كلمة الإصلاح هذه تكتب حلقتها الثانية الخاصة بوزارة الشؤون الإسلامية التي تناقش فيها مع تلك الوزارة ما يحتاج له الموريتانيون الذين يذهبون يوميا بالعشرات إلى الآخرة من مساعدتهم في شؤونهم الدينية التي يبدأ الاحتياج لها من ساعة الموت إلى ما لا نهاية .
ومعلوم أن احتياج المسلم الضروري له بعد الموت هو أن يأتي إلى الآخرة وهو صحيح العقيدة طبقا لما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه وعن نفسه للعالم أجمع إلا أنه لا ينتفع بهذا التبليغ إلا من آمن به وعمل به كما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر ربه له بذلك في قوله تعالى((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)) .
وقد أوضحنا في الحلقة الماضية الموجه إلى هذه الوزارة أن العقيدة موضحة في حديث جبريل المشهور التي حصرها في الإيمان والإسلام ـ وأركانهما مع ركن الإحسان الوحيد وهو حضور مراقبة الله لقـلب كل مسلم في قوله وفعله ، وأوضحنا كذلك أن القرآن أكمل هذا الدين في حياته صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بتلك الأركان في قوله تعالى(( اليوم أكملت لكم دينكم )) إلى آخر الآية .
أما المناقشة مع وزارة الشؤون الإسلامية فيما يحتاج له الموريتانيون في شؤونهم الأخروية ولكن قبل ذهابهم إليها فمبناه أن الموريتانيين الأحياء الآن سمعوا عدة مرات من وزير الشؤون الإسلامية السابق أن دين الموريتانيين الذين يؤدونه في الدنيا ويذهبون به إلى الآخرة يتركب من إتباع ثلاث أئمة:
فالعقيدة يتبعون فيها الإمام الأشعري ــ والفقه الإمام مالك ــ والعبادة ما يفعله منها الجنيد ــ ولاشك أنه بنظرة المسلم الفاحص للدين المحدد في حديث جبريل يتبادر أن ما يقوله الوزير يحتاج إلى مناقشة المسلم له قبل أن يموت الموريتاني المسلم ، وذلك للأسباب التالية :
أولا : أنه حاصل بالاستقراء أن كل من مات لا يعود إلى الدنيا ولا يوجد عنه أي خبر ماذا قيل له وبماذا أجاب وما لقي من الخير وعلى أي شيء وماذا لقي من الشر ، فعلى أي مهما كان اعتقادنا نحن في الميت من الخير فلا خبر منه يرجى بمعنى أنه لا يمكن أن نتصور عن هذا المسلم الذي ذهب إلى الآخرة إلا رجاؤنا أنه إذا كان يمتثل جميع ما جاء في الدين طبقا لحديث جبريل أن يكون بإذن الله قد تزحزح عن النار وأدخل الجنة بإذن الله .
وعليه فإن على الوزارة أن تشرح للموريتانيين قبل موتهم ما معنى إتباعهم في العقيدة للأشعري وإتباعهم في الفقه لمالك وإتباعهم في العبادة للجنيد .
اثنان من هؤلاء الأئمة لابد للوزارة من أن تتصور إتباعهما قبل أن تقول إن جميع الموريتانيين يتبعونهما. فالموريتاني تقال لكل من يحمل الجنسية الموريتانية ولاشك أن كثيرا منهم لا يعرف ما هو الإمام أبو الحسن الأشعري فضلا أن يكون عالما بعقيدته حتى لو كان يعلمها، فالعقيدة في القلب بمعنى كل إنسان عقيدته في قـلبه لا يطلع عليها إلا الله ، مع أن أهم موضوع في العقيدة يتعلق بالله وبأسمائه وصفاته وما جاء بعد ذلك في حديث جبريل ، وأسماء الله وصفاته لا يعرف مدلولهما إلا الله ولكن أي مسلم ينطق بالعربية يفهم مدلول هذه الأسماء والصفات عند سماعها ،وفهم هذا المسلم لمدلولها لا يتوقف على فهم الأشعري لها.
فمثلا إذا قال الله((وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم)) أو قال((يعلم السر وأخفى)) أو قال(( وهو عليم بذات الصدور))أو قال ((أنه علام الغيوب)) وأنه هو وحده الذي يعلم غيب السماوات والأرض إلى آخر كل المعاني المندرجة تحت معنى صفات الله فهذا يعرف مدلوله دون الأشعري الموجود بعد ميلاد الأشعري في القرن الثالث الهجري كما علمه المسلم قبل ميلاد الأشعري.
فالعقيدة جزم فلبي بالشيء وتختص بكل فرد وسوف يحاسب عليه كما هو((إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)) . أما قضية الأشعري فالتاريخ يقول أنه كان معتزليا ورجع عن عقائد الاعتزال إلى عقائد أهل السنة، مع أن عقائد أهل السنة إذا اعتقدوا ما جاء في القرآن من مدلول الأسماء والصفات دون مناقشتها فتسميتهم أهل السنة هو تحصيل الحاصل لأنهم عندئذ يؤمنون بالقرآن وما جاء من المدلولات العربية فيه وإذا كان عندهم مدلول آخر غير مأخوذ من الألفاظ العربية فيكون الأشعري ذهب إلى فهم متكلمين آخرين يتكلمون في العقائد بعقولهم وأسماء الله وصفاته لا يفهم مدلولهما من العقول بل من القرآن ومدلول العربية فيه أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم وما فهمه منه الصحابة .
أما إتباعهم لمالك فنقول إذا كان المتبوع فهمه فقط لما يفهم من اللغة العربية في شأن الأحكام فذلك واسع فمثلا عندما تقول الآية في آية الوضوء ((وامسحوا برؤوسكم)) يقول مالك إن الرأس في العربية حقيقة في الكل ولابد من مسحه كله فيقول له أبو حنيفة إن الحقائق باللفظ العمومي تارة يأتيها اللفظ المخصص لجزئها وهنا حديث صحيح للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كانت عنده عمامة ساعة وضوئه وحسر العمامة عن مقدمة رأسه ومسح عليها بباطن يده وذلك استغرق ربع رأسه فقط ، وهذا هو الواجب في الوضوء وهكذا بالإضافة إلى فهمه هذا الذي رتب عليه قواعده التي وضعها للاجتهاد في أي شيء لم يرد فيه نص فحكم العرف أو المصالح المرسلة أو عمل أهل المدينة إلى آخره فإذا ورد نص مفهوم الدلالة والمعنى فلا إتباع لأي مذهب وهكذا مع أن مذهب مالك موضوعه أركان الإسلام التي هي قول ظاهر: الشهادة فلابد من قولها جهرا أو أعمال ظاهرة مثل الصلاة والصوم والحج إلى آخره وكل هذه أفعال تتعلق بالإنسان والإنسان تتغير أحواله فيمكن ألا تعم النصوص جميع أحواله فيعمل بالاجتهاد وهنا اختارت موريتانيا اجتهاد الإمام مالك وأتباعه عن اجتهاد غيره .
أما إتباع الموريتانيين للجنيد المسلم الفارسي أصلا العراقي وطنا هي أغرب كلمة تقولها وزارة تعرف ما يجري في شعبها .
فهذا الشعب كان جله أو كله تتقسمه أئمة طرق لها كلها مسميات خاصة بها ينتسب المسلم الموريتاني فيها للطريق المسماة على منشئها الأول، بمعنى أنه يتعبد الله على تلك الطريقة، وقد قدمنا في الحلقة الماضية أن الطريق والصراط ـ والسبيل ألفاظ مترادفة ولابد بوصفهما بالاستقامة .
فالصراط اشترط فيه الوحي الإلهي أن يكون صراطا مستقيما فلا هذا الاسم للطريق اتبع بالاستقامة مثل الطريق كما قال الله ((وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا )) فتبعية الاستقامة كما قال الله لرسوله ((فاستقم كما أمرت )) تلك الآية التي قال أنها هي ومثيلاتها شيـبته قبل المشيب لصعوبة المحافظة على تلك الاستقامة فهذه الصفة لابد منها .
أما أهل الطرق الموريتانيين مع أني لا أسمعهم يذكرون إتباعهم للجنيد إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه : كيف يتبعون الجنيد في عبادتهم ؟ فالعبادة كلها فعلها وقولها لا يجوز فعل شيء منه إلا إتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كما تقدم لم يتوفى حتى أكمل تبليغه للعبادة اعتقادا وقولا وفعلا وحدده تحديدا وعمل به هو حتى وصل فيه إلى أقصاه، ولا يمكن لأي مسلم أن يكون أعبد ولا أتقى لله من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهنا كان على الوزارة بدل أن تقول أن الموريتانيين يتبعون في العبادة للجنيد الموجود في القرن الثالث أن يقولوا لأهل الطرق الذين سموها على المنشئ لها فمادام المنشئ لها قد توفى وهم يدعون أن كل ما يفعل في طرقهم المختلفة من الطقوس ومن الأعداد في الأذكار إلى آخره كل الاختلافات الموجودة وما أكثرها كما قال تعالى(( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)).
وهنا يجب على الوزارة أن تطرح هذه الأسئلة على أهل الطرق ليكون الجواب تنبها لهم قبل الموت إذا كان مطابقا للحق.
السؤال الأول : هل هذه الطرق كلها مستقيمة وكيف ذلك ؟
ثانيا : هل الأذكار الموجودة فيها هي نفس الأذكار التي جاءت بها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة ولا نقصان .
ثالثا : إذا كانت هي نفس الأذكار فلماذا لا تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم وينسبون هم أنفسهم تبعا لذلك لإتباع النبي صلى الله عليه مباشرة بدون واسطة ؟ فمادام النبي صلى الله عليه وسلم قد توفى والمنشأ للطريق المسماة عليه المنتسب لها الموريتانيون قد توفى أيضا فلماذا اختاروا التسمية على هذا المتوفى أخيرا بدل النبي صلى الله عليه وسلم .
رابعا : القرآن يقول ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم) فبناء على القول القائل بأنه الإمام المتبع في الدنيا فأي إمام سيدعون أهل الطرق معه هل هو النبي صلى الله عليه وسلم أو الجنيد أو المسماة عليه الطرق أو غير ذلك ؟
خامسا : هل الموجود في القرآن من التحذير من دعوة غير الله بما لا يملكه إلا الله مثل قوله تعالى(قل ادعو الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) إلى آخر الآية وقوله تعالى( ومن أظلم ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة)
يتناول هذا النهي ما نسمع من دعاء لغير الله طلبا لقضاء المدعو به .
وأخيرا فإن جواب هذه الأسئلة يكون بتوجيه من يعلم جوابها الموافق للحق لمن لا يعلم جوابها لجهله به أو لعدم مبادرته للذهن ـ حذرا من الجواب الشخصي على السائل الشخصي .
وخلاصة هذا المقال الموجه في الحلقة الثانية إلى وزارة الشؤون الإسلامية هو أن الموريتانيين يتوجهون يوميا إلى مثواهم الأخير إلى أبد الآبدين وبما أن الوزارة مكلفة بالشؤون الإسلامية فإن عليها أن تهتم بشؤون الموريتانيين دينيا على أكمل وجه الذاهبين إلى الآخرة حتى لا يذهب من عندها إلى الآخرة من يرى أمامه عقبات لم تذللها له الوزارة في الدنيا .
وإن من أهم ذلك وأقربه لتذليل العقبات هو استخدام الإذاعة القرآنية في إفهام هذا القرآن كما أنزل للموريتانيين بمعنى أن الفقهاء اهتموا بجانبه العملي أما الجانب العقدي ولا سيما المتعلق منه بالآخرة ومنه المواقف المذكورة في القرآن لأهل النفاق وأهل التملق وأهل الجحود في الدنيا إلى آخره أمام الله يوم القيامة فإن ذكر الجنة ونعيمها وذكر النار وجحيمها في القرآن ليس عبثا فينبغي ونحن الآن مع هذه السلطة وتلك التي رجعت للإذاعة أن نتوجه إلى عمق القرآن وعبارته المباشرة عن الآخرة والتي لا يعرفها إلا الله فينبغي أن يتقدم العلماء المؤمنون الذين يدركون أن القرآن كله لم ينزل على الملائكة ولا على البهائم ولكنه نزل يخاطب كل بشر يطلق عليه الإنسان وسوف يسأل عن فحواه كله من ألفه إلى يائه أي عن ذلك القرآن الذي لو نزلت آياته على الجبال لخشعت وتصدعت من تأثير تلك العبارات الصادرة من خالق السماوات والأرض والجبال .
فإن فتح تلك الإذاعة القرآنية وتركها على مزاج العامل فيها ليقول فيها ما يشاء، لا ما يجب أن يقال فيها من توجيه إلهي عميق تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم إلى آخر الآية ـ فنخاف على من وضعها وتركها هكذا أن يدخل في قوله تعالى(( وكذلك أتتـك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى))