تعدد مقاصد نظام الزكاة / أبوه ولد أمحمد

نظام الزكاة من أعظم ما يتميز به ديننا الإسلامي، فهو نظام فريد لم يسبق للإنسانية أن عرفت مثله، وقد كان المسلمون بخير في العصور التي طبقت فيها الزكاة بوعي، وجبيت أموالها بصرامة، وقسمت على مستحقيها بعدالة.

إن تطبيق هذا الركن من الدين الإسلامي بوعي، يحقق من السلم الاجتماعي ما لا يتحقق بكل المبادرات والمعالجات الاجتماعية التي تهدف إلى مكافحة الفقر وتنمية المجتمع، فيستحيل أن تكون النظريات التي وضعها الإنسان لمعالجة مشكلة الفقر أصلح للبشر مما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده وهو أدرى بهم.

إن المقاصد المتعددة التي شرعت لأجلها الزكاة لا يمكن أن تتحقق في غيرها من النظريات الاقتصادية المختلفة، ولا تنحصر هذه المقاصد فيما تحققه من منافع للفقراء والمساكين فقط، بل تتعدى ذلك لتشمل أصحاب الأموال أنفسهم، وأقل ما يتحقق للأغنياء من دفعها تطهيرها لأموالهم، وإذهابها لما فيها من أذى. ومن أعمق مقاصد الزكاة التي لا يدركها الأغنياء في الغالب كونها تسبب حركة للمال لا تتحقق إلا مع الزكاة، فلو تأملنا في النسبة التي تجب على الأغنياء في أموالهم، وافترضنا ضخها في الدورة الاقتصادية كل شهر مثلا، وذلك حسب تمام حول زكاة البعض، أو تمام حصاد الزرع عند بعض آخر، أو غير ذلك من الظروف الاقتصادية، لو تأملنا ذلك لوجدنا أن كل صنف من الأغنياء يمكن أن يحرك بزكاته دورة الاقتصاد، فيستفيد من ذلك الأغنياء قبل الفقراء، لأن الفقير يأخذ المال لأجل حاجياته اليومية، وهذه الحاجيات تشترى من الأغنياء في الغالب، فتعود الأموال من حيث أخذت ولكنه تسلك طريقا آخر حسب حاجة كل فرد.

ولو قررت الدولة أن تنظم وقت إخراج الزكاة بحيث لا يخلو منها شهر من شهور السنة، لساهم ذلك بشكل كبير في الحركة الاقتصادية، فليس في الفقه ما يوجب على الغني تحري دفع زكاته في رمضان فقط أو أيام العيد أو نحو ذلك هذا إذا استثنينا زكاة الفطر.

هناك أيضا فئات أخرى تستفيد من الزكاة لا بسبب الفقر بل لأمور أخرى كقيامها بمهمة التسيير، مثل فئة "العاملين عليها"، أو لأنها تحتاج إلى ما يقوي ارتباطها بالمجتمع، مثل فئة "المؤلفة قلوبهم"، أو لأنها تحتاج إلى إعادة إدماجها في المجتمع مثل فئة "الغارمين" ونحو ذلك.

فهذا وغيره يدل على أن مقاصد الزكاة كثيرة لا يكفي مقال لتعدادها، ولا تنحصر في معالجة مشكلة الفقر فحسب بل تتعدى ذلك إلى معالجة أخطر المشاكل الاجتماعية التي قد تؤثر سلبا على الانسجام والوحدة والتكامل والاستقرار.

ولقد كتب في موضوع الزكاة قديما وحديثا، وأقيمت مراكز بحوث ودراسات في بعض الدول الإسلامية والعربية لهذا الغرض، لكن ما زال موضوع مقاصدها يحتاج إلى زيادة بحث ودراسة. 

ولعل الجهود التي يبذلها وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي، القاضي الداه ولد سيدي ولد أعمر طالب، لإنشاء هيئة للزكاة في موريتانيا، ستفتح المجال أمام المهتمين لتعميق البحوث والدراسات الخاصة بهذا الجانب.

ولكن قبل ذلك لابد من الإشارة إلى أن قيام الهيئة واستمراها لن يتم ما لم تسند رئاستها أو إدارتها إلى عالم واع، قوي، أمين، وذلك لما يلي:

أما إسناد إدارتها إلى عالم واع فلأنه يفترض في القائم على هذه الهيئة أن يكون مع علمه واعيا يعيش الواقع الذي نحن فيه، ويدرك أن فروع فقه الزكاة في بعض العصور قد لا تكون صالحة لعصرنا اليوم، فلم تعد صفات الفقير التي تتحدث عنها كتب الفروع، هي نفسها صفاته في هذا العصر، وحاجيات فقراء اليوم ليست هي حاجيات فقراء الماضي، إذ قد يحتاج الفقير في هذا العصر لمن يدفع عنه فاتورة الماء والكهرباء أكثر من حاجته إلى لقمة عيش مثلا.

ولا بد أن يعي أيضا أن إغناء عدد من الفقراء بالمشاريع المدرة للدخل، أفضل لهم من توزيع النقود بشكل مباشر، ويعي أيضا أن ترتيب دخل لبعض الفقراء خير لهم من إعطائهم المال دفعة واحدة، وخاصة إن كانوا من ذوي الإعاقة الذهنية أو البدنية؛ لا بد كذلك أن يدرك أهمية استثمار بعض أموال الزكاة وتنميتها لصالح الفقراء بحيث تحقق لهم ريعا مستمرا مثل الوقف.

وأما إسناد إدارتها إلى قوي، فذلك لأنه بد أن يكون قادرا على الدفاع عن حقوق الفقراء، يمتلك الشجاعة الكافية والقوة المعنوية اللازمة لأخذ هذا الحق من الأغنياء ودفعه لمستحقه. فبعض الأغنياء لا يريد دفع الزكاة أصلا، وهذا النوع قليل في مجتمعنا ولله الحمد، وبعضهم لا يريد التصريح بجميع أمواله، وربما تذرع بأنها لا تجب فيها الزكاة تارة، وتارة بأنه لا يملك تلك الأموال لأنها بأسماء أشخاص آخرين، وبعضهم يحتال فيفرق مجتمعا أو يجمع مفرقا ليقلل من زكاة ماله ونحو ذلك، وهذه الأحوال كلها تحتاج إلى قوة وفطنة ودهاء في القائم على الزكاة، ليتمكن من إجبار الأغنياء على دفع حقوق الفقراء كاملة.

وأما الحاجة إلى الأمانة في القائمين على هيئة الزكاة فأمر بديهي، وقد ورد في الحديث الصحيح نهي العامل على جباية الزكاة أن يقول هذا لكم وهذا أهدي لي، وذلك يوم كان السعاة يظنون أن ما يعطى لهم على هامش عملهم ملك لهم، أما اليوم فبعض السعاة لم يعد للفقراء حظ معهم، بل جعل بعضهم أموال الزكاة ملكا له وحده شيد منها القصور، وامتلك السيارات الفارهة إلى آخر ذلك.

وانطلاقا مما تقدم تتأكد ضرورة منح رئاسة أو إدارة هيئة الزكاة في موريتانيا لرجل أو رجال علماء، أقوياء، أمناء، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لم يتدنس ماضيهم بأكل المال العام، يعرفون أصناف المجتمع الموريتاني ويميزون بين من يحتاج ومن لا يحتاج ومن هو أحوج من غيره.

والله الموفق.

9. ديسمبر 2019 - 10:16

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا