
(*):مقتطفات مختارة من كتابنا: تائه يبحث؟! (تحت الطبع) بالاشتراك مع العلامة الشيخ حمدا ولد التاه.
 

4. ديسمبر 2019 - 0:28

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا