إحياء ذكري أب الدبلوماسية الموريتانية / محمود ولد ازوين

كان خطاب السيد الرئيس في قمة داكار، روعة في المضمون و في الشكل، و كذالك في التقديم، بلسان فصيح بدون  مضغ ولا لدغ في الحروف، كما تميز هذا الخطاب بجرأة في الطرح أيضا حين و ضع مناظرة بين نجاع الاستراتجيات الأمريكية و الفرنسية في محاربة الإرهاب في الساحل، و صرح بتفضيله للأولي علي الثانية، و كان أكثر جرأة حين تطرق إلي ضرورة إعادة هيكلة قوة الأمم المتحدة. ولا يقل روعة و ضرب في الصميم، خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. فالدبلوماسية الموريتانية بدأت رويدا رويدا تأخذ شكلها وتتجسد.

وإحياء سُنة بناء السفارات الموريتانية، من خلال وضع الحجر الأساسي لمقر البعثة الدبلوماسية في نيامي، عاصمة النيجر، يبعث للاطمئنان علي تمدد هيبة الدولة و مضيها قدما في حماية مواطنها، ونرفع قبعتنا للسيد الرئيس إجلالا و تبجيلا، فكان هناك من يسعي لبيع سفارات، شيدت منذ عقود لتشهد بحضور موريتانيا في العالم، مقابل مبلغ زهيد لا يسمن الدولة و لا يغنيها من جوع، و وجد من يبرر له ذالك تحت  قبعة البرلمان، فمن بيع مبني سفارة موريتانية، فهو يبيع جزء من التراب الوطني الذي يفترض دستوريا، أن يحميه، و لا يستبعد أن يبيع جزءا من الحوزة الترابية إذا  وجد من يدفع له الثمن، فالرجل لا يفقه من مسؤولياته إلا اسمها. فنهج السيد الرئيس، محمد ولد الشيخ الغزواني، يذكر بزمن مضي علي موريتانيا، حين كان لها رأي يعلل في المحافل الدولية، له صداه في جميع أصقاع المعمورة، و يجلب الضيوف الكرام من كل صوب و حدب، إلي ارض شنقيط الرملية التي جعل منها، رجال مؤمنون، قبلة و قطعة من تراث البشرية.

و لا يفوتني أن استحضر هنا رجل يعد مهندس هذه الحقبة من تاريخ الدبلوماسية الموريتانية، التقيت به لأول مرة، من باب الصدفة، في مطار باريس، سنة 1993، انه السيد حمدي ولد مكناس، و في ذكرى وفاته العشرين، نطلب له من الله رحمة واسعة و إدخاله فسيح جنانه مع الصديقين و الأولياء و  الصالحين.

لمعت الرجل، فترجلت إليه، و أخذت أدفع بالعربة التي تحمل أمتعته اتجاه مكتب التسجيل، و أنا أتبادل معه التحيات، و بعد اكتمال الإجراءات، وضع حقيبة كانت بيده علي الطاولة و سحب منها مفكرة    (calepin) وقلم، ثم طلب مني، بكل أدب و تواضع، إن اكتب له أسمي الكامل و رقم التلفون. فلم يكون لي إلا أن عرفته علي نفسي، فأغلق الحقيبة و أمرني، بنبرة، أن احملها قائلا أن ما فعلته ليس شيئا يذكر في حق الوالدين (ذ كاع ما هو شي اف حق الوالدين، ارفد، يعني الفاليزه)،ثم توجهنا معا صوب قاعة الانتظار و كان يسألني عن مساري و سبب حضوري في باريس و أشياء أخري، فأجبه وأتمعن، فالرجل ابهرني بحداثته و حديثه، تناسقا و جودة تركيب، في لغة فرنسية طليقة، مع تعلقه الشديد باحترام العادات والتقاليد.

و في سنة 1996، رافقت المدير العام للخطوط الجوية الموريتانية، في زيارة عمل للإمارات العربية المتحدة، و بضبط في إمارة الشارقة، حيث كان في استقبالنا الشخصية البارزة، السيد عبد الرحمن الجروان، الذي أصبح، فيما بلغني من خبره، رئيس جائزة الدكتور الأمير محمد بن سلطان، للأعمال الإدارية، و مستشاره الدبلوماسي. و خلال تبادل أطراف الحديث، قال أنني اذكره، بصديقه الموريتاني حمدي ولد مكناس، فسألته أنا عن طبيعة علاقاتهما،

ورد علي انه بعد استقلال الإمارات، أطلقت الدولة الجديدة نداءا للأطر، للمشاركة في عملية البناء، و انه كان آنذاك طالبا في لندن، فعاد إلي البلد و عين وكيلا لوزارة الخارجية، في حين كانت الدولة تسعي إلي الاعتراف و العضوية في المنظمات الدولية، لكنه لم تكون لديه خبرة تذكر فيما كُلف به.و في احدي مناسبات انعقاد مؤتمر المنظمة الإسلامية، كُلِفَ وزير خارجية الإمارات بالتوجه إلي ذالك المؤتمر لفعل ما يُلْزِمُ للانضمام، إلا انه في اللحظة الأخيرة طرأت عليه مهمة ملحة في نيويورك، تتعلق بالأمم المتحدة، فكان السيد عبد الرحمن الجروان، بحكم موقعه، مكلفا بالتوجه إلي القمة الإسلامية وكانت أول خرج له في المحافل الدولية.حطّ الرحال، هو و الوفد المرافق له، حجزوا الفندق و كانوا في انتظار انطلاق المؤتمر ليروا ما هم فاعلون. و بينما هو في غرفته، دق عليه احد، ففتح الباب، و إذا برجل  يقول له، بعد السلام : " أنا السيد حمدي ولد مكناس، وزير خارجية موريتانيا، سمعت أن هنا وفد من دولة الإمارات العربية المتحدة، قدم لطلب الانضمام إلي المنظمة، و جئت لأضع تحت تصرفكم ما ليدينا من خبرة و علاقات لتحقيق ما انتم جئتم من اجله". فرتب هذا الرجل كل شيء، من لقاءات و اتصالات مع الوفود المشاركة، و فحوي الخطاب و بقي مع لجنة تحرير المحضر في غرفتها، حتى صياغة قرار الانضمام. فكان السيد حمدي ولد مكناس، حقيقة و حكما، يقول السيد الجروان، هو وزير شؤون خارجية الإمارات خلال أيام المؤتمر و يرجع له الفضل في كل ما تحقق،فكان ما كان لهذا التصرف من رجل الغيث، رجل العناية الإلهية، من توفيق  فيما جنته موريتانيا من إعجاب و احترام  في القلوب الإماراتية، و الخليجية بصفة عامة، كما قَلِبَ بفعله هذا، في طرفة عينٍ، رأسا علي عقب، كل ما زُرِعَ، سِنينَ عديدة، من تَفيهٍ للكيان الموريتاني و تشويهِ صورتهِ في أذهانهم و أذهان العرب إبان الاستقلال.فنجم الرجل سطع علياء في كل سماء، عربيا و إفريقيا، و حتى عالميا، و المَقامُ في عهده، الذي حظيت به موريتانيا في محافل الأمم، برهان علي نجاع دبلوماسيته.فالمرحوم كان وعاء رجل دولة بكل المعاير، كان شامخا ببنيته القوية، رزينا بأخلاقه الراسخة، صارما بأفعاله و أقواله ، قنوعا بحاله و متعففا عن المال، لا يقبل هدية، حسب من خبروه، خشية شبهة الرشوة أو شراء الذمة، و لا أدل علي ذالك التعفف، من دفعه شيكا في الخزينة، بقمة عشرة ملايين دولار بعد الانقلاب.

فأبو العاص ابن الربيع، رضي الله عنه، رفض مقايضة إسلامه مقابل تمليك أموال تجار قريش التي احتجزت عنده في الأسر، خوف رميه بالخيانة، فسير العير إلي مكة و كان أكثر من 160 جملا و حمولتها، وبعد إعطاء كل ذي حق حقه، أعلن علي رؤوس الأشهاد، في سوق مكة إسلامه و يمم وجهه شطر مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم.

و بعد الانقلاب أيضا، كان رجلا شجاعا حين عاد من الخرطوم و أصحابه يرمون في السجون ، وذالك دليل آخر علي أن هذا الرجل كان شهما و نظيفا، ناصعا لا يخشي ما يخدش شرفه، مقبلا علي السجن باسم التضامن في السراء والضراء مع زملائه، مدبرا قصور المغرب و الخليج، و فلآهات ابد جان، ليبر فيل و داكار، أو فنادق باريس.

و بعد الانقلاب أيضا، كان الطَّائر النادر الذي يصطاده جميع الزعماء، أفارقة و عرب، و كانت علاقاته بهم تطبعها الصداقة أكثر من الاستشارة، و السر في ذالك انه يضع دائما مُحاوِرَهُ في أقصي درجات الطمأنينة، حتى يكاد يتخيلها أُلْفَةً. و هنا، استشهد بكلام العلامة حمدا ولد التاه، حفظه الله، الذي قال في مقابلة تلفزيونيه، أن المرحوم حمدي ولد مكناس، الذي عمل معه، كان حريصا، علي تحضير ورقة تعريفية للدولة التي ينوي زيارتها، فمعرفة العادات و الطبخ و المعالم و المحطات التاريخية، معينة علي تمييل القلوب.

و يضاف إلي بُعْدِ الخبير المتمرس، الْبُعْدُ الإنساني والأخلاقي للرجل، فجعل منه هذا وذاك، صديقا لكل من يلقاه،  فمثلا عمار بونقو، هوفوت ابوانيي، معمر القذافي، الشيخ زايد و آخرون كثر، كانوا يرون فيه قيمة إضافية في جهودهم الدبلوماسية و مرجعية للدفع بملفاتهم إلي الأمام، و أصابوا فيما ذهبوا إليه، فهو مهندس التقارب و التنسيق العربي- الإفريقي في كثير من القضايا، و كانت له مداخله الشخصية في أروقة القرار، و له علاقات وطيدة في عالم السياسة و السلطة الرابعة، و لهذا كله، كان الفاتح المغوار في الاتجاهين، مهاب و مسموع الرأي.

ففي عهده، اخترعت الدبلوماسية الموريتانية مصطلح "نقطة وصل بين إفريقيا و العالم العربي"، و كانت فكرة عبقرية سوقها المرحوم، بحرفية، في أذهان العالم، حتى أصبحت الدولة الموريتانية، عند العجم، أكثر افريقية (africanité) بين الأفارقة، و أصبحت، عند العرب، بلاد المليون شاعر، و ارض الرباط و المنارة عند العالم الإسلامي، و هنا استشهد، مرة أخري، بالعلامة حمدا ولد التاه الذي قال في نفس المقابلة، انه حول هو، محضر القمة العربية في تونس إلي شعر قرئ في قاعة الاجتماعات، فرحلت تصفيقا منقطع النظير، و كان يوم انتصار الدبلوماسية بالشعر، أظنه الفريد من نوعه في العالم كله. فالمرحوم، من حسن توفيقه، شدّ الله أزره بمثل هذا الرجل الصالح الذي قال في نفس المقابلة "أن العربي ما حسدو"، بل كرمه و أعطي الحدث كل الزخم الذي يليق به داخليا و خارجيا.و بهذا المصطلح، اخترقت صفوف الغرب، شرقا و غربا، و حركات التحرر في جميع أنحاء العالم، فكانوا مناضلي  PAIGC، ANC، FRELIMO و OLP، يحملون جوازات سفر موريتانيا، و زرعت في نفوس هؤلاء المناضلين الذين أصبحوا اليوم زعماء بلدانهم، حب من آواهم في زمن الضيق و المطاردة، فعقيدة أهل المبادئ الثورية هي: "اثنين لا أنساهما، من عانني و من عان علي".و توالت، تتويجا لتلك الجهود الدبلوماسية، الزيارات من عمالقة رجال زمنهم، فحط الرحال بين ظهرانينا، جمال عبد الناصر، هرم القومية العربية، و الملك فيصل ابن عبد العزيز، صاحب الانهيار المالي العالمي أثناء حرب أكتوبر و قاطع النفط عن الغرب، و الرئيس هواري بومدين، صاحب مؤثر عدم الانحياز و فكرة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، و ليوبولد سيدار سنقور، شاعر الزنوجة (la négritude) و فيلسوفها، و الشيخ زايد آل انهيان، والصباح جابر آل الصباح، و الملك الحسن الثاني و اللائحة تطول. وعلي ذكر هذا الأخير، يمكننا القول أن المرحوم حمدي ولد مكناس ألهمه، من خلال اجتماع نظمه في مقر الأمم المتحد لوزراء الدول الإسلامية، للنظر في محرقة القدس في سنة 1969، ألهمه فكرة لجنة القدس و ترأسها، و احتضان القمة التأسيسية لمنظمة المؤتمر الإسلامي في 1972، فمبادرة المرحوم وفكرته في الاجتماع المذكور كان نواة انطلاق تأسيس هذه المنظمة. و في الاتجاه الآخر، أُستقبل الرئيس المختار ولد داداه، بفضل دبلوماسيته، استقبال الأبطال، من طرف تيتو، ثالث مؤسسي حركة عدم الانحياز، و الملك سيهانوك رمز كامبودجيا و موحدها بعد الخمير الحمر، و كيم ايل سونق، رمز الصمود في وجه القوي الامبريالية، و اشوين لآي، قادة مسيرة، و الأمثلة لا يمكن حصرها.لكن موريتانيا، رغم توجهها هذا إلي قوي التقدم و مدها يد المساعدة لحركات التحرر، كانت تحظي بنفس الاحترام و التقدير لدي العالم الغربي، فدبلوماسيتها كانت متزنة و تحسب كل عواقب خطاها في كل اتجاه وعكسه، تماما مثل وزيرها، المرحوم حمدي ولد مكناس، جزاه الله خيرا عن عمل اسند إليه فأتقنه، فرحمة واسعة لنبراس الدبلوماسية الموريتانية.

 انواكشوط، 18 ديسمبر 2019.      

18. ديسمبر 2019 - 14:45

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا