أين هي إدارة المراعي! / محمدو ولد البخاري عابدين     

تُعرف إدارة أو تسيير المراعي ( gestion des paturages ) بأنها علم استغلال المراعي كمورد متجدد للحصول على أعلى وأفضل مردود إقتصادي دون التأثير على هذه الموارد، أو بمفهوم آخر التحكم الأمثل في الموارد الطبيعية للمراعي للوصول إلى تجانس في الإنتاج وخدمة للمجتمع على أساس مستدام، ولذلك فإن إدارة المراعي تتعامل مع الإنسان والنبات والتربة والمياه والحيوان من منطلق أن المراعي مورد طبيعي متجدد.

وتهتم إدارة المراعي بمختلف الجوانب والمؤثرات المتعلقة بالمراعي بشكل عام تربة كانت أو مياه أو بيئة أو حيوان.. إلا أننا هنا سنركز على الجانب المتعلق بالمرعى نفسه، أي النباتات الرعوية التي هي الهدف من إدارة المراعي، والتي هي المحصلة النهائية لتفاعل بقية العوامل الأخرى المرتبطة بها من تربة ومياه وبيئه وحيوان وإنسان، والمراعي هي التي من أجل المحافظة عليها واستغلالها بشكل أمثل يتم سن القوانين والتشريعات وتُرسم الاستراتيجيات، وتُتبع المقاربات.

وإذا كان الهدف من وجود المراعي هو مردوديتها الإقتصادية من خلال تربية المواشي بالإعتماد عل هذه المراعي، فإن هناك عدة أنواع من الرعي لسنا هنا بصدد حصرها أو التفصيل فيها، وما يهمنا منها الآن هو النمط المتبع عندنا غير الخاضع لنظم ولا تشريعات محددة، أو هو خاضع لها ولكنه غير مُطبق رغم أنه لا يمر شهر إلا وسمعنا عن ورشة أو ندوة أو ملتقى، أو قانون مقدم للبرلمان حول ما يسمونه مدونة المراعي التي نعتقد أنه تم إنشاؤها أساسا استجابة للمشاكل التي تحصل بين المزارعين والمنمين، أو وسائل حماية المراعي من الحرائق، وليس المحافظة على المراعي وتطويرها وتنظيم استغلالها بالطرق العلمية المتبعة في العديد من البلدان.

نظام الرعي الشائع عندنا هو نظام الرعي المفتوح الذي تجوب فيه المواشي جميع مناطق البلاد حيثما توفر المرعى، وتنقسم مناطقنا الرعية إلى نوعين أساسا هما مناطق الجزء الجنوبي والشرقي من البلاد، وهي مناطق شبه مدارية تحظى بالقدر الأكبر من التساقطات المطرية رغم تفاوتها في الكم والتوزيع من موسم إلى آخر، وتمتاز أعشاب المراعي في هذه المناطق بأنها نباتات حولية ( plantes annuelles  ) وهي النباتات التي تنمو مع بداية موسم سقوط الأمطار ثم تدخل طور التكاثر وتُنتج بذورها وتصفر وتُصبح حشائش أو مراعي جافة في نفس الموسم.

أما النوع الثاني من المناطق الرعوية فهي المراعي الواقعة في المناطق الشمالية من البلاد ذات المناخ الصحراوي الجاف، وهي مناطق يندر فيها تساقط الأمطار حيث تشهد سنوات متتالية من الجفاف لتسجل إحدى السنوات تساقطات مطرية من ضعيفة إلى متوسطة إلى قوية نادرا، وتتميز مراعي هذه المناطق بوجود النباتات ذات الحولين ( plantes bisannuelles ) التي تنبت مع بداية سقوط الأمطار وتواصل النمو طوال العام، لتدخل حولها الثاني بتكوين البذور وإنهاء دورة حياتها في العام الموالي، مع وجود لأنواع من النباتات المعمرة ( plantes vivaces ) التي تعيش لعدة سنوات تبعا لرطوبة التربة، كما تمتاز نباتات هذه المناطق باستساغتها وقيمتها الغذائية العالية، وبحاجتها القليلة للماء، وبالقدرة الكبيرة على التكيف مع الجفاف وذلك لتميزها بخصائص التأقلم مع نقص الماء وترشيده من خلال خفض عمليات النتح ( transpiration )، بالإضافة لوجود مواد شمعية وشعيرات على أسطح هذه النباتات للحد من فقد الماء.

في السنوات التي تشهد خلالها هذه المناطق الصحراوية تساقطات مطرية تنتج عنها مراع طبيعية، تجتاحها قطعان من المواشي قادمة من جنوب وشرق البلاد مشكلة ضغطا شديدا على هذه المراعي في  فترة لا تزال نباتاتها صغيرة لا تتحمل الرعي الجائر، خاصة مع وجود الأعداد الكبيرة من حيوانات الضأن التي تتميز طريقتها في الرعي باقتلاع النباتات الصغيرة من جذورها مما لا تبقى معه الفرصة لإستعادة نمو الأعشاب من جديد، وذلك بخلاف طريقة رعي الإبل مثلا حيث الإبل تأكل جزء من العشبة وتترك جزءها الآخر لتستعيد النمو، وتأكل العشبة وتترك جارتها في المساحة الرعوية.. وليس الخطر في طريقة رعي الضأن باقتلاع الأعشاب من جذورها واستحالة استعادتها لنموها فحسب، بل وتتعاظم خطورة هذا النوع من الرعي الجائر من خلال اقتلاع كل الأعشاب في المرعى وهي صغيرة قبل أن تصل إلى مرحلة تكوين البذور، وبالتالي الانقراض التدريجي لأنواع كثيرة من النباتات الرعوية المستساغة والجيدة، ذلك أن نباتات الموسم القادم ستنبت من بذور نباتات الموسم الماضي التي نثرتها في التربة..

المناطق التي عرفت تساقطات مطرية خلال هذا الموسم في ضواحي آكجوجت ومناطق آكّشار وتازيازت وتيجريت بولايتي إنشيري وداخلت نواذيبو، وفي آمساكّه بولاية آدرار، أنتشرت بها أعداد هائلة من قطعان الضأن المحمولة في الشاحنات من مناطق البلد الأخرى وتركتها قاعا صفصفا، ومن عرفوا هذه المناطق قبل شحن هذه المواشي إليها حيث كانت تكسوها المراعي، يرونها اليوم مساحات جرداء كأن لم تعرف أمطارا ولا مراعي أصلا!

لا أحد يطالب بمنع هذه المواشي من الرعي في هذه المناطق، وإنما بتنظيم عملية الإنتجاع ( la transhumance ) من خلال سن قوانين أو اتخاذ إجراءات بتأخير نقل المواشي بالشاحنات من المناطق الأخرى إلى هذه المناطق في السنوات التي تشهد أمطارا ومراعي إلى أن تنمو مراعيها وتقوى وتمد جذورها، وتصبح قادرة على مقاومة الإقتلاع أو الإجتثاث من ناحية، مع حماية مساحات من هذه المراعي حتى تُنتج وسائل تكاثرها التي هي البذور من ناحية أخرى.

 ولكي نُقرب الفكرة فإن هذه المناطق بحاجة إلى مقاربة كتلك المتبعة في قطاع الصيد البحري، أي مقاربة " الراحة البيولوجية " التي تقتطع شهرين من كل سنة دون صيد للسماح للأسماك بالتكاثر وأخذ الحجم المناسب.. لأنه بدون ذلك ستنقرض الأنواع الجيدة من الأسماك، ونفس الشيء في حالة الاستمرار في ممارسة هذا النوع من الرعي والإنتجاع في هذه المناطق الصحراوية قليلة المياه، شحيحة الأمطار، قليلة الغطاء النباتي فإن تسارع تدهورها وزيادة تصحرها، وانقراض الأنواع الجيدة والغنية من نباتاتها، وتناقص واختفاء ثروتها الحيوانية أمر محتوم، وإذا كانت الحرائق تسبب خسائر كبيرة للمراعي في المنطاق الجنوبية والشرقية من البلاد وتُتخذ الإجراءات سنويا للحد منها، فإن الرعي الجائر يسبب نفس الخسائر في المناطق الشمالية ذات الخصائص الأكثر هشاشة وتصحرا.

 

15. ديسمبر 2019 - 13:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا