كثيرا ما تشكل ذكرى عيد الاستقلال الوطني بالنسبة للشعوب، فرصة للتوقف في المقطوع من الطريق نحو النماء والتقدم ومناسبة للتأمل في الأولويات واستشراف المستقبل..
ومن خلال نظرة عكسية في الزمن، يترآى لنا الماضي بحقبتيه الرئيسيتين المدنية والعسكرية.
أما الأولى فكانت إرساء للدولة الوطنية وأما الثانية فاستقراءها من خلال ما أفرزت من الأحكام العسكرية أو شبه العسكرية والتي جاءت غلبة أو تغلبا وإن لبست عباءة الديمقراطية، فلا بد للمنصف المؤتمن أن يرى فيها ما يمثل عمر جيل (40 سنة) من الزمن الضائع..
وبشيء قليل من التركيز على فترتيها الكبيرتين، عهد معاوية ولد سيد أحمد الطايع وعشرية محمد ولد عبد العزيز تبدو النماذج المقدمة من دون المقبول إلى السيئ من أنماط الحكم.
فتعليقا على الفترة الأولى، يرى عالم الاجتماع الموريتاني الأستاذ عبد الودود ولد الشيخ أن حقبة معاوية كانت في مجملها شبيهة "للأحكام السلطانية التقليدية"، من جهة التشبث بالحكم -السلطان- ومن جهة إغداق الهبات والعطايا إلى من يظن أنهم الوسطاء الاجتماعيونacteurs de l’intermédiation sociale
(كشيوخ القبائل، الوجهاء، رجال الأعمال، أئمة المساجد والمحاظر، الشعراء والصحافة ...)، في ما يشبه مقايضة واضحة الأطراف: الإتيان بالأصوات مقابل ريع الجمهورية.
وفعلا إبان ذلك الحكم، أضيفت ميزانية التسيير - المعتبرة أصلا- إلى ميزانية الاستثمار للاستهلاك الداخلي ليعيش الموريتانيون فترة داخل فقاعة اقتصادية (bulle économique) ما إن تلاشت فجأة حتى علموا ما حل بهم من الخصاصة والضياع..
أما خلال العشرية الأخيرة، فيكفي توصيفا ما ذكره الباحث والأستاذ محمد المختار الشنقيطي بان محمد ولد عبد العزيز انتهج سياسة "الجمع والمنع"، الجمع له هو ودائرته الضيقة والمنع عن الآخرين وهو جل المجتمع .. وفعلا فقد افرغ محمد بن عبد العزيز ميزانية التسيير من مضمونها وأضاف المداخيل جلها إلى ميزانية الاستثمار ليتحكم فيها من خلال الصفقات تحكم التاجر البارع الذي لا يبقي ولا يذر!
لكن الأدهى والأمر -ومن البلوى ما يضحك- أن الرجل لا يزال إلى اليوم يظن أنه آخر المصلحين وقاهر الفساد والمفسدين. والواقع المحض على حد وصف النائبة السابقة، المجاهدة الكبيرة ، المعلومة منت بلال أنه في الحقيقة هو "إمام المفسدين"..
واليوم ومع إطلالة ذكرى عيد الاستقلال، يتطلع الموريتانيون إلى غد أفضل ويستبشرون خيرا برئيسهم الجديد محمد ولد الشيخ الغزواني. وبما أن المائة يوم الأولى من الحكم تعطيك في الغالب أهم سماته ومميزاته، فإني أجد -لولا أن تعدونني من المتزلفين، وما أكثرهم فينا وما أكرهني بهم !- أوجه من التشابه بين شخصية رئيسنا وشخصية الجنرال دﯕول، أجملها في ما يلي :
- كما جيء بالجنرال دﯕول في فترة صعبة وحساسة إثر انهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة بسبب الانقسام السياسي والتردي الاقتصادي فإن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني جاء عن غير رغبة منه في ظروف يطبعها الانسداد السياسي والتأزم الاقتصادي. أما الانسداد السياسي فمشهود ، لا يتناطح عليه عنزان. وأما التأزم الاقتصادي فإنه إلى حد شبه الإفلاس وفقا لتوصيف رجل الأعمال المعتدل محمد ولد انويكظ. فمن الصعب لما لأهل المال من الحذر غالبا أن يحاجج رجل ذو خبرة ودراية مثله في موضوع ليس له به علم! وعندما يشتد النزاع بين الفرقاء السياسيين، يكبر تلقائيا دور المؤسسة العسكرية بوصفها آخر قوة منظمة وموحدة وتزداد الحاجة إلى اللجوء إلى شخصيات توافقية. فبالنسبة إلى الجنرال دﯕول فإنه كان محل إجماع للنخبتين السياسية والعسكرية. أما هنا فقبل أن ينتخب الرئيس الحالي ترسخت صورة لدى الكثير من الفاعلين السياسيين -ومن ضمنهم المؤسسة الصامتة- مفادها أن محمد ولد الشيخ الغزواني هو فعلا رجل المرحلة، مما حدا به إلى جعلها العنوان الأبرز لحملته الانتخابية: مرشح الإجماع الوطني. وكما يحلو لمؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة التي لا يزال دستورها يحكم فرنسا إلى اليوم، القول بأنه جاء من أجل الإصلاح المؤسساتي فإن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يزهو حين يقول ّ:«إن قاطرة الإصلاح قد انطلقت ». أتصحيح هي أم انتقال أم هما معا؟ تصحيح لنهج سلفه إذا ما أراد بقاء حكمه أو انتقال نحو الدولة المدنية المنشودة إذا ما أراد تخليد ذكره!
- كان الجنرال دﯕول يجمع بين الشدة واللين، بين الصلابة والمرونة، الصلابة على المبادئ والمرونة في ما سوى ذلك. وهو الذي صاح يوما من مايو 1968 في وجه اليسار الفرنسي المنتفض :« !la reforme, oui ; la chienlit, non ». وهذه الجملة على إيجازها عصية على الترجمة ومفادها: للإصلاح نعم، أما الفوضى فلا. ولقد رأينا خلال المائة يوم الأولى من حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني حدثين مهمين ساخنين. الأول في صلب التسيير والتعاطي مع الشأن العام، المتمثل في تظلم الطلاب - أولي 25 سنة فما فوق الحاصلين على الباكالوريا- من الحرمان من التسجيل في مؤسسات التعليم العالي. وبتوجيه من الرئيس فقد أنصفت الحكومة الطلاب. وفي ذلك تعقل وحكمة ورجوع إلى العدل وإعطاء كل ذي حق حقه. أما الحدث الثاني فهو إجراءات التصحيح التي اتخذها وزير الصحة من اجل إصلاح القطاع. هنا الصلابة على المبادئ فريضة. وعليه، سيمثل دعم وزير الصحة إشارة قوية إلى أن قاطرة الإصلاح لا تتوقف إلا لضرورة قصوى.
- إذا كان الجنرال دﯕول فارس الكلمة وخطيب لا يبارى فإني أستشف زهوا في أداء الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لخطاباته ينم عن امتلاكه لتلك النصوص أو قربه من تركيبها وصياغتها. وهو بفصاحته يحيي النص وربما أضاف إليه مسحة وطنية لشد الانتباه وشحن الهمم. ومرد ذلك إلى التكوين الأولي ثم إلى التكوين البشري داخل المؤسسة العسكرية حيث يصبح الخطاب أهم أدوات القيادة.
- يعد الجنرال دﯕول من المهوسين بحب الإجماع ونبذ الخلاف. فكانت كلمة السر في عمله السياسي كله كلمة "التجمع" (rassemblement). ولقد تركها كلمة باقية في أنصاره من اليمين الفرنسي، فما صرفوا كلمة مثل ما صرفوها في عناوين أحزابهم (RPF, RPR, RR…). هنا يوم 28 نوفمبر 2019 انبزغت الشمس على موريتانيا مختلفة، موريتانيا موحدة، معارضة وموالاة على صعيد واحد، يتذكرون ويتأملون في ذكرى عيد استقلالهم. هذه الصورة، على رمزيتها في العلاقات العامة والتي لا شك ستغضب الأصدقاء قبل الأعداء، تنسجم مع العنوان الأبرز لحملة مرشح "الإجماع الوطني" ، وتنبئ بروح تصالحية لدى الرئيس وتشي - على أقل تقدير- بأن أسلوبا جديدا في التعاطي مع الشأن العام سيطبع حكمه..
ومهما يكن من مآلات تجربة الحكم التي بين أيدينا مع تمنياتنا لها بالاكتمال، توفيقا ونجاحا فإن لدينا لأهلها نصيحة ووصية. أما النصيحة فسنكتفي - تخفيفا- بنقطة واحدة مما أشار عليهم به الكاتب الإعلامي الأستاذ الحسن ولد ملاي إعلي، فلا نجد في موضوعها أحسن منها سبكا واستيفاء وهي "حسن الاجتهاد في اختيار المسؤولين والأعوان، من العناصر الصالحة، إيمانا وخلقا وكفاءة، حيث تتشكل للرئيس وحكومته وحولهما بطانة من أهل الخير تشير بالمعروف، وتعين عليه، وتنهى عن المنكر وتحذر منه، وإبعاد كل من قامت الأدلة الدامغة على فساده، من أي مسؤولية قيادية، مع مراعاة الحد الأوسط المرضي من التوازنات العرقية والفئوية والجهوية، بلا محاصصة، ولكن بعدل وقسط وإحسان".
وأما الوصية فالحذر من البطانة السيئة التي كانت حول سلفه وعدم إهمال قدرتها على الإيذاء (capacité de nuisance) لتفننها في أساليب المكر والخداع والتفرقة بين الناس. وهي من دلت بصاحبه في فخ الغرور والتفرد بالحكم لا سيما في المأمورية الثانية..
وللتذكير، فإن الجنرال دﯕول لم يجد أشد عليه من "إخوانه في السلاح" حين أراد ثنيهم عن تكديس المآثر في الجزائر (انقلاب الجنرالات، 1958). وقديما قيل "احموني من أصدقائي وسأتولى بنفسي حمايتي من أعدائي".