سفارة الأرز في إفريقيا الغربية (12) / محمدٌ ولد إشدو

بكائية في تأبين فارسي المهجر سعيد فخري وأحمد مخدر

الفصل الثالث: من شاهد على القهر إلى شاهد على النصر!

ختامه مسك!

وهذه لمحات من حصيلة بذركما الزاهر وحصاد أدمغة وسواعد الشعب الموريتاني البطل..

فموريتانيا التي أتى عليها حين من الدهر (أزمن الانحطاط والقهر) لم تكن شيئا مذكورا! والتي شاء الله بعد استقلالها وشموخ دولتها وانعتاق شعبها في صدر السبعينات، أن تكبو فجر العاشر يوليو تحت سنابك فلول عسكرية مهزومة تأتمر بأوامر اليمين، وانهارت لدرجة أن أصبح أمرها بيد السفارات الغربية، وحماها مستباحا، ووحدتها الوطنية على كف عفريت، تجتاحها عواصف التصفية العرقية والتهجير، واعترفت بالعدو الصهيوني وفتحت أبواب الوطن أمامه على مصاريعها، وجعلت نهب المال العام والكذب والنفاق والخيانة قيما! ها هي ذي اليوم تنهض من مَنِيّتها وتنتزع استقلالها وحرية قرارها السياسي، وتحمي حوزتها الترابية، وتؤسس حالة مدنية نظيفة، وتبني جيشا وطنيا جمهوريا قويا، وتطرد إسرائيل صاغرة مدحورة، وتبني اقتصادا وطنيا واعدا، وترسي أسس ديمقراطية نموذجية في المنطقة، وتضع حدا لهدر وإهانة وإهمال الشعب، وتأخذ بأسباب العزة والكرامة، وتمسك ناصية العلم والمعرفة، وتبوئ الدين الإسلامي واللغة العربية واللغات الوطنية المكانة اللائقة، وتمهد لإعادة التأسيس والبناء وتحقيق رفاهية الشعب والوطن. وذلك عن طريق المحاور الكبرى التالية:

* تحقيق المصالحة الوطنية وجمع الشمل عن طريق الاعتذار باسم الأمة الموريتانية لذوي الضحايا، وإقامة صلاة الغائب على أرواحهم الطاهرة، وتعويض ذويهم تعويضا مقبولا، وإعادة المسفرين مكرمين إلى أرض الوطن.

 * تجريم العبودية، وإقامة آليات ومؤسسات معتبرة تسهر على محاربة آثارها، وتعمل على دمج وترقية الفئات الهشة، ومكافحة التهميش والإقصاء.

* محاربة الفساد والمفسدين، واتخاذ سياسات وإجراءات ناجعة من شأنها العمل على صيانة وترشيد موارد ومقدرات البلاد.

* بناء وتوطيد ديمقراطية حقيقية نموذجية في إفريقيا والعالم العربي؛ أطلقت الحريات، وأقامت مؤسسات جمهورية تحمي الدولة وتضمن فصل السلطات والرقابة الدائمة.  

* تشييد البنى التحتية من طرق ومطارات وموانئ ومدن ومؤسسات عمرانية ومصانع وشبكات كهرباء وماء وجامعات ومعاهد ومدارس عليا وقنوات ري ومشاريع زراعية وحيوانية كبرى.. إلخ.

* القضاء على أحياء الصفيح البائسة، واستصلاح الأرض وإعمارها، وتقسيمها مجانا على الضعفاء والمهمشين!

وفي هذه اللحظة التي نصل فيها إلى خاتمة هذا التأبين المستحق؛ والتي تعرف فيها معظم البلاد العربية والإفريقية أوضاعا مزرية، فإن موريتانيا تعيش - بحمد الله- في جو من الأمن والوحدة، وتقيم عرسا وطنيا مشهودا يتم فيه تداول سلس للسلطة بين رئيسين منتخبين، انتهت للتو مأمورية أحدهما وبدأت مأمورية الآخر. ويرسي دستورها الحالي ثلاث قواعد لنظام الحكم هي:

  1. أن الشعب هو مصدر السلطة. وتُكتسب السلطة السياسية وتمارس وتنقل في إطار التداول السلمي وفقا لأحكام الدستور. وتعتبر الانقلابات وغيرها من أشكال تغيير السلطة المنافي للدستور جرائم لا تقبل التقادم، يعاقب القانون القائمين بها والمتمالئين معهم؛ سواء أكانوا أشخاصا طبيعيين أم اعتباريين.
  2. تحدد مأمورية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. ولا تقل سن المترشح للرئاسة عن أربعين سنة ولا تزيد عن خمس وسبعين سنة. ويمنع منعا باتا - بقوة الدستور- تعديل هذه الترتيبات.
  3. الاعتراف العلني بالتنوع الثقافي للشعب الموريتاني؛ والذي هو أساس وحدته الوطنية ولحمته الاجتماعية، وبما ينجم عن ذلك التنوع من حق في الاختلاف. وعلى هذا الأساس، فإن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد. وتشكل كل من اللغات الوطنية الأخرى (البولارية والسوننكية والولفية) موروثا وطنيا مشتركا لجميع الموريتانيين، يجب على الدولة باسم الجميع أن تحفظه وتطوره.

فأين هذا إذن مما كانت عليه أوضاع البلاد من تَرَدٍّ وتخلف وانحطاط وظلم وفساد ويأس خلال العقود الماضية؟

وتتويجا لهذه الإصلاحات والتحولات الكبرى في شتى المجالات، جرى تنظيم مهرجان نقل السلطة - آنف الذكر- من الرئيس المنتهية ولايته إلى الرئيس المنتخب، بحضور دولي وشعبي مهيب، نرصد نموذجين اثنين من وقائعه، يبرهنان - بصورة لا لبس فيها- على نجاح مسيرة موريتانيا وبلوغها بر الأمان والمرام؛ وهما:

النموذج الأول: إلقاء الرئيسين المنتهية ولايته والمنتخب خطابي التسليم والاستلام بلسان عربي مبين؛ وهو تقليد أصبح يجري به العمل من طرف كافة المسؤولين الموريتانيين في جميع المناسبات الوطنية والدولية في الداخل والخارج؛ خلافا لما كانت عليه الأحوال من قبل!   

النموذج الثاني: أن رئيس المجلس الدستوري، معالي الوزير جلو مامادو باتيا، أستاذ القانون الدستوري وخريج الجامعات الفرنسية، ألقي بدوره بعض خطابه القيم في تلك المناسبة  باللغة العربية الفصحى، لأنها لغة وطنه الرسمية، ولغة دينه الإسلام، ولغة أغلبية شعبه!

ومن بين من حضروا هذا اليوم المهيب لفيف من خيرة الصحفيين العرب، أغلبهم من الشام، من بينهم الصحفي اللبناني اللامع سامي كليب، والصحفي الفلسطيني المخضرم القدير عبد الباري عطوان؛ اللذان أدليا بشهادة قدرنا اختيارها ختامَ مسكِ هذه المرحلة الباهرة من مسيرة الوطن، ولتكون كذلك ختام مسك هذا التأبين:

يقول الدكتور سامي كليب: "لم يكن المشهد الذي قدمته موريتانيا للعالم أمس مألوفا في الوطن العربي، رئيسان جالسان على المنصة نفسها، أولهما محمد ولد عبد العزيز المنتهية ولايته بعد عشر سنوات ضبط فيها الأمن، وقاتل الإرهاب، وطرد السفير الإسرائيلي، وأحدث بداية نهضة اقتصادية واجتماعية جيدة، وحافظ على استقلالية لافتة. والثاني الرئيس المنتخب محمد ولد الغزواني الذي بادر شعبه بخطاب التنصيب قائلا إنه سيكون رئيسا لكل الموريتانيين؛ شاكرا من انتخبه، وشاكرا أيضا من اختار المعارضة التي اعتبرها ضرورية ليستوي الوطن دون تفرقة ولا عنصرية، ومشددا على رفض أي إملاءات" (سامي كليب: الغزواني.. الصوفي الحازم والوسطي رئيسا لموريتانيا).

     ويقول الأستاذ عبد الباري عطوان في تغريدة على حسابه: "شاهدت للتو ظاهرة حضارية ديمقراطية غير مسبوقة في موريتانيا.. رئيس منتخب سلم السلطة بطريقة دستورية لآخر منتخب، ويتعانقان بحرارة وهما في قمة اللياقة والحكمة، ودون طعن خناجر مسمومة في الظهر.. شكرا لموريتانيا وشعبها العظيم.. لم أسيطر على دموع الفرح وأنا أعانقهما إعجابا بهذه المفخرة".

     وأنا كذلك كنت في الصورة ولم أستطع أن أسيطر على دموع الفرح ونشوة النصر والاعتزاز والفخر، وأول ما خامرني أن أهدي هذا المشهد الحضاري إلى روحي الرئيس المدير العام سعيد فخري، والأستاذ المحامي أحمد مخدر، وإلى أرواح جيل الستينيات، والأجيال اللاحقة التي سارت على خطاه، وضحت كما ضحيا وضحى دون أخذ أي مقابل، من أجل حلم موريتانيا حرة ديمقراطية، لغتها العربية، ويتمتع شعبها بما حققه اليوم من حرية وأمن وسلام وازدهار. ولهما ولجميع الجنود المجهولين الذين ساهموا من قريب أو بعيد في هذه الملحمة الوطنية التي كشفتُ بعض أوراقها من خلال هذا التأبين، أن يطيبوا أنفسا ويقروا أعينا، ويتمثلوا بهذين البيتين من قصيدة "بالأحضان":

     ما ضاع سعيي لحظة فبفضله ** قد عُرَّبت وتحررت موريتاني

     عمر عجيب كم خبرت خلاله ** ألم الجحود ولوعة الحــــرمان!

انتهى

 

16. ديسمبر 2019 - 20:04

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا