بينما كان يوجه خطاباً باللهجة الدارجة في بث مباشر من مدينة عنابة إلى الشعب الجزائري، نطق الرئيس الجزائري "بوضياف" هذه العبارات، ولفظ بعدها أنفاسه الأخيرة: "العبد البشر عندو حياة قصيرة، وغدوا رانا رايحين أوكل للممات، لويكتا هو الإنسان كارشفي هاذ المسؤولية وهاذ المسؤوليات .. ولهذا الإنسان مقتدر باسم الله، وعلى هذا كذلك نجعلو يعني تكون مقاييس وتكون كذا في ما يخص المسؤوليات وهي الكفاءة، وهي النزاهة، وهي الإنسان يجي باش يعمل ..الاجتهاد في العمل .. حنا نشوفو هاذ الدول لي فاتتنا باش فاتتنا، فاتتنا بالعلم .. والدين تاع الإسلام …".
قد يبدو غريباً مقعد الرئيس السابق ولد عبد العزيز وهو خاوٍ على عروشه في المنصَّة الرسمية، بعد تلقيه دعوة كريمة من رئيس الجمهورية غزواني، الذي من ضمن خصاله أن للعهد عنده معنى، وبينما الكل يخلِّد بارتياح الذكرى التاسعة والخمسين للاستقلال الوطني، احتسى ولد عبد العزيز نخبَ السادات، الذي فُسِّر غيابه عن الساعات الأولى لثورة يوليو بسبب وجوده في السينما.. هل يا ترى كاريزما ولد عبد عزيز في هذه الغيبة تفوَّقت على زعامة السادات؟!.
وأنا أتابع مقابلة رئيس الجمهورية مع صحيفة "لوموند"، جذب انتباهي مقولته: "يجب أن يكون في استطاعة من وصل لمنصب حساس، كالمنصب الذي أشغله، أن يضبط أمنه الخاص"، وترسخ في أعماقي بعدها نوستالجيا مفهوم بأن غزواني لن يكون بوضياف الموريتاني. لقد أقسم الوطن بلغة النوستالجيا العميقة والمستترة أن لا يعود للوراء وأن لا يمشي مرة أخرى على خنجر، ومهما تعالى صراخ الاستخفاف بالعقول في منابر التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية، ستبقى أية محاولة انقلابية على النهج الديمقراطي الموريتاني الجديد مستبعدة.
لقد كان رئيس الحكومة ولد الشيخ سيديا محقّاً في وضع حد لفضاء الحنين اللامتناهي لعشرية ولد عبد العزيز، فثمة لوحة على أرض الواقع، تحكي دورة حياة العلاقة بين الاتجاهات السياسية والمشاركة الإيجابية في الحياة السياسية، هي استثنائية يستأثر بها العهد الجديد اليوم بالنظام الصحي والتعليمي، واختيار الصفوة السياسية، وإدماج المعارضة التقليدية، وتفعيل محكمة الحسابات، في اللوحة الوطنية الراهنة نرى ذلك الرئيس السابق الذي يحِن إلى الرئاسة مضطهداً، فيحِن إلى شبابه ويحِن شبابه إلى قوته وحضن ثكنته، وأتصوّر أن الثكنات العسكرية تحِن هي الأخرى إلى سيرة أبطالها في الجنّة، وسيبقى التباس الحنين يشجونا كلما دام الحس الوطني عملة نادرة في زمننا الحاضر، ليحِن الانتشار إلى الوحدة وتحِن الوحدة إلى الله.
أخيراً، للرئيس السادات تراجيدية يعبر عنها واقعه المعاش، وللرئيس بوضياف رونقه الذي عجّل بوفاته في ساعة الصفاء، إذ به يجلس على كنبة مستغرباً تهافت البشر على المسؤولية تهافت الفَرَاش على النار، فيبين العمر القصير للإنسان، ويسترسل أهمية الأخلاق المهنية في العمل.. لينطق آخر كلمة له وهي: "الإسلام".. وبين ثورية السادات وثورية بوضياف يجانب الشعور بالعزلة ولد عبد العزيز، وهو يستمع إلى أحد أشرطة مطربه الأقرب إلى مزاجه، ما يترجمه التلحين بالنسبة إليه على منوال عدم وفاء الاتحاديين من حزبه لمن لم يعد في السلطة.. انتهى الكلام.